تلتفتُ «فتاة خمسينية» إلىّ منزعجة، وقد ظنّت أنها أمام شخص مجنون أو شروع فى معاكسة! أبتسم فتبتعد مسرعة، بينما أقول: «والله ما بعاكس يا بنتي»! متحف بروح الحضارة الجمعة: لدى البشر العاديين يعتبر هذا اليوم عطلة، ويُعد وقتا مُستقطعا للراحة من إجهاد أسبوع كامل، لكن الأمر مختلفٌ مع كائنات عالم الصحافة، وتحديدا فى المناسبات ذات الطبيعة الخاصة. المكالمات مستمرة والرسائل لا تنقطع. معظمها تدور حول محور وحيد: إنه المتحف المصرى الكبير. أعتقد أنه بؤرة اهتمام كل من يدورون فى فلك الإعلام، فالجميع يستعدون لإعداد ملفات وبرامج عنه، قليلون يفعلون ذلك بحُكم ضرورات تفرضها طبيعة العمل، وكثيرون من منطلق شغفهم بالآثار والتاريخ. يجمع الفئتين معا عاملٌ مشتركٌ واحد، هو حس وطنى يرفع معدلات اهتمامهم بهذا الإنجاز القومى. لا تجذبنى المبانى العصرية عادة، لكن تصميم المتحف المستمد من روح الحضارة يُدهشنى، رغم أنف قلائل يحاولون إضفاء صبغة المؤامرة عليه، مع أنه لم يظهر من العدم فجأة، بل تم الكشف عنه منذ سنوات طويلة. عموما لا أرغب فى تضييع الوقت بالحديث عن منشورات تكره أى إنجاز. المتاحف دائما مستودعات للأسرار، و«الكبير» ملىء بها بفضل عدد مقتنياته الهائل، وسيناريو عرضٍ يفتح بوابات الخيال على مصراعيها. الأثر فيه هو البطل، قد يُنصف التاريخ الملوك ويفرض حكاياتهم، لكن المهمشين حاضرون بقوة، فهناك قطع تركها بشرٌ مجهولون، تصطف بجوار آثار الحكام والنبلاء والكهنة، وتحمل حكايات معلومة عن نساء ورجال وأطفال، وأخرى تظل مجهولة تتيح لمن يريد الإبحار فى الخيال أن يبدع. جيلٌ مولعٌ بالتاريخ العد التنازلى لتوقيت الافتتاح يتصاعد! تحمل العبارة مفارقة تليق بالحدث، فمع تناقص الوقت يتزايد الترقب، غالبا هذا ما حدث قبل أكثر من قرن، عند افتتاح المتحف المصرى بالتحرير عام 1902. المختلف هذه المرة أن الشعور بالإثارة لا يقتصر على المتخصصين والنُخبة، بل يمتد إلى مواطنين عاديين، استشعروا أهمية الحدث مع تمدد سطوة الإعلام، بالإضافة إلى حالة شغف متزايدة بالتاريخ، سيطرتْ لحسن الحظ على جيل جديد، نتهمه عادة بأنه لا يشعر بالانتماء، رغم أن الإقبال على الكتابات التاريخية ينفى ذلك بحسم، فضلا عن انتفاضة الشباب لمواجهة كل خطر، يشعرون أنه يهدد آثارنا وتاريخنا، ويكفى أن هذا الجيل هو من تصدى بقوة على دعاوى الأفروسنتريك، رغم أنها انطلقت منذ بدايات القرن الماضى، وانتشرت أدبياتها دون أن تجد من يردّ عليها بمثل هذه الكثافة. أفكر فى إغلاق الهاتف مؤقتا، كى أحظى ببعض الراحة، لكننى أتراجع أمام فيض مكالمات من زملاء شباب فى «الأخبار» يراجعون معى أفكارا يرغبون فى تنفيذها، أو أصدقاء من قنوات يناقشون معى بعض الزوايا. قد تمر علينا إحباطات طارئة، غير أن القدر يدغدغ الأمل فينا كل فترة، برسائل تؤكد قول الشاعر الكبير محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة. أتاك الخريف الطلْق! الأحد: إنها العاشرة مساءً بتوقيت المنطقة الحدودية بين مصر الجديدة ومدينة نصر، أسير فى الشارع مستمتعا بنسماتٍ منعشة تكتسى بملامح ربيعية. يبدو أنها أثّرت على الأشجار والنباتات، فصدّرتْ لأنفاسى روائح زكية، لم أعتد عليها فى مثل هذا الوقت من السنة. غالبا المشكلة فىّ وليست فيها، لأن خروجى نادرٌ مساء، وفى الصباحات تغيب التفاصيل وسط زحام الاستعداد للعمل. أنتبه فجأة إلى أننى سلبتُ الخريف حقّه، فقد نسبتُ نسائمه لفصلٍ آخر، اعتاد أن يستأثر بالجاذبية لنفسه، تحت إلحاحٍ من الشعراء على مر العصور، رغم أن الربيع يأتينا عادة برياح مُعبأة بالغبار هى الخماسين، فضلا عن «رمَدٍ» يحمل اسمه، يصيب الأطفال غالبا ولا ينجو منه الكبار، وفى أحيان كثيرة يبقى حائرا بين فصلين، يأخذ منهما البرد والحر ويتلاعب بنا فلا نعرف ماذا نرتدى، وتحلّ نزلات الإنفلوانزا ضيفا دائما علينا. كل هذا لم يمنعنا من الاستسلام للأحكام سابقة التجهيز، حتى أصبح الربيع بطلا لقصائد وأغنياتٍ تحتفى به. قبل سنوات طالبتُ برد الاعتبار للخريف، لأنه فصلٌ تائه بين أشقائه، ربما لكونه محايدا، لا يُزعجنا ببرودة تأكل مفاصلنا، ولا يجتاحنا بحرارة تُلهب أعضاءنا. هنا يُصبح الهدوء مصدر تعاسة لصاحبه، عندما يشعر بأنه مُهمَلٌ دون ذنْب جناه على أحد، رغم أن الواقع يقتضى تنصيبه ملكا للفصول الأربعة. تجتاحنى النسمات فجأة وكأن الخريف قرأ أفكارى، وقرّر أن يشكرنى بطريقته. أبتسم وأفكر من جديد، أتذكر بيت البحترى، الذى رسّخ مكانة الربيع فى أذهان أجيال عديدة، وأقوم بتحريفه: أتاك «الخريف» الطلْق يختال ضاحكا.. من الحسن حتى كاد أن يتكلما. تداعبنى النسمات من جديد مع عبقٍ من رحيق النباتات المحيطة، تصلنى رسالة الخريف المحملة بالشكر، فأرد بصوت عالٍ: العفو! تلتفتُ «فتاة خمسينية» إلىّ منزعجة، وقد ظنّت أنها أمام شخص مجنون أو شروع فى معاكسة! أبتسم فتبتعد مسرعة بينما أقول: «والله ما بعاكس يا بنتي»! الدماطى والترجمة الحائرة! الأربعاء: وسط زخم الساعات الأخيرة تتصاعد دقات الهاتف، لا أرد غالبا لانشغالى باللمسات النهائية لملحق المتحف المصرى الكبير. مصابٌ أنا بداء التوتر حتى أن صوت المحمول بدأ يرفع ضغطى، منذ أيام أخرسته بالوضع الصامت كى أتخلص من توتراته، لكن ذلك غير ممكن اليوم تحديدا، يدقّ من جديد وأردّ هذه المرة على الفور. إنه صديق قديم أعتز به منذ تعارفنا قبل سنوات: الدكتور ممدوح الدماطى وزير الآثار الأسبق، يُخبرنى أنه حقق لى أمنية طلبتُها منه قبل ساعات، وظننتُه نسيها وسط انشغالاته، خاصة أنه كان على سفر ووعد بتنفيذها بعد عودته. فى الواقع لم تكن فكرتى، فبأدبه المفرط سألنى الدكتور أسامة السعيد رئيس التحرير أمس الأول، إن كان ممكنا الحصول على ترجمة هيروغليفية، لعبارة: «المتحف الكبير.. مصر تتحدث عن نفسها». بثقة مفرطة أكدتُ له أن الأمر يسير، فكثيرا ما رأيتُ «بازارات» التحف تقوم بهذه المهمة ببساطة مبالغ فيها، وبعد فترة قليلة أدركتُ أن تفاؤلى ليس مبررا. اعتمد بعض الزملاء على الذكاء الاصطناعى وحقّقوا المراد، ثم عرضتُ الترجمة على أستاذة متخصصة فى هذا المجال، ففاجأتنى بأن ما أرسلتُه لها لا يمت للهيروغليفية بصِلة! شعرتُ بسعادة فى غير أوانها، لمجرّد أن الذكاء الاصطناعى بدا عاجزا، رغم كل ما يُقال عن عبقريته. بعدها بساعات أرسلتْ لى الأستاذة ترجمة أخرى، بطبيعة الحال لا أملك رفاهية مقارنة تزيد من جرعة التشفى فى «الإيه آى»، وربما أفعل ذلك فى وقت لاحق. ظُهر اليوم التالى اتصلتُ بالدكتور الدماطى لأطلب منه مراجعة العبارة الهيروغليفية، فأكدّ لى أنها تحتاج إلى بعض التعديلات. أعرف وزير الآثار الأسبق منذ كان منتدبا من جامعة عين شمس، ليصبح أصغر مديرٍ للمتحف المصرى بالتحرير، وتُعجبنى دقته الشديدة غير أنها اليوم زادت على الحد، فبعد المكالمة الأولى عاد ليخبرنى أنه أجرى تعديلات على ترجمته. طلبتُ من الزملاء فى سكرتارية التحرير حذف الأولى إلى أن يرسل الثانية. الترجمة حائرة والمطبعة تتعجلنا ورئيس التحرير يتحالف معها ضدّى، وتوترى يتزايد لدرجة أننى نقمتُ على الدقة، لكن استجابة الدكتور الدماطى لطلبى دون أن يعرف سببه، جعلتْنى أستدعى هدوئى من مكمنه، خاصة أن الدقائق السابقة منحتنى إجابات عن أسئلة لم تخطر ببالى من قبل، منها أن الهيروغليفية يُمكن أن تُكتب من اليمين إلى اليسار والعكس، أما بقية المعلومات فتحتاج للقاء أكثر هدوءا مع الدكتور الدماطى، الذى أرسل العبارة بعد إعادة تدقيقها، لتتصدر غلاف الملحق الصادر فى عدد «الأخبار» صباح أمس، وسعدتُ بالإشراف عليه مع فريق بالغ التميز من كل أقسام الجريدة، وبمجرد صدوره كانت العبارة الهيروغليفية محل اهتمام كثير من الأصدقاء، الذين أعربوا عن إعجابهم الشديد بالفكرة.. التى لم تكن أصلا من بنات أفكارى. أشعر بالانتعاش فمجرد ذكر البنات يمنح الرجال بهجة استثنائية، خاصة ممن لم يبق لهم من العمر.. سوى خريفه!!