لم يقتصر الامر على استهداف المتنبي، بل ان التخريب المبرمج يطول الثقافة والإبداع والحضارة ، نتذكر ان عنوان كتاب غزو العراق بدأ منذ ساعاته الاولى باستهداف المتاحف والاثار والمكتبات العامة، وعندما يصل التخريب والتدمير الى اماكن الثقافة فإن ذلك يشير الى استمرار البرنامج ، وان اخذ بالتشعب والتوزع على اكثر من منبع وجهة ومكان ،النيران تلتهم الكتب في شارع الكتب ،ويتطاير زجاج نوافذ المكتبات وتتحطم مكائن الطباعة ،ويموت بائع الكتب الصغير الذي يفرش كتبه على الرصيف. حول اقزام المجتمع شارع المتنبي الى ساحة لفرض ما يريدون، وزجوا انفسهم في عالم الفكر والثقافة، وهم لا يفقهون شيئا ،ودمروا صورة الشارع الذي يكتنز بذكريات جميع مبدعي العراق ،وعمالقة الفكر العراقي ،مروا في هذا الشارع وعاشوا أجمل ساعات حياتهم ،ينبشون اكوام الكتب القديمة بأكوامها على الارصفة،يتأملون العناوين، هذا يظفر بصيد ثمين وهو كتاب نادر او مخطوطة تغني قراءاته او تضيف المزيد الى بحوثه ودراساته،وتمر الايام ولا يتردد المثقفون والقراء وجمهرة واسعة من عشاق الكتاب عن زيارة شارع المتنبي ،والتجوال في شارع الرشيد ، وتامل العمارة القديمة في الحيدرخانه،مرورا بديوان الحكومة القديم،وان اراد فنهر دجلة على مقربة منه ،والخطوات على جسر الشهداء ما اجملها حيث الوصول الى الكرخ ،ومن يرغب بالتمشي في الشواكة القديمة ،يدلف بسهولة ويستنشق رائحة بغداد. في جميع العهود والعصور يجد المرء ما يحتاج في هذا الشارع ،لم يغيب عنه اليساريون ،في احلك الظروف ،ويتواجد الاسلاميون ،وتتناثر الكتب على الأرصفة وبامكان الجميع الغرف من المعرفة ما يرغبون،قد يمنع هذا النظام او تلك السلطة ما تختلف معه من فكر ومؤلفات ، لكن لم نشهد مرحلة يمنع فيها طيف او مجموعة من دخول شارع المتنبي ، ورغم جميع الاجراءات والتشدد ،فان دهاليز المتنبي وازقته الخلفية ظلت مخابيء لجميع الكتب الممنوعة ،فقد كنا نحصل على ما نريد من كتب لم تصل من الاسواق العربية والاجنبية،ولنا اصدقاء الكتب الذين يتحايلون على الاجهزة الرقابية ويدسون هذا الكتاب او ذاك بايدينا ،مرة يخفوه بغلاف اخر وثانية يغلفوه بجريدة وهكذا. يختلف المثقفون بنقاشاتهم وافكارهم حد الصرخ او اكثر من ذلك ،لكن لم يحصل ان عمل طرف على حرمان الاطراف الاخرى من التجوال والتسوق المعرفي،كما يحصل اليوم للاسف الشديد في شارع المتنبي ،الذي نقل له مرضى السياسة الطائفية والعرقية امراضهم الذاتية ،وعمدوا الى حرمان الابداع من التجوال بحرية في شارع الثقافة والمعرفة. لقد كان عنوان الاحتلال منذ ساعاته الاولى هو استهداف الثقافة والحضارة العراقية ، وعندما اكتشف اعداء العراق ان العراقيين قد سارعوا لتجميع ما حاولوا تدميره ،لجا هؤلاء الى ادواتهم الرخيصة ،فذهبو ا الى المنبع الثقافي وعمدوا الى الاقصاء والحرمان وتحويل سوق المعرفة الى منطقة قتل للثقافة والابداع ، لكن سيعود المتنبي كما ظل الشاعر خالدا وتزول هذه القشور، تلاحقها ومن عمل على زرعها لعنات المبدع العراقي.