1 نهار كل يوم جمعة ببغداد يمكن ان تري في شارع المتنبي، وهو أكبر وأشهر بورصة للكتاب في العراق، العديد من العناوين الجديدة لكتب دخلت الي العراق حديثاً، وهذا ما يلاحظه بدقة، من يواظب علي الحضور إلي شارع المتنبي لاقتناء الكتب الجديدة او البحث عن مصادر معينة، أو من أجل الفرجة ولقاء الاصدقاء من المثقفين والأدباء. أكثر الكتب المعروضة علي ارصفة شارع المتنبي (الذي ينبثق من خاصرة شارع الرشيد وينتهي ببناية القشلة القديمة، مقر الادارة العثمانية السابق المطل علي نهر دجلة) هي كتب صادرة عن دور نشر عربية، والقليل منها طبع في العراق، وشارع المتنبي الذي كان فيما سبق سوقاً للكتب المستعملة تحول الآن، بسبب الانفتاح علي الاستيراد الي معرض للكتب الحديثة وآخر الاصدارات في المجالات المختلفة. وهذه الصورة هي الاحدث لشارع المتنبي، فقبل سنوات قليلة كانت الكتب المصورة (فوتو كوبي) هي المتسيدة في الشارع، ويضطر من يبحث عن نسخ اصلية من الكتب الحديثة ان يشتريها من العواصم العربية المجاورة، او يوصي من يزور هذه العواصم من اجل شرائها. ولكن الكتب المستنسخة، مع ذلك، ما زالت حاضرة في شارع المتنبي، فهي ارخص من النسخ الاصلية، والكثير من باعة الكتب ما زالوا لا يتحرجون من نسخ أي كتاب، علي الرغم من سابقة رفع دعوي قضائية قامت بها دار المدي قبل سنتين تقريباً علي احد باعة الكتب في شارع المتنبي بسبب قيامه بنسخ رواية عراقية صادرة عن هذه الدار وبيعها في السوق، علي الرغم من ان المدي استحدثت مكتبة لها تطل علي قلب شارع المتنبي، لكن مكتبة المدي تعرض تلك الرواية بسعر اربع دولارات، بينما النسخة المستنسخة لا يتجاوز سعرها الدولار الواحد، وهذا سعر مناسب ومغري للكثير من المثقفين. في المتنبي سنشاهد أغلب اصدارات الدور العربية، حتي تلك البعيدة جغرافياً مثل دور النشر المغربية، ونري هذه الكتب تتجاور مع اصدارات دور نشر اهلية متواضعة، ونسخ عن كتب قديمة كانت قد اصدرتها دور نشر عراقية عريقة اختفت من الساحة الآن. كل الكتب تتجاور مثل فروع صغيرة تصب في نهر هادر اسمه شارع المتنبي يوم الجمعة. 2 علي ارصفة شارع المتنبي، وفي مكتباتها، وفي مكتبة دار الجمل بباب المعظم، التي يديرها من بيروت وكولونيا الناشر والشاعر العراقي خالد المعالي، سنجد عناوين لاصدارات عراقية، كلها طبعت خارج العراق. وفي نموذج دار الجمل ودار المدي صورة عن مفارقات اشهر دور النشر العراقية، فالأولي اخذت الإجازة لعملها في ألمانياوبيروت والثانية اجازتها سورية، وكلا الدارين تخضعان بالضرورة، لقوانين النشر في الدول التي تعمل فيها. وعلي الرغم من الادارة العراقية لهاتين المؤسستين إلا ان الكثير من المثقفين والكتاب في بغداد ينظرون اليهما كما ينظرون الي دور النشر السورية واللبنانية والاردنية والمصرية، بمعني انها دور نشر تقيم وتعمل وتطبع خارج الحدود. والمشكلة في هذا الموضوع ان هاتين الدارين تستقبلان خلال السنة العديد من المخطوطات، من عراقيين وغير عراقيين، لذلك تبدوان كداري نشر عربيتين. أما (داخل الحدود) فأكبر دور النشر العراقية هي دار الشئون الثقافية العامة التابعة لوزارة الثقافة العراقية، وهي، كما هو واضح، دار نشر حكومية، تطبع خلال السنة العشرات من المؤلفات في شتي الاختصاصات، غير ان عملها تشوبه الكثير من الانتقادات والاعتراضات من قبل المثقفين، فهذه الدار مازالت طباعتها غير جيدة وكتبها غير انيقة، كما انها تعاني من مشاكل في التوزيع، فلا تصل كتبها إلي بعض المحافظات العراقية فضلاً عن التنسيق مع موزعين لإيصالها الي العواصم العربية، وقد يضطر بعض الكتاب إلي اعادة طبع مؤلفاتهم في دور نشر عربية، حتي تكون قريبة من يد القارئ العربي. كما ان هناك من الكتاب من لديه موقف حاد تجاه هذه الدار الحكومية بسبب رفض لجنة النشر فيها لمؤلفات البعض منهم، بدعوي خدشها للحياء العام، ويرغب بعض المثقفين ان ينظروا إلي القضية ضمن منظار عام يتداخل فيه السياسي مع الثقافي، فدار الشؤون الثقافية العامة كانت، كما هو معروف، الذراع الثقافية الضاربة لنظام صدام، وكانت مسؤولة عن الترويج لخط ثقافي يتناسب مع خطاب السلطة الحاكمة آنذاك، وهي الآن تمارس ذات الدور علي حد رأي بعض المثقفين. ولكن خدمة لنظام جديد يسيطر عليه خط ايديولوجي معين. ورغم هذه الصورة التي لا تخلو من نفس احترابي، إلا ان دار الشؤون الثقافية، في زمن نظام صدام او في زمننا الحالي، ظلت مسؤولة عن رفد سوق الكتاب العراقي بالعديد من المؤلفات، وخاصة في مجال الترجمات عن الاداب والثقافة العالميين، وكذلك اصدار العديد من المؤلفات لكتاب عراقيين، وسلاسل خاصة بمختلف الفنون والابداعات، وهذه حقيقة لا يمكن دحضها بسهولة. وتبقي أبرز العوائق التي لا تشجع المؤلف والمبدع العراقي علي دفع مخطوطته الي دار الشؤون الثقافية هي قضية التوزيع وأناقة المطبوع. 3 الشيء الذي يكاد يجمع عليه العديد من المثقفين العراقيين انه لا توجد صناعة كتاب حقيقية في العراق، ليس الآن، وانما الأمر يمتد الي العقود الاولي من القرن العشرين، فتري ابرز الاسماء في الثقافة العراقية صدّرت نفسها الي العالم العربي (وإلي العراق!) من خلال دور نشر عربية، لبنانية بالذات او مصرية، كما هو حال السياب والبياتي وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي والكثير من الاسماء اللامعة في سماء الثقافة العراقية. يخرج الأديب والمثقف بمشروعه الي العواصم العربية، لأعادة توضيبه ضمن ماكنة الصناعة الثقافية ثم يعود الي بلده محمولاً علي اكتاف مطبوعات دور النشر العربية الشهيرة. وهذه الصورة بلغت قمة التضاد الحاد في عقد التسعينيات من القرن الماضي الذي كانت تخيم عليه اجواء العقوبات الاقتصادية الدولية، فكانت العديد من المؤلفات لمثقفين عراقيين، بعضهم معارض للنظام القائم آنذاك، تدخل كنسخ محدودة الي العراق ثم يعاد استنساخها بالفوتو كوبي لعشرات أو مئات النسخ وتنتشر بسرعة في كل مكان. ويبدو ان زمام المبادرة في الصناعة الثقافية، وبالذات صناعة الكتاب العراقي مازالت خارج الحدود. فاذا أجرينا استطلاعاً حول ابرز عشر مؤلفات عراقية صدرت خلال الاعوام القليلة الماضية فسنري انها كلها صدرت عن دور نشر عربية. وتبرز المفارقة بحدة أكثر حين نشاهد طبعات انيقة لمؤلفات عراقية كلاسيكية شهيرة، مثل مؤلفات عالم الاجتماع العراقي الكبير الدكتور علي الوردي أو كتاب حنا بطاطو عن تاريخ العراق او كتاب أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث لستيفن همسلي لونكريك وغيرها من المؤلفات التي لا تستغني مكتبة اي مثقف عراقي عنها، نجد هذه المؤلفات الانيقة صادرة عن مطابع إيرانية، ويجري هذا الامر، في اغلب الاحيان، ضمن اطار القرصنة، حيث لا حقوق لورثة المؤلف ولا عناية بالقوانين المنظمة لعمل النشر، ويكون الهدف الاساسي هو الربح، وعادة ما يشرف علي عمليات القرصنة الشائعة الان شخصيات عراقية مقيمة في ايران، وبعضهم يعمد الي التجاوز علي المؤلف فيحذف فقرات او اسطر لا تعجبه او لا تتماشي مع قناعاته الفكرية، وهذا الامر دفع العديد من المثقفين الي البحث عن النسخ القديمة من ذات الكتب، حتي وان كانت مصورة بالفوتو كوبي، ضماناً لعدم التلاعب بالكتاب. وكان مثقفون عراقيون قد طالبوا أكثر من مرة الجهات الحكومية بالتصدي لهذه الظاهرة دون جدوي، كما طالب البعض منهم بأن تتحرك المطابع الحكومية لأعادة طباعة المؤلفات الكلاسيكية، وكذلك اعادة طباعة المؤلفات العراقية التي صدرت خلال العشرين سنة الماضية في المهاجر العراقية، وفي العواصم العربية، وخاصة تلك التي لا تتوفر نسخ منها في سوق الكتاب العراقي بالنسبة للمهتمين والباحثين، ولكن الجهات الحكومية لا يصلها النداء او انها لا تسمع هذا النوع من النداء. 4 مع تداعي دور النشر الاهلية الشهيرة خلال عقد التسعينيات مثل دار النهضة والتحرير، لم يكن هناك من طريقة سهلة وغير مكلفة للعديد من المبدعين والكتاب في ذلك الوقت غير (الفوتوكوبي) فكانوا يصممون الكتب ويطبعونها في مكاتب الاستنساخ، وبطريقة فقيرة وبحروف شاحبة، ولا يطبعون منها في العادة اكثر من مئة نسخة يتم تداولها باليد بين حلقة محدودة من المثقفين، وهذه الطريقة، رغم انتفاء الاجواء المصاحبة لها الآن ، لم تختف في واقع الحال، ولكنها تطورت، حيث صارت الاغلفة تسحب علي الطابعة الملونة ويتم تغليفها بورق شفاف مضاد للرطوبة، ومازال بعض الكتاب يفضل هذه الطريقة السهلة والسريعة لطبع ألف او الفي نسخة من كتابه ويقوم هو شخصياً بتوزيعه، غير ان هذه الطريقة لم تعد تحضي بشعبية كبيرة، مع حقيقة ان الاتصال بدور النشر العربية اصبح متيسراً، علي الرغم من التكاليف الباهظة التي تفرضها بعض دور النشر العربية علي المؤلف العراقي لقاء طباعة كتابه. كما ان هناك امكانية حاضرة دائماً لطباعة كتاب ما في المطابع الاهلية العديدة في بغداد والتي تختص غالباً بالطباعة التجارية، ولكننا هنا ايضاً، نقف امام اعتراض كتاب كثيرين علي هذا الامر، فهم يفكرون بالجوانب المعنوية المصاحبة لاصدار كتاب عن دار نشر نظامية، كما انهم يفكرون بالتوزيع والانتشار وأناقة المطبوع وجملة من الحقوق المصاحبة لطباعة اي كتاب (شرعي). 5 لا يبدو المثقف والكاتب العراقي الآن في أزمة بما يتعلق باصدار كتبه. هناك من يتوجه بمخطوطة كتابه الي دار المدي او دار الجمل او دار الشئون الثقافية العامة، غير انه لا يملك، عراقياً، بدائل اخري عن هذه الدور الثلاث، ويخضع، في واقع الحال، لاشتراطاتها الخاصة. كما ان هناك من الكتاب العراقيين من ادام علاقة قوية منذ منتصف التسعينيات مع دور نشر عربية معروفة، تلتزم بطباعة مؤلفاته وينشغل هو بالتأليف، غير ان الكثير من هذه التجارب لا يكون الربح والمردود المادي حاضراً فيها، اي ان المؤلف لا يتلقي اجوراً علي جهده الابداعي. والصورة اجمالاً تعطي تصوراً عن تشرذم واقع النشر وصناعة الكتاب في العراق، خصوصاً مع غياب القوانين الناظمة لحقوق المؤلف، والتي تمنع من الاستيلاء علي جهده الفكري والابداعي. وتنظم عملية النشر. كما يمكن التأكيد علي غياب اي سياسة لأدارة سوق الكتاب او تعزيز حضوره، فلا اموال مخصصة، علي سبيل المثال، في الموازنة العامة للدولة، خلال السنوات السبع الماضية، لتطوير المكتبات، او لأنشاء مكتبات حديثة او شركات توزيع، ولا يكاد الكتاب الحديث يحظي بأي دعم او مساندة من اي فعالية حكومية. وليس هناك حرص علي خزانة المؤلفات العراقية القيمة، التي اختفت الكثير من عناوينها من سوق الكتاب العراقي. وهناك من يفضل النظر الي هذا الموضوع ضمن اطار حاجة الدولة الجديدة، فهي، علي حد رأي البعض، لا تحتاج الي كتب تتحدث عن الحداثة والمدنية والمعاصرة والعلمانية، خصوصاً وان سوق الكتاب انفتحت بشكل كبير، خلال الاعوام السبع الماضية، علي المؤلفات الدينية، والتاريخية منها بالتحديد، حيث تنتشر الكتب الدينية في اكشاك بيع الصحف في المناطق الشعبية، وحول المراقد الدينية، وفي قلب شارع المتنبي ايضاً، وهي كلها باسعار رخيصة مدعومة من قبل جهات ترغب بالترويج لهذه الكتب. كما ان نشاط القطاع الخاص في مجال النشر ما زال في بداياته، فالكتاب، في نهاية المطاف صناعة وبضاعة، وإذا لم تدخل في دورة انتاج واستهلاك متكاملة، فلن تكون هناك مغريات كبيرة لرؤوس الاموال للاستثمار في مجال الطباعة والنشر. وهذا الامر يتعلق، في النهاية، بحاجة السوق ومدي قوته الاستهلاكية ونوعية الكتب التي يفضلها.