نائبة بالشيوخ: التعليم الجيد السبيل الوحيد لبناء المواطن في أي دولة مدنية حديثة    "العمل بأسيوط" تنظم ندوات توعوية حول أحكام قانون العمل    الأنبا بشارة يشارك في صلاة ليلة الاثنين من البصخة المقدسة بكنيسة أم الرحمة الإلهية بمنهري    غرفة المطاعم: 9 مايو المقبل آخر موعد لتلقي طلبات المنشآت السياحية استثنائها من تطبيق الحد الأدنى للأجور    لجنة الإسكان بمجلس النواب توافق على موازنات الهيئة القومية لمياه الشرب وهيئة تنمية الصعيد    محافظ أسيوط يشيد بمركز السيطرة للشبكة الوطنية للطوارئ بديوان عام المحافظة    إزالة 22 تعدي على الزراعات وأملاك الدولة بالشرقية    أمين مجلس التعاون الخليجي: الهجمات الحوثية في البحر الأحمر تمثل تهديدا غير مقبول للتجارة العالمية    مراسم رسمية.. الرئيس السيسي وقرينته يستقبلان رئيس البوسنة والهرسك وزوجته بقصر الاتحادية    بعد التأهل للنهائي.. رقم تاريخي ينتظر جوميز مع الزمالك    جوارديولا: سباق لقب الدوري طويل    وصلت ل10%.. مصدر يكشف ل الشروق عقوبة ثلاثي الأهلي بعد مباراة مازيمبي    الرياضية: الصين تستضيف كأس السوبر السعودي    الداخلية: ضبط عصابة و71 سلاحا ناريا و227 كيلو مخدرات خلال يوم    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    «أزهر الشرقية»: لا شكاوى من امتحانات «النحو والتوحيد» لطلاب النقل الثانوي    إحالة عاطلين للجنايات في سرقة حقائب السيدات وحيازة فرد خرطوش بالقاهرة    قنوات ART تنعى عصام الشماع: أعماله ستظل خالدة في وجدان المشاهد العربي    أبو الغيط يهنئ الأديب الفلسطيني الأسير باسم الخندقجي بفوزه بالجائزة العالمية للرواية العربية    515 دار نشر تشارك في معرض الدوحة الدولى للكتاب 33    محافظ الغربية يشهد ختام فعاليات مبادرة عيون أطفالنا مستقبلنا    تحت شعار "عقلك كنزك ".. كلية الطب جامعة قناة السويس تعقد ندوة توعوية حول "ما بعد السكتة الدماغية"    «معلومات الوزراء»: ألمانيا والصين الأكثر إصدارا للسندات الخضراء    بسبب حرب غزة| طلاب الجامعات في واشنطن ينادون بتغييرات في العلاقات مع إسرائيل    الوادي الجديد تبدأ تنفيذ برنامج "الجيوماتكس" بمشاركة طلاب آداب جامعة حلوان    الزمالك: الفوز على الأهلي ببطولتين.. ومكافأة إضافية للاعبين بعد التأهل لنهائي الكونفدرالية    إصابة 6 أشخاص في حادث تصادم على طريق جمصة بالدقهلية    دراسة تكشف العلاقة بين زيادة الكوليسترول وارتفاع ضغط الدم    بحضور وزير الخارجية الأسبق.. إعلام شبين الكوم يحتفل ب عيد تحرير سيناء    التعاون الاقتصادي وحرب غزة يتصدران مباحثات السيسي ورئيس البوسنة والهرسك بالاتحادية    ولع في الشقة .. رجل ينتقم من زوجته لسبب مثير بالمقطم    مصرع شخض مجهول الهوية دهسا أسفل عجلات القطار بالمنيا    أسوشيتد برس: وفد إسرائيلي يصل إلى مصر قريبا لإجراء مفاوضات مع حماس    برشلونة أبرزها.. مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    تطور عاجل في مفاوضات تجديد عقد علي معلول مع الأهلي    منهم فنانة عربية .. ننشر أسماء لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائى فى دورته ال77    «ماستر كلاس» محمد حفظي بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير.. اليوم    مؤسسة أبو العينين الخيرية و«خريجي الأزهر» يكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين.. صور    ضحايا بأعاصير وسط أمريكا وانقطاع الكهرباء عن آلاف المنازل    مركز تدريب هيئة الطاقة الذرية يتسلم شهادة الأيزو ISO 21001: 2018    البحوث الإسلامية يعقد ندوة مجلة الأزهر حول تفعيل صيغ الاستثمار الإنتاجي في الواقع المعاصر    «الرعاية الصحية» تشارك بمؤتمر هيمس 2024 في دبي    أول تعليق من ياسمين عبدالعزيز على طلاقها من أحمد العوضي    خسائر جديدة في عيار 21 الآن.. تراجع سعر الذهب اليوم الإثنين 29-4-2024 محليًا وعالميًا    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    مجموعة طلعت مصطفى تقرر شراء 10 ملايين أسهم خزينة    اتحاد الكرة: قررنا دفع الشرط الجزائي لفيتوريا.. والشيبي طلبه مرفوض    رئيس الوزراء: 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة تدهورت حياتهم نتيجة الحرب    البورصة المصرية.. «EGX30» يقفز 2.90% و«السوقي» يربح 28 مليار جنيه في مستهل التعاملات    من هي هدى الناظر زوجة مصطفى شعبان؟.. جندي مجهول في حياة عمرو دياب لمدة 11 سنة    مطار أثينا الدولي يتوقع استقبال 30 مليون مسافر في عام 2024    مصرع عامل وإصابة آخرين في انهيار جدار بسوهاج    أمين لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب: هذا أقوى سلاح لتغيير القدر المكتوب    "استمتع بالطعم الرائع: طريقة تحضير أيس كريم الفانيليا في المنزل"    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    "بلومبرج": الولايات المتحدة تضغط من أجل هدنة في غزة وإطلاق سراح الرهائن    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في المستشفي الأمريكي: آثار الحرب وحلم الأمومة
المستشفي الأمريكي إهداء إلي P و P

بين آلام الروح وآلام الجسد، صنع ميشائيل كليبرج مزيجا إنسانيا وتاريخيا عنونه ب »المستشفي الأمريكي»‬، وهي الرواية الصادرة باللغة الألمانية عن دار نشر D«A عام 2010. بعد سنوات اختارتها المترجمة د.أميرة أمين لتضيفها إلي المكتبة العربية، فترجمتها ضمن مشروع النشر العام بالهيئة العامة للكتاب، وتقدمت بها د.سهير المصادفة لمسابقة أخبار الأدب في الترجمة (فرع العمل الأول) فحصدت الجائزة.
ميشائيل كليبرج، كاتب ألماني، ولِد في مدينة شتوتجارت عام 1959، ودرس العلوم السياسية والتاريخ. يعمل اليوم كاتبا متفرغا ومترجما في برلين. حاز علي العديد من الجوائز عن أعماله الأدبية، منها جائزة كاتب مدينة ماينز عام 2008. وقد رُشحِت روايته »‬المستشفي الأمريكي» لنيل جائزة الكتاب الألماني عند صدورها، حيث تمكن فيها كليبرج من السرد ببراعة، وبدقة تصوير بالغة، مع المحافظة علي وقع النغمة، التي تستخدم السخرية تارة، ولا تتورع عن استخدام وسائل الإقناع تارة أخري.
في الصفحات التالية ننشر جزءاً من الرواية، التي ستصدر قريباً عن الهيئة العامة للكتاب .
البعيد المفقود
كلما أعود بذاكرتي إلي سنواتي التي قضيتها في باريس تتبادر إلي ذهني تلك الكلمة ذات الوجهين، والتي تجسد الحزن علي مفقود لا يمكن استعادته مرة أخري، والاشتياق إلي بُعدٍ لا يمكن الوصول إليه في الوقت ذاته، فتتسلل لتقف حائلًا أمام ذكرياتي وتسلبني القدرة علي الانغماس فيها والطواف داخلها. إن هذا الكيان المسمي البعيد المفقود يحيط بها كستار رقيق من الشجن، عندما أحاول إزاحته، يثير داخلي ألمًا يدفعني لتركه.
ليس هذا الألم ألمًا واخزًا أو ناخرًا لكنه ألم ناعم، إذا كان هناك شئٌ كهذا، فأقول لنفسي إن هذا الذي أحسبه ستارًا هو في الحقيقة غشاء جرح رقيق لو مزقته، لسوف يبدأ في النزيف من جديد وربما يغدو من الصعب إيقافه مرة أخري.
إذا أردت أن أصف ما الذي يمثله ذلك البعيد المفقود في صداه المزدوج بالنسبة لي، تمر بخاطري قصيدة وواحدة من أغاني الشانسون الفرنسية. إن قصيدة نسيم البحر التي كتبها مالارميه تعد صرخة ألم وحيدة ومنشودة تدعو للفرار إلي مكان بعيد، إلي التقدم تجاهه، إلي النجاة: الفرار، إلي البعيد المفقود، الفرار!
تصورأغنية جورج براسينز العشاق الصغار الهاربين من عالمهم وقيمهم الخُلقية إلي أرائك المتنزهات، حيث يتبادلان القبل. وبعدما يفيقان من النشوة وتعود الحياة لطبيعتها، يدرك العاشقان بقلوب ملؤها الحنين، أن الوقت الذي يمضيانه علي أريكة المتنزه، حالمَين وكلهما أمل في المستقبل، ضاربَين عرض الحائط بكل أعراف المجتمع، ظانَين في تعجل منهما أن الحقيقة الأجمل لم تأت بعد، أن ذلك الوقت نفسه هو اللحظة الحقيقية،هو الجزء الأفضل واللحظة الأجمل في حبهما.لكن تلك اللحظة تكون قد ولّت بالفعل، وما سواها ليس إلا رحلة هبوط.
بدا أن المدينة تفتح أبوابها أمام الوافد الجديد، إنها ملك يديه بكل ما فيها من سحر، وليس عليه الآن سوي أن يجتاحها، لكنه أمر يشبه استخدامه لصورة بالية نوعًا ما، صحيح أن المدينة فتحت أبوابها له، لكن كالمرأة الجالسة علي مقعد الفحص الطبي أمام طبيب النساء، فالسيطرة علي جسدها تكون من الناحية الوظيفية فحسب، أي تظل سيطرته خارجية.
إذا ما ابتعدت ثانيةً في أي وقت، ينغلق سمسم بمنتهي السلاسة وكأنه لم ينفتح قبل هذه اللحظة قط، وهكذا يضيع حقك في إيجاد الباب مرة أخري، ومن يحاول إيجاده سيقف أمام الحائط المغلق متسائلًا في شك، هل هو من فرَّ من المدينة أم أنه طُرد منها؟ إن روح باريس، التي يعمل المرء من أجل لفت انتباهها ولصالحها، لا ترحم. هذه العاصمة كبيرة وقديمة للغاية لدرجة تفوق قدر أي إنسان بمفرده.
الحياة في باريس عبارة عن بوح وموت تحت وطأة النظرة المهيبة الساكنة للمدينة القديمة، وما علي الإنسان إلا أن يتجرع المأساة التي تعدها له حتي الثمالة.من يضحي بنفسه من أجلها ويتحول إلي مرتع تنمو فوقه، هو فقط من يحق له أن يقول إنها تنتمي إليه وإنه ينتمي إليها، أما من يفرّ أو يُطرد منها، مثلي أنا،أنا الذي عدت لأعيش منذ فترة طويلة في ألمانيا، فلا يظل في حوزته فيما بقي من حياته سوي ذلك البعيد المفقود الحزين.
لذلك إذا كان يحق لي أو إذا رغبت في العودة إلي باريس، فليس لي أن أفكر في نفسي بل في آخرين ترجع علاقتي بهم إلي ذلك الوقت، أفكر في هيلين علي سبيل المثال.
كانت في الثلاثين من عمرها حينما قابلت الأمريكي لأول مرة، في خريف عام 1991 في المستشفي الأمريكي في باريس الذي يقع تحديدًا في شارع فيكتور هوجو في ضاحية نويي.
انتظرَت في القاعة الواقعة خلف الاستقبال مباشرة، كانت القاعة مستوحاة من تصميم نادي لندن كما يتصوره الأمريكيون ومجهزة من الخشب ومزودة بأريكات مكسوة بالجلد المحبب، كانت هناك في المقدمة لوحات زيتية للرعاة والمتبرعين للمستشفي، معلقة علي الجدران المطلية باللون البيج، والتي تقسمها القوائم الخشبية البيضاء إلي أُطر ومربعات. كانت هناك أعلي الباب لوحة شكر برونزية لمؤسسة ستار مركبة داخلها ساعة لها قاعدة، وبجانبها صورة يعود تاريخها إلي العشرينيات لسيارة تعبر بوابة المستشفي الأمريكي المغطاة بالثلج والمحاطة بأشجار خلت من أوراقها.
وصلَت مبكرًا قليلًا، واستطاعت من باب الشرفة الخلفي أن تنظر إلي الحديقة الخلفية الواسعة الممتدة حتي المباني الجانبية المختفية حتي منتصفها خلف أشجار الدُّلب ، ورأت أمامها عبر الباب المفتوح ذلك الزحام المعتاد المميز للمستشفي والذي يشبه استقبال أحد الفنادق الفخمة أكثر مما يشبه استقبال المستشفي الأمريكي في باريس.
هناك دبلوماسيون سود البشرة يرتدون حللا من ثلاث قطع يرافقون سيدات يرتدين ملابس ملونة إلي نضد الاستقبال، وعرب خليجيون يرتدون ثيابًا طويلة يحملون حقائب مستندات ويتهاتفون أو يدخنون في الخارج أمام الباب الزجاجي، وأطباء وممرضون يرتدون ملابس بيضاء ويضعون سماعات في جيوب صدورهم فوق بطاقة الاسم يسرعون الخطي هنا وهناك، تكشف نظراتهم الموجهة إلي أسفل خوفهم من أن يحادثهم أو يوقفهم أحد. كانت هناك ممرضات يشبهن في مظهرهن فتيات المعارض يمشين علي امتداد الردهة، فتحدث طرقات كعوب أحذيتهن علي الأرضية موسيقي متقطعة، وأطفال يعبثون في أنوفهم أتوا في زيارة، أخذوا يتأملون صور الأبيض والأسود التاريخية التي ترجع إلي زمن الحرب العالمية الأولي، وتظهر فيها ممرضات الصليب الأحمر بالقلنسوات ومصابون يستندون علي عكازين مبتسمين في تفاؤل أمام عربة إسعاف إطاراتها ذات شعاع خشبي، وفي الخلفية يظهر مبني منقسم لجناجين وهو ما يمثل اليوم مركز المستشفي لكنه كان في ذلك الوقت المبني الوحيد.
لابد أن هيلين كانت تقف عند مدخل باب قاعة النادي تلك، عندما خرَّ رجلٌ علي أرض الردهة أمامها، وأخذ يرتجف غير قادر علي التحكم في نفسه. إنها لم تره وهو قادم ولم تشعر به تمامًا، لكنه الآن أمام قدميها مباشرة راقدًا علي أحد جنبيه وجسمه منكمش ويداه مقبوضتان ويرتعد في تشنج وكأن صدمات كهربية تسري في أوصاله.
أدار بعض المارين رؤوسهم جهة المشهد وأشاح البعض الآخر وجوههم عنه، لكن هيلين انحنت بجانب الرجل دونما تردد فأمسكت بذراعيها جذعه من الخلف، في محاولة لجعله يستدير أو يتماسك أو يعتدل، لم تدرك بالضبط ما هو المفترض فعله. كانت أذنها قريبة من رأسه ذي الشعر البني القصير، فسمعته يغمغم بشئ ما، فكانت كلمة رعب هي الكلمة الوحيدة التي فهمتها. بمجرد أن شعر الرجل، الذي لم تر وجهه حتي هذه اللحظة، بجسدها، ابتعدت يده اليمني عن عقدة ربطة العنق التي تشبثت بها، وامتدت إلي الخلف من فوق كتفه وتعلقت بها، أي أنه قبض علي عضدها بقبضة موجعة، وكأنه يتمسك أثناء سقوطه بغصن شجرة أو نتوء ما أو كأنه أراد أن يجبر يده بالقوة علي التوقف عن الرجفة اللا إرادية.
ظنت أنه يتعرض لأزمة قلبية أو نوبة صرع، ولم تدر ما الذي يجب عليها فعله، فلم يخطر ببالها سوي أنه لابد من وضع قطعة من الخشب في فم مرضي الصرع حتي لا يقطعوا ألسنتهم وقت النوبة، ومع تصاعد حدة فزعها حاولت رفع جذع الرجل إلي الأعلي قليلًا. كان الرجل ثقيلًا، لكنها تمكنت من فعل ذلك إلي حدٍ ما، وحينما استقر رأسه علي صدرها استطاعت أن تري وجهه ولاحظت أنه لا يوجد أي رغوة علي فمه، كان وجهه شاحبًا يبلله العرق لكن لم يبد عليه أي التواء، وكان يحدق في الأرض في ثبات شديد لدرجة جعلتها تنظر هي نفسها إلي المكان ذاته بشكل تلقائي متوقعة رؤية أي شئ مفزع مثل بقعة دم، لكنها لم تجد أي شئ من هذا القبيل. بينما لا زالت يده اليمني قابضة بشدة علي عضدها كالمنجلة، تحررت يده اليسري وأخذت تتحرك لا إراديًا هنا وهناك حتي استطاع الإمساك بثوب هيلين وتشبث به في قوة شديدة فسمعت صوت تمزق خياطة الجانب من عند الخصر، ثم أُطلق سراحها.
انحني اثنان يرتديان البياض بجانبها، ممرض شاب وممرضة، فأمسك الرجل ذلك المريض الذي لا حيلة له من تحت إبطيه ورفعه في حرص إلي أعلي، وساعدته السيدة بأن أزاحت يد الرجل عن عضد هيلين وأخذت تتحدث إليه في إصرار. لم تفهم هيلين، التي لم تفق من الصدمة تمامًا، أيًا من كلماتها، واعتدلت واقفة علي ساقين مرتعشتين وعدلت من ثوبها، وهنا لمحت نظرة الرجل الغريب التي وجهها إليها، بدت نظرته نابعة من حزن عميق لا قرار له، حتي أن نصف الابتسامة المشجعة التي ارتسمت علي وجهها لم تلبث أن تلاشت ثانية. كانت هذه النظرة مفعمة بالحزن لدرجة لم تستطع معها فيما بعد أن تحدد إذا ما كانت نابعة عن إدراكها لشئٍ ما أم أنها كانت سابحة في الفراغ، هل قصدتها أم عبرت من خلالها وكأنها تعبر من خلال غربال، لم تتمكن هيلين التي ولجت المصعد بعدها بلحظات متوجهة إلي الطابق الرابع، من تقدير يكون عمر هذا الرجل بسبب هذه النظرة، وبينما كانت تتفقد خياطة جانب ثوبها المزركش التي تمزقت من عند حمالة الصدر حتي الحزام، تخيلت العينين أمامها وشعرت بشفقة أنستها كل خواطر المستشفي المعتادة تماماً، والتي يحاول بها الناس الذين يتفحصون بعضهم البعض في هذا المكان، تصنيف الآخرين تبعًا لتعبير الوجه ووضعية الجسم إلي موظفين وزوار وحالات يسيرة وصعبة وأخري مستعصية علي الشفاء، وبالتالي إلي حالات »‬أسوأ من حالتي في ذلك» أو »‬أقل سوءًا من حالتي في ذلك» .
إنه ذلك النوع من الشفقة المجهولة التي تُشعِرنا بتقلص في المعدة وتنبعث داخلنا لدي رؤية كبار السن مضطرين للتسول، أو أطفال يبكون، أو كلاب تعاني من سوء المعاملة. نظرة هذا الرجل، نظرته فحسب، ليس وجهه ولا جسمه، هذه النظرة فحسب أثارت هذا الوهج في عينيها وكأنها نظرت طويلًا إلي الشمس الساطعة. إنها لم تنس بعد كلمة »‬I'm terribly sorry» التي وجّهَهَا لها بلا صوت قبل أن يمضوا به في الردهة، حين وضع الممرض يده تحت كوعه، في حركة بدت غير ضرورية. التفت في تلك اللحظة ناحيتها مرتين قبل أن يختفي خلف باب ذي مصراعين.
كان ذلك بعدما أتمت هيلين عامها الثلاثين بفترة وجيزة في بدايات صيف ذلك العام، عندما قررت هي وزوجها اللجوء إلي المساعدة الطبية من أجل الحصول علي طفل.
إن رغبتهما في الحصول علي طفل كانت تعني اتخاذهما قرار الخضوع لعملية تلقيح صناعي، لأن هيلين كانت قد عرفت أنها صارت عقيمًا جراء إصابتها بالتهاب في قناة فالوب وهي بعد في السابعة عشرة من عمرها، وفي السنوات التالية لذلك عرفت هيلين أنها غير قادرة علي الإنجاب، أحيانًا كانت تتلقي الخبر بارتياح ومرات أخري بإحباط، ثم عرفت تشخيص حالتها، وهي إصابتها بانسداد في قنوات فالوب بسبب مضاعفات ذلك الالتهاب القديم الذي كانت قد أصيبت به.
في بداية علاقتها بالرجل الذي صار زوجها فيما بعد، وخاصة في العام الأول لعلاقتهما، حين بدأت الإثارة في التحول جزئيًا إلي حيرة وتفكير حول مدي جدية الشخص نفسه ومدي جدية الطرف الآخر ودرجة الثقة فيه ودرجة الثقة في النفس، كان هذا العقم أمرًا مرحبًا به، لأن معه لم تكن هناك حاجة لاتخاذ أي شكل من أشكال الوقاية الصعبة أو تلك التي تقلل الإحساس بالمتعة. كان ذلك بعد محاولات قليلة وغير ذات ترتيب لاستخدام العازل الطبي والتي كانت راجعة إلي الخوف المنتشر من مرض الإيدز.
بعدما اطمأن كل منهما للآخر ولنفسه بداية وبدءا في التخطيط لحياة مستقبلية تجمعهما، ظن حبيبها في قرارة نفسه أنه يمكن التغلب علي هذه »‬اللعنة» أو هذه »‬المشكلة» وقهرها من خلال الطرق الطبيعية، بقوة الإرادة أو بالحظ أو بالعون الإلهي الرحيم. صحيح أنهما لم يكونا قد خططا حتي ذلك الحين لإنجاب طفل، لكن كلاهما كان ليرحب بالحمل إن حدث. لكن الطبيعة لا تُجبر ولا تُرشي ولا يُحتال عليها. حينها تزوجا.
فاتحها زوجها في الموضوع في نزهاتهما أيام الآحاد في متنزه بوتس شومون، كانا يستقلان المترو في الغالب حتي محطة ريبوبليك ويسيران في طريق الشاطئ بمحازاة قناة سان مارتين من بوابة إلي أخري ويدلفان من جانب قباب مركز الحزب الشيوعي البيضاء إلي شارع ماثورين مورو، ويصلان منها إلي البوابة الغربية للمتنزه بعد ارتقاء الطريق الجبلي.
يتجولان علي امتداد الطريق المرتفع ويمران علي ضفة الأرمن القديمة وضفة الأشكيناز القدامي المجاورة واللتين تملؤهما زهور الردندرة، ويعبران الجسر،المعروف مجازًا باسم جسر المنتحرين، ومن ثم يمران علي معبد فيستا فيتطلعان من الجسر المعلق علي جينول بطل مسرح العرائس حائل اللون والواقع علي شاطئ البحيرة، حيث تنتظر العرض القادم في صبر واحتشام فتيات العائلات متينات البنية البالغات الحادية عشرة من عمرهن وهن يرتدين ملابس زرقاء داكنة وجوارب بيضاء في سيقانهم النحيفة. تجري واحدة منهن خلف كرة فيتأرجح شعرها المعقوص خلف رأسها علي شكل ذيل حصان كبندول ساعة يتحرك بشكل عشوائي. وتجلس علي الأرائك الأمهات الشابات في ظل أشجار الزان أمام الصندوق الرملي، ويضعن بجانبهن عربات أطفالهن ذات العجلات، ويقرأن.
مع بداية حلول المساء تعود هيلين وزوجها إلي مسكنهما بعد هذه النزهات، فيمارسان الحب غالبًا، ويعدان طعام العشاء سويًا في المطبخ وهما يسمعان الموسيقي. نصحت طبيبة النساء هيلين بالخضوع لهذه العملية في مستشفي أنطوان بيكلير في كلامار أو في المستشفي الأمريكي في نويي، حيث يعمل رائدا عمليات التلقيح الصناعي اللذان أخرجا أول طفل أنابيب فرنسي إلي الدنيا، يعمل أحدهما في واحد من هذين المستشفيين ويعمل الآخر في الثاني.
قرر زوج هيلين علي الفور اختيار المستشفي الأمريكي، وكان قراره نابعًا عن شعور داخلي علي حد قوله. فالاسم يوحي بالثقة، كما أنه مشهود له بالكفاءة والثقة ومعروف باستخدامه لأحدث وسائل التكنولوجيا. يعد هذا المستشفي بمثابة مؤسسة طبية ومشهور بأنه مستشفي لعلاج الأغنياء، وهو ما كان من مميزات هذا المستشفي في نظر زوج هيلين، فهو يري أن القادرين يحصلون علي مستوي علاج أفضل في مستشفيات أفضل من الفقراء في المستشفيات المتواضعة. كما أن لديه تأمينا صحيا خاصا يتكفل بهذا العلاج.
لم يكن يعرف مستشفي كلامار، كما كان من الصعب الوصول له من شقتهم الواقعة في المنطقة الحادية عشرة عن طريق المترو. وهكذا حددا موعدا مع رئيس قسم التلقيح الصناعي في المستشفي الأمريكي، الطبيب لو جوف. بدا الاسم البريتاني بالنسبة لهيلين بمثابة فأل خير، حيث تعود أصول عائلة أمها إلي منطقة بريتاني، حيث قضت إجازات تمتعت فيها براحة البال في بيت جدتها.
كان الدكتور إيمي لو جوف رجلا خمسينيا رشيقا لدرجة النحول، له أنف بطرف معقوف، وعينان وديعتان تقبعان خلف عوينات ذات إطار ذهبي، وشعر أشيب أملس مفروق، وصوت هادئ منخفض ولكنه صارم.
توجد علي الحائط الأبيض خلف مكتبه المنمق عدة صور مُكبرة ومؤطرة له مع سيدة وفتاتين وهم يرتدون معاطف صفراء واقية من الماء مستندين علي حافة يخت مائل بفعل الرياح فوق محيط لون مياهه رمادي معدني.
أنصت الطبيب إليهما، وترتسم علي عينيه، خلف عويناته ذهبية الإطار، وزاوية فمه، ابتسامة هي مزيج من سخرية نابعة من خبرته الطويلة وتعاطف متفهم، وقد شعروا أنه إنسان ودود ويوحي بالثقة، فهو كما قال زوج هيلين لها بعد اللقاء، من أولئك الأطباء الذين يمكن الوثوق بهم دون تردد. ارتدي الطبيب معطفا أبيض اللون أزراره مفتوحة، فبدا من تحته القميص وربطة العنق.
كانت غرف التلقيح الصناعي، كما يطلقون علي قسم طب الإنجاب في الدور الرابع (أي الدور الثالث من مدخل الطابق الأرضي المرتفع)، مجهزة بطريقة تعطي إحساسًا بالثقة والتفاؤل والود. كان تصميم الجدران عبارة عن أطر خشبية بيضاء يلتصق في داخلها ورق رمادي فاتح مع خطوط عرضية وردية اللون ويمكن ملاحظة تركيبة الألوان هذه من الرمادي الفاتح والوردي في إفريز السقف. كانت هناك نباتات خضراء كثيرة مزروعة في أحواض كبيرة، بعضها مزروع في الماء. كان الأزواج المنتظرون من الشباب، لكنهم ليسوا أصغر منهما علي كل حال، ويبدون بصحة جيدة ويتمتعون بمظهر أنيق، يتبادل بعضهم أحاديث يشوبها نوع من التحفظ، في حين يمسك آخرون أيدي بعضهم البعض ويكتفون بالصمت. كان الحاضرون يمثلون مزيجًا متنوعًا من كل القارات، وعلي غير ما هو مألوف كان هناك عدد كبير من غير الأوروبيين. ارتدت سكرتيرة الدكتور لو جوف، التي قدمت نفسها باسم آن لور، ثوبًا أزرق اللون وعقدًا من اللؤلؤ، كانت ودودة ومرحة وقادرة علي التعامل مع أي مشكلات إدارية. كل ما في المكان خلف لديهم انطباعًا بعدم البيروقراطية والثقة والاطمئنان.
لكنهم اندهشوا من كم المعلومات وتعقيد الإجراءات وعدد الفحوصات الطبية المعقدة التي تنتظرهم. لم يمض وقت طويل حتي بات واضحًا لهما ما قاله زوجها: إن مواعيد زيارة هيلين المزمعة للمستشفي الأمريكي لن تتلاءم مع عمل هيلين بدوام كامل.
كانت هيلين مهندسة ديكور ماهرة، فقد حصلت علي شهادة الدبلومة الفنية بي تي إس في تخصص هندسة الديكور من إحدي المدارس الفرنسية، كما حصلت علي شهادة الكفاءة »‬AP في مجال هندسة صناعة وترميم الأثاث من المدرسة الفنية الملحقة بقصر فيرساي، وتعمل في متجر أثاث، مستشارة وهو الاسم التجميلي لوظيفة بائعة. ويقع المتجر في ضاحية سان أنطوان، في الشارع القديم لصانعي الأثاث علي بعد مئة متر من الباستيل.
لم يتطلب الأمر منها محادثات طويلة لإنهاء الأمر وترك الوظيفة التي لا تحبها. منعتها الأزمة من إمكانية الحصول علي اتفاقات عمل كمهندسة حرة، إلا أنها كانت مضطرة في الأساس إلي العمل خفية في ظل وجودها في وظيفتها. كان العمل (كانت هذه وظيفتها الثالثة) في متاجر الأثاث ضروريًا طالما كانت تعيش بمفردها، لكن الآن انتفت هذه الضرورة المادية، ومن ثم توصلوا في النهاية إلي القناعة بأنه يمكنها الحصول علي فرصة أكبر للقيام بعمل يرضيها من المنزل، سواء لبيتها أو لمعارفهما ثم لغير المعارف الذين سيلجأون إليها عن طريق ما يسمعونه عنها من غيرهم.
وهكذا انتهت ساعات العمل الإضافية اللانهائية، فقد كان من المستحيل في ظل العمل في متاجر الأثاث هذه،مع سوء تنظيم العمل والضغط الأخلاقي من المجموعة، أن يكون لديها وقت فراغ محدد بعد انتهاء العمل، وكذلك كان من غير الممكن تقريبًا التهرب من المطالبة الإجبارية لهابتناول شراب بعد العمل مع الزملاء في أحد المقاهي القريبة، حتي أنها لم تكن تعود إلي منزلها في أغلب الأوقات قبل الثامنة مساء.
عندما أعلمت هيلين مدير المتجر، السيد بينسوسان، برغبتها في الرحيل، قام بما لم يفعله مطلقًا طوال عام ونصف، فقد عرض عليها زيادة راتبها، لأنه، علي حد قوله،لا يستطيع التنازل عن ذوقها في اختيار وترتيب الخامات والألوان والأشكال للأثاث والحلي.
في ظل دهشتها وشعورها بالتملق من جهته، طلبت هيلين منه يومًا مهلة للتفكير، وفي المساء حسب معها زوجها مرة أخري عدد المرات التي يتوجب عليها فيها زيارة المستشفي، وذكرها بضرورة تمتعها بقسط من الراحة والهدوء أثناء العلاج، وهكذا استقالت من العمل مع نهاية العام.
امتلأت الأشهرالثلاثة التالية لزيارة الطبيب لو جوف بالأحداث، حيث كان لزامًا عليهما حضور استشارات متعددة وخضعا لفحوصات طبية، مثل الإيدز، والالتهاب الكبدي الوبائي، وصور دم كاملة، وتحليلات هرمونية، وتحليل السائل المنوي والمناعة، وتصوير للرحم. كما قاما بتعبئة استمارة استطلاع رأي وتجميع محتويات الملف لتقديمه للتأمين الصحي الخاص للحصول علي تصريح، وكذلك اطلعا علي منشورات وكتب كثيرة للتعرف علي الجوانب التقنية والأخلاقية لعملية التلقيح الصناعي وبدائلها.
كان لديهما موعد إجباري في المستشفي الأمريكي مع طبيبة نفسية حكيا لها عن سبب سلوكهما هذا الطريق بدلًا من التخلي عن فكرة الإنجاب أو تبني طفل، وهو ما أثنتهما عنه الطبيبة بسبب التعقيدات الإدارية بل والمضايقات التي قد تواجههما.
وفي شهر نوفمبر بدأت هيلين الخضوع لأول مرة لعمليات التنشيط، وبعد مضي أسبوع كان لديها موعد فحص في قسم التلقيح الصناعي، وكان هذا بالضبط اليوم الذي انتظرت فيه في الاستقبال لأنها وصلت مبكرًا قبل موعدها، وأُغشي علي هذا الرجل أمام عينيها.
بعد مضي أربعة أسابيع تقريبًا علي هذه الواقعة، قابلته للمرة الثانية، أي مع حلول شهر ديسمبر، وكان هذا يوم عملية ثقب جُريب المبيض. قام الطبيب لو جوف قبل الظهيرة بعدما خدرها تخديرًا خفيفًا بإدخال جهاز الموجات فوق الصوتية باستخدام إبرة الحقن وأفرغ جريب البويضة. بالرغم من عدم ضرورة ذلك طبيًا طلب الطبيب أن تبقي هيلين باقي اليوم والليلة في المستشفي، بالطبع لم يعنِ بذلك التزام الفراش تمامًا، ولكنه أراد توفير فرصة لها للاستراحة والحركة في نطاق محدود.
كان زوجها علي يقين أنه تركها في أيدٍ أمينة، وذهب إلي عمله. أما هيلين فلم تكن ترغب في البقاء في الحجرة بمفردها، فهي ليست مريضة علي حد قولها للممرضة، وهكذا جلست في كافيتريا المستشفي المضيئة الواسعة الواقعة أمام المبني الجديد، وكان بها أناس كثيرون يجلسون ويتسامرون بصوت خفيض. أخذت هيلين ترفع ناظريها عن كتابها من وقت لآخر وتنظر إلي الحديقة القاحلة بفعل الشتاء.
كان هو من اكتشفها أولًا، حين كان يقرأ كتابًا، أو بمعني أصح يتصفحه، ويعيد فتحه مرات، ويضعه مقلوبًا أمامه، وينظر حوله، ثم يمسكه ثانية، ويضعه جانبًا من جديد، حتي وجدها في مجال نظراته الحائرة، تقرأ في انهماك وهدوء، ورأي علي المنضدة أمامها قدحًا من القهوة، وبجانبه عبوة سجائر عليها قداحة بلاستيكية. تنزلق من آن لآخر خصلة شعر علي جانب فمها فتلتقطها كعود من الحشيش بين شفتيها دون وعي.
أغلق كتابه وأخذه في يده اليسري ونهض متوجهًا إلي طاولتها وانحني. تطلعت إليه في دهشة فانحفرت تجعيدة طولية صغيرة بين حاجبيها المرتفعين إلي أعلي. كان يرتدي يومها حلة زرقاء ذات صف أزرار واحد، وقميصا أبيض اللون، وربطة عنق سوداء، وكان شعره بني اللون قصيرًا.
قال وهو لا يزال واقفًا: معذرة، إنك لن تتذكري، لقد قمتي-، تلعثم ثم تابع: لقد كنتي في غاية الود. نظر إلي الأرض. لقد اعتنيتي بي عندما كنت-.
بالطبع. قالتها وارتسمت علي شفتيها، مع تعرفها عليه، تلك الابتسامة التي لم تتمكن من رسمها علي شفتيها حين رأته أول مرة. ثم أضافت: اجلس. هل أصبحت الآن في حال أفضل؟
وضع الكتاب أولًا قبل أن يشكرها ويجلس، فوقعت عيناها عليه، فصاحت: أوه. إليزابيث بيشوب!
هل حقًا تعرفين إليزابيث بيشوب.
قالت مستشهدة ببعض كلماتها:
The art of losing isn´t hard to master
صمتا بعدها لفترة وجيزة. حارت نظراته فوق المنضدة بحثًا عن مساعدة ما، فقرأ عنوان الكتاب بنبرة متسائلة: تقرئين لأراجون. إنها قصائد أيضّا.La Diane Française.
ظلت كلماته كسؤال معلق في الهواء.
أضافت هيلين: إنها قصائد كتبها في أثناء الاحتلال.
تفحص كل منهما الآخر. اثنان من قراء الشعر في كافيتريا مستشفي.
اتخذ الحديث بينهما مسارًا آخر حين قال: معذرة، هل تسمحين لي أن أقدم نفسي؟ اسمي ديفيد كوت. عرفت هيلين نفسها بدورها وصافحته.
شعرت أن مسار الحديث بينهما سيتوقف سريعًا إن اكتفت هي بالانتظار والإنصات، فسألته: كيف عرفت إليزابيث بيشوب؟
قال الرجل: أوه، لقد قابلتها بنفسي مرة من قبل، فلقد نشأتُ في نفس موطنها، في مدينة ورسستر في ولاية ماساتشوسيتس الأمريكية. هل أنتِ باريسية؟
أومأت هيلين برأسها مبتسمة، لأن الأجانب دومًا ما يركزون علي هذه الملحوظة.
سألته: هل تعيش هنا أيضًا؟
نعم، فأنا أعمل في هذه المنطقة، وآتي إلي هنا للخضوغ للفحص الطبي، كنوع من الرعاية الطبية الشاملة. لقد فهمتي ذلك بطبيعة الحال. أنا-في الواقع، أشكرك مرة أخري علي اهتمامك بي...
قاطعته هيلين قائلة: لكن ما فعلته كان بديهيًا، ثم إنني لم أفعل شيئًا في الحقيقة مطلقًا، لقد كنتُ في غاية الفزع.
رد عليها في جدية بالغة: لقد اعتنيتِ بي، وهذا في حد ذاته كثير جدًا.
صمتت قليلًا في حيرة، ثم سألته: لكن هل هذه المشكلات - أعني هل استطاع الأطباء السيطرة عليها؟
أشاح بيده مشيرًا إلي عدم جدوي الحديث حول هذا الأمر، وقال: أنتِ تعرفين علي كل حال، من يقع في قبضة الأطباء ...
ابتسمت وقالت: لكن ربما كان ذلك في صالحه.
تطلع إلي حافة الطاولة وقال: لكنك لا تبدين مطلقًا – أقصد، أعني أنتِ لستِ مريضة، أليس كذلك؟ أعذريني فأنا لست ماهرًا في طرح الأسئلة.
لا. الحمد لله. أنا لست مريضة، لكني آتي إلي هنا بسبب الحمل.
ألقي علي جسدها نظرة متفحصة فضولية.
ردت ببساطة: لا أنا لست حامل. ولذلك أنا هنا. لستُ حاملًا بعد.
حاول أن يبتسم، لكن هيلين عادت مرة أخري للغوص في عينيه اللتين لا قاع لهما كما حدث أول مرة. تصلب جسده فجأة وهو جالس إلي المنضدة وتكونت قطرات عرق علي جبهته. تمسك بحافة الطاولة بكلتا يديه وكأنه يحاول الحفاظ علي توازنه. هبت هيلين من مكانها وقالت: هل تريد كوبًا من الماء؟
هزرأسه رافضًا وقال: أصبحت أفضل. شكرًا. أرجو المعذرة. فأنا أسئ التصرف. أنا آسف.
عندما رأت هيلين أنه ترك حافة الطاولة نهضت وقالت: سأحضر لك كوبًا من الماء. لا. لا مجال للاعتراض. ابق مكانك. ثم التفتت بعدما استدارت لتذهب وسألته: بالصودا أم بدون؟
فصاح: بالصودا من فضلك.
عندما عادت وفي يدها زجاجة ماء بيرير، أخذ يتطلع إليها في اهتمام وقال: احكِ لي من فضلك كيف عرفتِ إليزابيث بيشوب، هي ليست مشهورة إلي هذا الحد.
أجابت هيلين: حسنًا. وبعدها أخبرني أنت كيف التقيتما.
قال الأمريكي: اتفقنا. ثم تحدثينني عن أراجون، فأنا لا أعرف عنه سوي اسمه.
بدأت هي في الحديث متحسسة موضع كلماتها وقالت: أنا أحب قراءة القصائد. القصائد بشكل عام. وأبحث .. عن ماذا أبحث داخلها؟ أبحث عن الجمل، عن الصور التي تصيبني كالسهم في مقتل.
نظرت له في شك مدركة أن هذه الأشياء غير قابلة للصياغة في الأساس. وكان هو ينظر إلي كأسه.
أحب قراءة القصائد التي تكتبها سيدات لأن لديهن رؤية للعالم تختلف عن رؤية الرجال ويبرزن أشياء أخري غير تلك التي يقدمها الرجال. لقد قرأت لإليزابيث بيشوب عن طريق شخص آخر ترجم لها.
نظرت إليه سريعًا فوجدته لا يزال ينظر إلي كأسه.
تختلف قصائدها عن كل الشعر الفرنسي الذي أعرفه،إن شِعْرَها لا يتسم بالكثير من العاطفة كما أنه يتميز بسلاسة الأسلوب، فهي تحكي وتصف في هدوء شديد ودقة بالغة وثقة تامة. سكتت هيلين لوهلة لتقول بعدها: إنها تكتب بشجاعة .. أو رصانة ... أو ربما جرأة عن مشاعر الفقد والأسي.
صمتت هيلين وهي مأخوذة، عندما بدأ هو في الحديث وعيناه موجهتان كما هما إلي الكوب الذي لم تعد تتصاعد فيه الفقاقيع.
لقد تعرفت عليها عندما عادت للعيش في بوسطن. إنها لم تحب ورسستر البتة، ولم تكن سعيدة بحياتها هناك، كما كانت سعادتها في كي ويست أو البرازيل. كنت لا أزال في المدرسة الثانوية وأحب القراءة وأمارس رياضة التجديف، ثم انتقلت للدراسة في جامعة كامبريدج، حيث كانت تحاضر بدلًا من روبرت لويلس في حالة تغيبه، وكنت أحضر هناك خلسة، وقد حضرت إحدي محاضراتها وتحدثت معها ... وقد ماتت في العام الذي عدت فيه إلي الكلية في بوسطن ... لذا ذهبت للتجديف في بحيرة كوينسيجاموند الواقعة هناك، حيث كان يقع النادي الذي أنتمي إليه. لقد كنت أجدف بمجدافين، هل سبق ورأيتِ مسابقة قوارب تجديف؟
أشارت برأسها بالنفي، لكنه لم يرها.
إنها تبدو كالبطات البرية التي ترقد علي سطح البحيرة، رفرفة الأجنحة وذلك الحفيف المنبعث عن سيرها فوق الماء وهي ترفع أعناقها لأعلي وتجدّ السير إلي الأمام. هذا بالضبط شكل القارب وهو يسير بسرعة. وهكذا جدفت مستخدمًا مجدافين لأنني لم أكن أحب صياح القائد كثيرًا. أنتِ وشخص آخر فحسب، مرتبطان ببعضكما عن طريق رابط غير مرئي، مع رائحة البحيرة الملحية الخفيفة، وصوت المجاديف وهي تمخر المياه، وتجويف الهواء الذي يصنعه المجداف في يدِك لتعود وتنغلق مرة أخري مع الحركة. يظل الماء هناك لمدة دقيقة كاملة أملسًا وكأن عليه طبقة من الزجاج. وعلي حافة الشاطئ يمر شريط من الأشجار الخضراء الفاتحة والداكنة، وتقبع خلفه البيوت بيضاء اللون، ويتناهي إلي مسامعِك من بعيد أصوات هادئة آتية ومبتعدة، وترين أناسًا يتصايحون ويضحكون علي الشاطئ – ما الذي كنت أريد أن أقوله؟
ضحكت هيلين وقالت: في الواقع أردتَ الحديث عن إليزابيث بيشوب، ولكن يبدو أنك قد انتهيت بالفعل من الحديث عنها ...
نعم لقد تذكرت. كرر كلماته مرة أخري وقال: عندما ذهبت إلي الكلية ماتت هي. لم يكن يعرفها أحد حينها. وقد دُفنت في ورسستر. لا أدري إن كانت تلك هي رغبتها. هل زرتِ ماساتشوسيتس من قبل؟
هزت هيلين رأسها بالنفي، وقالت: لم أذهب إلي أمريكا قط.
كانت مدرستي تسمي سان جونز، أو هي لا تزال تحمل نفس الاسم حتي الآن، تقع في شروزبيري علي الشاطئ الآخر. ثم سأل هيلين علي نحو مفاجئ في إشارة إلي كتابها: ألم يكون أراجون شيوعيًا؟
أومأت برأسها إيجابًا وقالت: بلي، بل إنه يعتنق المذهب الاستاليني كذلك. وكم رفع شعار »‬فلتحيا جبال الأورال» ومثل هذه الأشياء. إنه فصلٌ ضبابيٌ تمامًا في كتابه، القصة التقليدية عن المنبوذ المثقف المشتاق إلي الترابط، وهو ما لم يتحقق له في الغالب، وهو الساعي ليصبح الراعي العنيد وحامي الشراع وحارس الجماعة. هذا جانب، وعلي الجانب الآخر فقد كتب أجمل الأبيات التي عرفتها. أنا أحب هذا الكتاب خصيصًا بسبب قصائد بورسيلياند.
سأل الأمريكي:بورسيلياند؟ سيدة؟
ضحكت هيلين، وقالت: لا. إنها غابة. السيدة كانت تدعي إلزا. الغابة كائنة في بريتاني، نُسجت حولها الأساطير، ولم يتبق منها الكثير. يقال إنها ممكلة ميرلين، ساحر أسطورة آرثر. وقد وقع هناك في حب الجنية الخيرة فيفيان، وقد نفته في هذا المكان للأبد، في بركة مياه، في شجرة. يبحث الرومانسيون حتي اليوم عن هذا المكان، يقال إنه نبع بارينتون، وهو نبع مياه. من المؤكد أن هناك الكثير من العاطفة في هذه القصائد مقارنة بأشعار بيشوب، لكن بالطبع توجد خواطر تتطلب المزيد من العاطفة، ألا توافقني الرأي؟ القصيدة التي أقصدها اسمها ليلة أغسطس ويقول فيها:
O l´épaisse toison d´étoiles sur nos têtes.
مممم. كيف يمكنني ترجمة ذلك؟ ربما يا فراء النجوم الكثيف فوق رؤوسنا؟
»‬e soir d'août le ciel d'aînesse êchoit aux mains d´audace.
حق الولادة الأولي في السماء سقط عن اللامبالين؟ لا أدري. علي كل حال، من قضي ليلة في بريتاني بين مسارات النجوم الدائرة ببطء، سيفهم ما الذي ينشده. لا، ليس الفهم هو المقصود، بل يشعر به الإنسان تحت الجلد...
أصر أن يحضر لها قدحًا آخر من القهوة. فهمت أنه أراد أن يطيل الحديث معها ويعوقها عن الانصراف، دون أن يضطر إلي طلب ذلك منها مباشرة. لكنها لم تكن تنوي الذهاب إلي غرفتهاأصلًا.
عندما عاد للجلوس قالت: لكن قصائد المقاومة التي ليس لها مثيل هي أكثرهن روعة علي وجه التحديد، فقصيدة الوردة وريسيدا تبدو كمسيرة جنائزية. مثل كل الشيوعيين الفرنسيين كان يشعر في أعماق قلبه أنه بطل ورومانسي فاقد الأمل، وهذه القصائد كانت طريقته في الكفاح. هل تعتقد حقًا أن بإمكان المرء الكفاح بالقصائد؟
فتح فمه، لكنه لم يقل شيئًا، بل بلل شفتيه وأطبقهما مرة أخري، وتنحنح وفي النهاية هز كتفيه وقال: لا أدري.
وبعد هنيهة أضاف: لكنك تتحدثين بشكل جميل عن القصائد، ربما أفضل مني، وأنا لا أعرف الفرنسيين جيدًا.
قالت هيلين أعذرني إن سألتك، ولكنه ليس من المعتاد أن تجد رجلًا يقرأ القصائد.
قاطعها قائلًا: فعلت ذلك بحكم دراستي. لكني أحب الشعر كذلك منذ صغري، ففي النهاية نجد أن وورسستر وماساشوسيتس كلها ما هي إلا شبكة من الشعراء. ربما يرجع ذلك إلي الطبيعة أو التاريخ. لكن الداء آخذ في الانتشار علي كل حال، وكل شخص معرض لالتقاط العدوي بسهولة. أي الأعمال الأدبية هنا ترشحينها لي؟ أو السؤال بطريقة أخري: من هو كاتبك المفضل؟
تفكرت هيلين قليلًا ثم قالت: ربما لن يكون شاعرًا. أعتقد أنني إن اضطررت للاختيار فسأختار كوليت.
كوليت؟ ألم تكن تلك الكاتبة سيئة السمعة الماجنة؟ أعذري عدم درايتي من فضلك.
ربما كانت كذلك حقًا، لكنها كانت حساسة قبل كل شئ، حساسة كالطبيعة أو كثمرة ناضجة أو وردة متفتحة. جرب أن تقرأ كتب المذكرات مثل بيت كلودين La maison de »‬laudine، ففي هذا الكتاب تصف منزل طفولتها. يحمل الفصل الأول عنوان أين الأطفال؟ ?Oú sont les enfants. وفيه تصيح الأم من داخل المنزل متجهة ناحية الحديقة، كما تُنادي القطط عندما يكون إناء اللبن الصغير مملوءًا، حتي تدعوهم إلي الداخل، لتسمع أصواتهم، حتي تعرف أين يختبئون، فتهدأ. ويجب عليهم حينها ترديد لحن أين الأطفال؟ بالفرنسية. أشعر باختلاج قلبي في كل مرة.زهرات نبات الزعرورالصغيرة وردية اللون، وزهور الليلك بنفسجية اللون في زهرية خزفية موضوعة علي حافة النافذة. بقعة نبيذ أحمر علي المنضدة الخشبية في الحديقة، وحفيف الريح في أوراق الشجر. صرير مفصلة بوابة الحديقة، والطلاء الأزرق المتشقق، وبقعة الضوء علي منديل السفرة الأبيض تحت شجرة الكستناء، والرتابة اللذيذة لأيام الأحد الصيفية هذه بعد القداس المقام في السهول ... نعم، أعتقد أن هذا هو عالمي. إذا أردت أن تشعر أنك في فرنسا فعليك بقراءة هذه الأعمال. بالطبع هذه هي فرنسا القديمة العميقة الريفية. لكن هذه الصورة لا تزال هناك خارج باريس إلي حد كبير ... لو كان بروست سيدة لكتب في ظني بنفس هذه الطريقة.
قال الأمريكي لقد عشت هنا في صباي لمدة عام، لكن ذكري هذه الأيام صارت ضبابية.
سألته: مَن مِن شعراء هذه الشبكة الإنجليزية الجديدة يمكن أن تعرفني به. إن بيشوب لم تكن سوي مصادفة، فأنا لست مطلعة إلي هذا الحد.
أنت تعرفين إيميلي ديكينسون بكل تأكيد، فعملها Wild Nights صار مشهورًا إلي حد كبير. لكن هل تعرفين أيضًا:
“Hope”isthe thing with feathers – That perches in the
soul …?
هل تعرفين فروست كذلك؟ صحيح أنه هاجر لكنه يظل أشهر الأدباء الإنجليز الجدد.
The way a crow shook down on me the dust of snow from a hemlock tree، has given my heart a change of mood and saved some part of a day I had rued …
وبالطبع إيميرسون وثوريو، الأديبان القديمان الكبيران من كونكورد، ومن البديهي أن أذكر لويل عندما أتحدث عن بيشوب. هناك أيضًا ستانلي كونيتز الذي لا تعرفينه في الغالب.
The year ofthe cloud، when my marriage failed …
أوه. وبالطبع إي. إي. كومينجس ...
توقف عن الحديث وبدت عليه أمارات التفكير، ثم أخذ يتلو نصًا بلا نبرة صوت مميزة وكأنه يتلو خبرًا في جريدة:
… bravely of course my father used – to become hoarse talking about how it was – a privilege and if only he – could meanwhile my – self et cetera …
إنه يأتي من بعيد ... إنه الربيع وبائع البالونات يصفر بعيدًا في ألم ...
تركا صدي صوت البيت الشعري يسري، ثم قالت هيلين: هل تعلم أنه ربما أتي إلي هنا مرة، أقصد كومينجس؟
تطلع إليها الأمريكي.
تابعت قائلة: كل الشعراء الأمريكيين الذين عملوا في الحرب العالمية الأولي سائقو سيارات إسعاف، مروا من هنا أو أُرسلوا من قبل المستشفي الأمريكي وتم توظيفهم هنا. كومينجس ودوس باسوس وهيمنجواي. لم يكن هنا وقتها سوي المبني الرئيس، من المؤكد أنك رأيت الصور القديمة هناك في المقدمة.
كيف عرفتِ ذلك؟
لقد حكاه لي زوجي، فقد قرأ بعض الشئ عن تاريخ المستشفي منذ أن قدمنا إليها ...
تجرع الأمريكي ما بقي في كوبه من ماء، وقال: أن تقولين إنك هنا من أجل الحصول علي طفل. قاطعيني من فضلك إذا شعرت أن حديثي لا يتسم بالتهذيب.
قالت هيلين وهي تضحك: لا، هذا ليس سرًا ولا أمرًا يدعو للخجل. نحن نحاول إجراء عملية تلقيح صناعي، طفل أنابيب. هذه هي الطريقة الوحيدة أمامي للحصول علي طفل، وهم هنا متخصصون في هذا الأمر. ربما هي طريقة عملية أكثر من كونها مثيرة جنسيًا للحصول علي أطفال، لكن – وترددت قليلًا قبل أن تقول: But there you are…
سألها الأمريكي: كم من الوقت ستبقين هنا؟ فقد كنت أود بشدة أن أستكمل حديثي معكِ ... هل تعرفين، عندما وقع ذلك الحادث الصغير ... لقد عني لي الكثير أنكِ اعتنيتِ بي آنذاك. لقد كان ذلك وقتها ... ذا فائدة كبيرة للغاية.
تطلعت إليه هيلين في جدية وأومأت برأسها وقالت: في الواقع سوف آتي مرة أخري بعد غد، إذا سارت الأمور علي ما يرام.
احتست ما تبقي في قدح قهوتها وأضافت: وبالطبع سآتي مرة أخري بعد تسعة أشهر.
وجه الأمريكي نظره إلي الحديقة في الخارج، حيث الشمس تتخفي بين السحب، والصقيع يكسب غصون شجرة ماجنوليا الجرداء المتشققة لمعانًا.
قال: لابد أن أذهب إلي موعد الفحص، وأضاف وهو ينهض: أتمني لك كل الخير. ومد يده مصافحًا، وقال أشكرك علي هذا الوقت وعلي كل شئ. أتمني لك الخير.
قالت هيلين وهي تنهض بدورها: أتمني لك أيضًا كل الخير. نظر كل منهما إلي الآخر.
ثم خرج كل منهما من باب مختلف للكافيتريا، حيث خرج الأمريكي من عند الخزينة متجهًا إلي المبني الجديد، ودلفت هيلين من الباب الزجاجي إلي الحديقة.
هكذا كذب كل منهما علي الآخر في أول محادثة تدور بينهما عن الشعر والنصوص، حتي ولو كان ما صدر عن كليهما لم يتجاوز ذلك الكذب غير الضار، والذي ينشأعن عدم ذكر كل المعلومات التي ربما قد يتسم عرضُها إجمالًا بالكثير من التعقيد أو قد يكون مغلوطً أو غير مبهج. أما هو فقد كذب فيما يتعلق بعمله وأما هي فكذبت فيما يتعلق بمعرفتها بقصائد إليزابيث بيشوب.
في أول جلسة استشارة مع الطبيب لو جوف وعدهم بأن احتمالات الحمل تتراوح بين عشرين وخمس وعشرين بالمئة مع كل عملية نقل للأجنة، وأضاف أن عشرين بالمئة من السيدات من هذه النسبة يفقدن الحمل. وهذا ما حدث مع هيلين.
سارت كل الأمور في البداية علي ما يرام، فقد وُجدت داخل جريب البويضة المفرغ بويضات مناسبة، وقد تم حقنها بالحيوانات المنوية المغسولة مسبقًا داخل المُستنبت، وفي اليوم التالي يحدد الطبيب عدد البويضات التي تم تخصيبها، وفي حالة هيلين تم تخصيب بويضتين. كانت هذه هي المعلومات التي أبلغها لو جوف لهيلين وزوجها قبل مغادرتها إلي منزلها، وكذلك إخصائيا الطب المجهري أضافا معلومة طريفة، فقد بدا لهما في أثناء غسيل الحيوانات المنوية لإعدادها أن زوجها يتمتع »‬بحيوانات منوية فائقة السرعة».
وفي اليوم الثاني انقسمت البويضات الملقحة إلي أربعة خلايا، فأمكن القيام بعملية الحقن مع حلول المساء. وتم حقن هيلين بالخليتين المخصبتين باستخدام القسطرة، وهي العملية التي لم تستغرق سوي ثوانٍ قليلة. قال لها لو جوف: حاولي أن تسعلي مرة من فضلك، ثم قال: مرة أخري من فضلك. وهكذا انتهت العملية.
في اليومين الثاني والرابع التاليين لسحب العينة بالإبرة أعطي زوج هيلين لها حقنة عضلية بعقار بريدالون، ومن ثم بدأت فترة الانتظار.
بعد مرور أربعة عشر يومًا علي عملية السحب أجرت هيلين اختبار الحمل الأول عن طريق عينة دم. كانت النتيجة إيجابية فأجرت تحليلًا آخر لقياس ارتفاع نسبة هرمون H»‬G (هرمون الغدد التناسلية المشيمية). تضاعفت نسبة الهرمون خلال ثمان وأربعين ساعة من 150 إلي 300 وحدة دولية، حتي أن هيلين خضعت بعد مرور أسبوعين آخرين لأول مرة لفحص بالأمواج فوق الصوتية، حيث كان الطبيب لو جوف يأمل في رؤية غشاء الجنين والجنين، لكن صورة الفحص الضبابية الرمادية لم تظهر أي منهما أمام عيني الزوجين.
أومأ لو جوف برأسه وقال مبتسمًا: حتي الآن يسير كل شئ تبعًا للخطة المقررة ولابدمن اكتشاف نبض الجنين بعد مرور أربعة أسابيع علي الأكثر من اختبار الحمل.
كانت هيلين صامتة في طريقهما إلي هذا الموعد، ولما لم تنفرج أساريرها مع دعابات زوجها عن الحيوانات المنوية فائقة السرعة، وسألها عما دهاها، أجابته أن هناك شئ ما ليس علي ما يرام وأنها ليست متأكدة إن كان الحمل لا زال مستمرًا.
وقد أثبت لو جوف صحة شكوكها بعدما اكتشف حدوث إجهاض، فقد هلكت البويضة ولكنها ظلت داخل الرحم مما جعل القيام بعملية كحت ضروريًا لمنع حدوث نزيف لا يمكن التحكم فيه.
قضت هيلين ليلتها في المستشفي لأن هذا التدخل الجراحي كان يتطلب تخديرًا كليًا.
حدثت كل هذه الأمور في نهاية شهر يناير، وكان موعدهم القادم مع لو جوف في شهر يوليو ليضع خطة لمحاولة ثانية، وليكتب لها عقاري ديكاببتيل وبريدالون.
صحيح أن الحظ لم يحالفهما هذه المرة لكن لا داعي لليأس، صحيح أنهما خسرا جولة لكن الحرب لا زالت قائمة. في الواقع لم يكن واردًا أن ينجح الأمر من أول مرة. وإذا نظروا للأمر بدقة فسيجدو أن هذا التوازن الذي حدث يعتبر مؤشرًا إيجابيًا، حيث يوجد لديهم بويضات نشطة، وحيوانات منويةفائقة السرعة، ونجحت عملية التخصيب، وحدث تقدم ولو مبدئي في زرع الجنين داخل الرحم.لذلك قال لو جوف إنه يمكن اعتبار كل هذه الأمور مدعاة للأمل، وبذلك هناك سؤال يطرح نفسه عن السبب وراء عدم اكتمال الحمل عند مرحلة معينة. وهناك عدة أسباب تكمن وراء ذلك سيقوم بحصرها وتحديد أهم العوامل ويحاول اتخاذ إجراءات مضادة. وتساءل إن كانت هيلين تريد القيام بالتجربة مرة أخري، لا شك أنها تريد، فليس هناك سبب يثنيها عن الأمر.
وهكذا تمت عملية الكحت.
عندما وصلت هيلين في هذا اليوم الصيفي الحار إلي محطتها الأخيرة بون دي لوفلوا، ونزلت من المترو الأبيض الباهت وسارت عبر الشوارع الضيقة، أدركت في هذه اللحظة أن عامًا كاملًا قد مر بالفعل منذ مجيئها أول مرة لهذا المستشفي.
عكست واجهات المباني البيضاء آشعة ساخنة تتمركز بين مباني الشوارع، حتي وصلت إلي مدخل حي نويي الأخضر، المسيج بأشجار الدُّلب الضخمة وأشجار الكستناء، حيث شارع دو شاتو العريض والذي يقع في مستهله مبنيان صغيران، حيث يختلط برائحة الحرارة المشوبة بالغبار،العطر المنعش البارد الذي يهب من الأراضي المبتلة المحيطة، والمنبعث من الحشائش المسقية والمساحات الخضراء الكبيرة المزروعة بالورود المروية، مما ترك انطباعًا وكأنها تجتاز المنطقة الأقل رقيًا الواقعة علي أطراف المدينة إلي المنطقة الأكثر رقيًا، مع زيادة نسبة الأوكسجين في الهواء.
عبرت هيلين هذا الحد الفاصل ببساطة تليق بسيدة تسلك هذا الطريق جيئة وذهابًا، ودون أن تلاحظ هي ذلك، فقد بدأت زيارات المستشفي تنظم حياتها بشكل ما، حيث أصبحوا يعيشون في سلسلة من التثبيط الهرموني، والتحفيز وإحداث التبويض، وتفريغ البويضة، والنقل، والانتظار، والإحباط، والنقاهة ثم البدء من جديد.
في واحدة من نوبات الذعر التي تصيبها قالت لنفسها أن عامًا من حياتها مر ولم يفلح الحمل سوي مرة واحدة.
أخذت هيلين تصرف تفكيرها إلي اتجاه آخر في محاولة أن تشعر بالحبور في ذلك اليوم اللطيف وأن تفكر في الرحلة التي يخططان للقيام بها، وفي القطط الراقدة علي حافة النافذة في ضوء الشمس وهي تتمطع وتنظف نفسها وتعطس، إلا أنها كانت تشعر مع كل خطوة بزيادة الضغط في معدتها، شعور يشبه رهبة الأضواء أو الخوف من امتحان. دلفت بعد ذلك إلي شارع فيكتور هوجو ثم خطت بعد حوالي مئة متر إلي بهو المستشفي عبر البوابة القديمة التي تتراص عليها الصور التي تعود للحرب العالمية الثانية. صعدت بعد ذلك إلي مقدمة المبني علي امتداد الجناح الحجري الأيسر ودخلت المبني عبر البوابة الزجاجية الدوارة أسفل الشعار اللامع المصنوع من مادة الألومنيوم.
عبرت من أمام نضد الاستقبال في اتجاه المصعد، في حين استدار باتجاهها رجل يقف هناك ويرتدي الزي الرسمي.
ندت منهما صيحتان في نفس اللحظة: - أنت جندي! - أنت هنا مرة أخري!
اختلطت في صوتها الدهشة الشديدة، وكأن رجلًا قد اكتشف فجأة أن زوجته رجل، مع الاتهام الحانق، وكأن الزي الذي يرتديه هو الدليل علي أن كل ما حكاه لها الأمريكي لم يكن سوي كذب وخداع.
أما صيحته بدأت بسعادة صافية،ما لبثت أن اختفت فجأة. وبعد نظرة سريعة علي بطنها المستوية تمامًا، التي بدت تحت ثوبها الصيفي المزين بالورود، كانت بمثابة سؤال يلتمس الإجابة.
كان يرتدي زي الفئة A الأخضر المكون من سترة مغلقة عليها أربعة جيوب وأزرار ذهبية مع عدة صفوف من التطريز بالخيوط الملونة علي منطقة الصدر وشريطين فضيي اللون علي الكتفين، وربطة عنق سوداء، وقميص ذي أكمام طويلة ولونه أخضر باهت، وسروال به أشرطة سوداء، وحذاء أسود لامع.لم تكن هيلين تعرف أن ذلك الرمز الأخضر ذو الإطار البرتقالي المرسوم علي شكل قلب غير واضح المعالم وسط دائرة حمراء اللون، الذي كان فوق كتفيه، ما هو إلا ورقة نبات، هي شارة جنود كتيبة المشاة 38 المزودة بالمحركات. وكان هناك هذا المستطيل الأحمر ذو الخط الطولي الأزرق في منتصفه وحرف « المطلي، الذي رأته علي الجانب الأيسر من صدره في قلب الشرائط الأخري التي أخذت شكل الأعلام، ولم تدرك أنه لم يكن سوي وسام النجمة البرونزية مع شارة «، وأن الشريطين الفضيين يشيران إلي أنه يحمل رتبة نقيب.
كان هو من تمالك نفسه أولًا وسألها بصوت حاول أن يوحي بفرحة الترقب: هل وضعت طفلك؟
لا
ألم يفلح الأمر؟
لا
أرجو المعذرة، ولكن هل بدر مني ما يثير ضيقك؟
ردت هيلين: لا ولكن ليس لدي الكثير من الوقت.
هل أنتِ غاضبة مني لسبب ما؟
لا
هل أنتِ غاضبة بسبب هذا الزي، لأنني لم أخبرك أني جندي؟
أنتَ لست ملزمًا بأن تحكي لي قصة حياتك.
أنتِ لا تحبين الجنود.
لا
هل تسمحين لي بالرغم من ذلك أن أدعوك إلي احتساء قدح من القهوة؟
يؤسفني، أنني في الحقيقة ليس لدي وقت.
أنت تحبين الجنود في القصائد فحسب، أليس كذلك؟
ودمها الأحمر يسيل، نفس اللون، نفس الإضاءة، لدي كل من آمن بالسماء ومن لم يؤمن بالسماء. إن دمها يسيل ويسيل ويتوحد مع الأرض التي عشقها، حتي تنمو منها في العام المقبل كرمة عنب.
هل تلوت الأبيات بشكل صحيح؟
قالت هيلين وقد استسلمت: نعم بكل دقة.
رد عليها قائلًا: لن أتنازل عن قبولك دعوتي.
إذن نتقابل في الكافيتريا بعد نصف ساعة.
عندما جلست قبالته ابتدرها قائلًا: هذا صحيح، كان يجب علي أن أخبرك أنني جندي.
نعم.
هذا أمر يتوجب علي المرء قوله فورًا، بالضبط مثل مرضي الجذام الذين كانوا يحملون في الماضي جرسًا حتي ينتبه الأصحاء ويبتعدون عنهم.
ردت قائلة: يؤسفني أنه قد أصابني الذهول للحظة، لكنني لا أحب أن يكذب علي أحد، حتي ولو دار بيننا حديث شائق. لماذا أخبرتني إذن أنك قد درست الأدب علي الرغم من كونك جندي؟
نظر لها غير مصدق وقال ضاغطًا علي مخارج حروف كلماته: ولكني قد درست الأدب فعلًا.
نعم، نعم إلي جانب تنظيف الأسلحة؟
أجابها: أنا لا أمزح. يبدو أنك لا تعرفين أنه يوجد في العديد من الجامعات الأمريكية، ومنها جامعة بوسطن، حيث كنت أدرس، برنامج تعليمي يسمي »‬روتك»، ومن خلاله يتم تدريب الدارسين إلي جانب دراستهم ليصبحوا ضباطًا.
لم تشأ هيلين أن تعترف هكذا سريعًا أنها قد تسرعت في حكمها، فسألته ساخرة: وكيف يمكن تصديق ذلك؟ قبل الظهيرة تدرس شعر الطبيعة وبعد الظهيرة تتدرب علي إطلاق النار؟
ما هي مشكلتك مع الجنود؟
ليس لدي أدني مشكلة مع الجنود، ولكني أمقت كل ما يمت للحرب بصلة، وربما أيضًا أمقت ما يصير إليه الجنود بفعل الحرب.دون جنود لن توجد حرب.
ودون جنود لن يوجد سلام كذلك.
قال لها: هذا الأمر يحتاج إلي تفنيد. نظرت إليه وهي مقطبة الجبين وقالت: لا يمكنني استيعاب هذا الأمر. ما الذي يجعل إنسان متحضر يحب القصائد ويهوي البحث عن تعبير للجمال والحقيقة، يعمل جنديًا؟ هذا أمر في غاية التناقض والسخف و ...
وماذا؟
و ... ترددت هيلين، ثم قالت: لا أدري. أنا أعتقد دومًا أن الإنسان يصبح جنديًا إذا تربي علي ذلك أو إذا كان ذو طبيعة مختلفة عن غيره من البشر ...
أجابها الأمريكي: ربما كنتُ كذلك، وأخذ يفكر في عمق. وأردف: أتعرفين. إنها مهنة قديمة، وإن لم تكن أشرف المهن علي الإطلاق فهي واحدة من أكثرها عراقة. وأحيانًا لا يكون الجندي بعيدًا كل البعد عن الأديب كما تعتقدين. وأذكر لك لاكلوس وتشرشل علي سبيل المثال.
وأنتَ؟ أيهم تري نفسك؟ محارب يميل إلي الأدب أم أديب في زي عسكري؟
أنا نقيب في الجيش الأمريكي وحاصل علي درجة ماجستير في الأدب. الأمر الأول بحكم التقاليد والثاني نابع من ميولي الشخصية.
التقاليد؟ أتعني تقاليد الحرب الأمريكية؟
تقاليد العائلة. فالعسكرية تُورَّث أبًا عن جَدّ.
وماذا تفعل إذن في باريس؟ هل ترغبون في احتلال أرضنا؟ نحن لا ننتمي لحلف الناتو ولا نقود حروبًا.
دعيني أنعش ذاكرتك قليلًا. لقد قدتم حربًا قبل وقت غير طويل، بالتعاون مع حلف الناتو ومعنا.
هل تعني حرب الكويت؟ عاصفة الصحراء؟ التي قادها ذلك المسمي شفارتس كوبف؟ ذلك التدخل العسكري الغامض والمضلل والخادع من أجل بترول الكويت؟
ومن أجل تحرير الكويت والحفاظ علي حقه في تقرير مصيره. هل تعنين أنها كانت حربًا بلا جدوي؟
أنا أقصد أن المفاوضات كان من الممكن أن تفيد. وإذا لم تخنّي الذاكرة فإن صدَّام كان صديقَكم المقرب قبل وقتٍ قصير.
لكنه تجاوز الخط الأحمر العام المنصرم.
ومن الذي حدد هذا الخط الأحمر؟ الولايات المتحدة الأمريكية؟ كالعادة؟
إن الولايات المتحدة الأمريكية تحارب من أجل الحرية. إنها تحاول علي الأقل.
ضحكت، وهي تحاول ألا تبدو وكأنها تسخر منه، وقالت: اسمح لي إذن أن أضحك. ومن أعطي بلدك هذا الحق الدائم في تحرير كل من تراه من الشعوب، والتي ربما لا ترغب بالمرة في التحرر إن كانت الطريقة المتبعة هي تدمير بلادهم وتحويلها إلي حطام؟
هل تقصدين فرنسا في عام 1944؟ إن ماضينا هو الذي يملي علينا ذلك، دستورنا، وهويتنا. إنها رسالتنا التبشيرية.
ماضيكم؟ أتقصد حرب الهنود الحمر؟
تعالي مرة لزيارة كونكورد علي جسر أولد نورث، ربما يمكنني أن أوضح لك حينها شغفنا بالحرية.
يومًا ما تراص المزارعون هنا وأطلقوا الرصاصة التي أسمع دويُها العالم أجمع.
أرجو المعذرة، ولكن حينما تحادث واحدًا منا نحن الأوربيين عن شغف الولايات المتحدة الأمريكية بالحرية، فإنه لا يرد علي خاطرنا سوي فيتنام.
أنا لا أدعي أن الولايات المتحدة الأمريكية لم ترتكب أخطاء، أعترف أنها ترتكب أخطاء في كثير من الأحيان. لكن من يتصدي لفعل أي شئ سيرتكب حتمًا أخطاء.
ردت هيلين قائلة: نعم Ah، la liberte´، elle a bon dos، أي للحرية دائمًا ما يبررها.
رد الأمريكي في صرامة: إن للحرية مذاق لدي أولئك الذين يحاربون من أجلها ولا يعرفه مطلقًا أولئك الذين يحيون في أمان.
وهل حاربتم في الكويت أيضًا من أجل »‬الحرية»؟ كانت تتمني الحصول علي إجابة تتعرف من خلالها من جديد علي الرجل الذي ترك دراسته ليستمع إلي إليزابيث بيشوب، وهي تعلم في نفس الوقت أنها تنتظر منه أشياء لن يستطيع أن يعطيها إياها. ماذا عساه أن يقول لها؟ إن حياتي كانت كذبة؟
إننا لم نصل إلي الكويت بالمرة في العام الماضي. لقد كنت في جنوب العراق.
أجابته هيلين: كان من الممكن حل هذه المشكلة هي الأخري دون حرب، ولتجنب السؤال الذي يطرح نفسه، استطردت قائلة: إذا كانت هناك إرادة للتفاوض. لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تريد ذلك بالطبع. اعترف بذلك علي الأقل. أنا أتساءل حقًا عن تلك الحقوق التي تسمح هذه الدولة لنفسها بها.
رد قائلًا: أنا أريد أن أخبرك شيئًا يا هيلين، وهذا هو رأيي في القضية. إذا امتلكت دولة الوسائل والمعرفة والسلطة فإنها تصبح ملزمة أخلاقيًا بالتدخل، حتي ولو كان هذا يعني ضرورة تحمل مسؤولية الحرب في دول أخري من أجل إقرار السلام قدر الإمكان.
قالت هيلين في سخرية لاذعة: بغض النظر عن أنني أشك في أمر المعرفة التي ذكرتها، فإن هذا يعد مبدأً رجعيًا إمبرياليًا بشكل كامل.
هو مبدأ يمكن مهاجمته لكننا يجب أن نتعايش معه.
ردت هيلين في سخرية:?The white man´s burden، hm
أنا أعي هذا القول الساخر، لكن دعينا نقول إن المثال الذي حضر في ذهني علي ذلك هو، ميونخ والسلام الذي ساد في وقتنا. الاحتفالات والعرفان بالجميل والتخلص من الأعباء. أثنا عشر شهرًا من السلام. لكن الأمر لم يبدُ كذلك في نظر الشيشانيين ولا الكويتيين الذين تحدثنا عنهم لتونا. إن قصار النظر فقط كانوا هم من شعروا بالعرفان والتخفُّف من الأعباء.
وماذا فعلتم أنتم في العراق يا من لا تنتمون إلينا، نحن قصار النظر؟ هل قرأتم علي العرب قصائد إليزابيث بيشوب أو رالف والدو إيمرسون؟
لأول مرة لم يجب الأمريكي عليها.
ساد بينهما صمت لم يشبه سوي طنين الذباب وكلاهما ينظر إلي قهوته التي بردت.
استطردت هيلين في محاولة منها لإشاعة شئ من الهدوء: وماذا تفعل أنت الآن في فرنسا؟ لكن أدهشها أن الأمريكي لم يجبها.
أنت تريدين أن تعرفي إن كنت قد قتلت أحدًا؟ إن كنت قد صرعت الكثير من العرب؟ إن كنت قد دهستهم تحت سير مدرعتي؟ هؤلاء الشباب البالغين من العمر سبعة عشر ربيعًا؟ أنت تريدين أن تعرفي إن كنت تجلسين أمام قاتل؟ ومن ثم تقررين إن كان الأمر مثيرًا أم مقززًا.
شعرت هيلين بالرهبة من تلك الجدية التي كست صوته.
لا هذا ولا ذاك. لقد كان الأمر في الغالب مخيفًا ومؤرقًا. لكني لا أريد أن أعطي لنفسي الحق في الحكم علي حياتك. إن هناك كثيرين يلتحقون بالجيش ليحصلوا علي مأوي ليس أكثر.
لكن هذا لا ينطبق علي.
حتي لو أثبتَّ لي استراتيجيًا وتاريخيًا عشر مرات أي الحروب كان ذي جدوي ومنفعة، فأنا لا أؤمن بالحرب. أنا لا أؤمن بالموت، لكن أؤمن بالحياة. ومحاولة إقناعي أن أي حرب تُنبت حياة بدلًا من الموت، ما هي إلا أمر جدلي بحت. أنا أؤمن بقيمة حياة كل إنسان، ولذلك فإيماني بشخصيات مثل غاندي والمسيح أكبر منه بشخصيات مثل لاكلوس وتشرشل.
هنا استشهد الأمريكي بمقولة لماتهويس: أنا لم آت لجلب السلام وإنما السيف. لقد أتيت من أجل التفريق بين الابن والأب وبين الابنة وأمها. واستطرد: إننا نقود الحروب في سبيل أناس مثلك يا هيلين، حتي يظل في مقدورهم الإيمان بالحياة، أو بحياة جديدة.
أجابت هيلين: ليس هذا رأيك، وإنما ما تردده الدعاية. لقد شنت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الحرب من أجل السيطرة علي البترول، ولأنها تريد استهلاك ترسانة الأسلحة التي لديها حتي تستطيع تجديدها، ولتظهر مدي جودتها وكفاءتها حتي تتمكن من بيعها. يوجد بالطبع لديكم قائمة طويلة من البلاغيين الخبثاء الذين يجيدون تجميل هذه الحقائق.
هيلين، أنا لا أريد أن أتشاجر معك. أنت الإنسانة الوحيدة-.
هنا صاحت هيلين في عفوية رافعة كفها في اعتراض: لا. لا. لا. أنا لا أريد سماع ذلك الكلام المكرر. أنا لا أريد أن أكون الإنسانة الوحيدة لأي شئ مهما كان.
قال الأمريكي وأومأ برأسه في إذعان وكأنه يقر بهزيمته: حسنًا.
نظرت إليه هيلين وشعرت بالندم علي انسياقها في هذا النقاش من البداية. وفكرت أنها هي نفسها تقود حروبًا بالنيابة عن غيرها.
سألته بعد ذلك: لكن ماذا تفعل حقًا في باريس الآن؟
أنا أشارك في برنامج تبادل يسمي MPEP، في إطاره يمكن الالتحاق بجيش أجنبي لمدة ثلاثة أعوام، كنوع من تبادل الخبرات الثقافية، وحصولي علي هذه الفرصة يعد امتيازًا لي وبناءً علي ذلك فإني الآن انتمي إلي كتيبة الفرسان الرابعة في فونتينبلو.
رددت هيلين الكلمة في سخرية: كتيبة الفرسان؟
قال الأمريكي في مرارة: فارس يرتقي خيلًا منزوع اللجام.
أمام فارسٍ هالكٍ مثلي لا يجب أن تشعري بالخوف، فأنا مجرد حطام، قذارة. ولم أستطع تأدية الخدمة في وحدتي الفرنسية ولا حتي مرة واحدة.
أخذ يتطلع إليها كلاعب ملاكمة ألجأه خصمه إلي ركن الحلبة.
لكن ماذا-؟ أرادت هيلين أن تسأله وهي مذهولة من تغير مجري الحديث، حين صفق تيار هواء الباب المؤدي إلي الحديقة. أصدر الباب دويًا وصريرًا في نفس الوقت. ارتعدت هيلين واستدارت وعندما عادت بنظرها إلي الأمريكي لم تجده في مكانه أمامها ولكن تحت المنضدة. بدا المشهد مضحكًا لأول وهلة، فقالت هيلين في عفوية: الفارس تحت المنضدة؟ أتنبطح وتغطي رأسك؟ لكنها سمعت في تلك اللحظة كيف تصدر أسنانه صريرًا مرعبًا، وهذا ما جعلها تظن أن شيئًا ما ليس علي ما يرام معه.
ظلا قابعين لعدة دقائق تحت المنضدة حتي سكن صرير أسنانه ودوران عينيه، كانا تحت المنضدة وكل منهما يمسك يد الآخر.
كانا يبدوان كطفلين يبتكران شيئًا، طفلان يلعبان، كأنهما في كهف بعيدًا عن الكبار وعن عالمهما. لم يقترب منهما أحد من باقي ضيوف الكافيتريا أو يوجه لهما سؤالًا، فهم في مستشفي علي كل حال، حيث من الطبيعي أن تري تصرفات غريبة ومرضية. إلي أين يمكن الذهاب بهما إذن إن لم يكن في هذا المكان؟
هذا لا يصح ... هذا لا يمكن أن يكون. ما هذا إذن؟ لماذا لا يتوقف كل ذلك؟ إن الأمر يزداد سوءًا ... أرجو المعذرة فهذا مهين، مهين إلي أقصي حد. ليتني أصبت بطلق ناري في ساقيّ بدلًا من ذلك ...
عندما عادا للجلوس علي المنضدة بدا الأمريكي وكأنه كان في حجرة البخار لتوه مرتديًا ملابسه. قال لها في يأس، ها أنتِ قد رأيتِ، ها أنتِ قد أدركتِ. قال ذلك وهو يمسح جبينه بظهر كفه في اشمئزاز.
سألته هيلين وصوتها يشوبه بعض التسلط: ما الذي دهاك بحق السماء؟
ليتني كنت أعرف. إن هذا ليس ألمًا وليس حزنًا ولا اكتئاب. هذا ببساطة ليس شيئًا محددًا، وإنما ضعف في الإتيان بالأفعال فحسب.عندما أشعر بالعطش في الصباح ويكون كوب الماء أمامي مباشرة فإن الأمر يستغرق مني نصف ساعة حتي أجبر نفسي علي الإمساك بالكوب في يدي ورفعه إلي فمي. كم من الزمن مر عليّ وأنا هنا؟ متي تقابلنا أول مرة؟ في أكتوبر من العام الماضي؟ طوال خمسة أشهر خضعت لفحوصات طبية تفصيلية. رسم قلب مع المجهود، وآشعة رنين مغناطيسي، وقياس ضغط الدم، وسكر الدم، واختبار جراثيم البوريليا. وبعد كل ذلك وجدوا أنني سليم عضويًا، كما أن التشخيص استبعد متلازمة جيلان باريه أي التهاب الأعصاب الحاد المزيل للنخاعين، والتصلب المتعدد. إلا أن شيئًا لم يتغير في حالة الأعصاب. لا أستطيع النوم وتأتيني الكوابيس ونوبات الفزع وأتفصد عرقًا دون سبب. لا أتمكن من التركيز في عمل بشكل كامل، كما تصيبني حالة أشعر معها أن قلبي ينقبض لدرجة أني أظن أنني علي وشك الإصابة بأزمة قلبية. هيلين، أنا لا أستطيع أن أسعد نفسي. أقرأ قصائد إليزابيث بيشوب ولا تتحرك داخلي أي مشاعر. أنا الآن في باريس حيث كنت أود أن آتي ولكني أري الصورة الآن وكأن هناك من نزع منها ألوانها. أنا أعرف ما هي المشاعر التي من المفترض أن أشعر بها الآن لكنها لا تأتي. أنا أتذكر المشاعر لكن لا أشعر بها. كأنها قد استُأصلت من داخلي. في فبراير حولوني من المتابعة لدي أطباء الأمراض الباطنة إلي العلاج النفسي، ومنذ هذه اللحظة بدأت الفحوصات من جديد. لقد توصلوا علي الأرجح إلي التخمين أنني مصاب بنوع من أنواع الاضطرابات النفسية، ربما رهاب الخلاء (أجورافوبيا). ومنذ أسبوعين وأنا أتناول عقار باروكستين.
وما هذا العقار؟
واحد من مضادات الاكتئاب، مثل عقار بروزاك، بلغة الطب يعد هذا العقار من مثبطات امتصاص السيرتونين. لا تسألي من فضلك عن كيفية عمل هذا العقار فأنا أيضًا لا أعرف. وفي خلال ذلك يستمر الفحص لإثبات إن كان هذا نوع من الاضطرابات النفسية أم لا. وإن كان هذا صحيحًا فما مصدره؟
هل تعاني إذن من الخوف من شئ ما؟
نعم، ولكني لا أعرف مم ولا أدري ما السبب. لقد تلقيت أفضل تدريبات علي مستوي العالم للسيطرة علي كل أنواع الخوف المادية والمبررة، وأجد نفسي الآن أقبع مرتعشًا تحت المنضدة عندما ينغلق باب بعنف.
أخذ يهز رأسه في اشمئزاز.
سألته هيلين: وماذا عن المخاوف غير المبررة؟ واستدركت: مشاعر الخوف أكثر شئ طبيعي في الكون، لا سيما وأنك جندي.
تأملها ثم قال: نعم، قد يكون هذا صحيحًا، لكنه في نفس الوقت أكثر شئ غير محتمل. عندي أمل أن يتوصل الطبيب إلي الأسباب. من دواعي السخرية أن الطبيب إيراني، د. مهران. لكن هذا ليس له علاقة بثرثرتي.
قالت هيلين: يمكنك الوثوق في الأطباء هنا، فهم الأفضل علي الإطلاق.
سألها الأمريكي في فظاظة: ولماذا لم يفلح الأمر معك إذن؟
هزت هيلين كتفيها وقالت لم يحالفني الحظ.
لكن ما السبب؟
لم يكن هناك سبب.
دائمًا هناك سبب.
لكنني لا أعرفه علي كل حال.
لكن ماذا قال الطبيب؟
لا شيء علي الإطلاق. هو أيضًا لا يعرف، فلابد أن يقوم علي تحليل الحالة أولًا، وردت علي نظرته قائلة: أقصد أن هذا الأمر لا يسير مثل خط إنتاج السيارات، إذ يجب تجربة كل الاحتمالات مع بعضها، وهناك خطوة ما من هذه التفاصيل لم تفلح، لكني لا أزال متفائلة.
أومأ الأمريكي برأسه.
سألته هيلين: بالمناسبة هل لديك أسرة؟
لم يعد لدي.
صمتت هيلين في انتظار أن يكمل حديثه، لكنه لم يكمل. شعرت أن الكلام سيجعله في حال أفضل فسألته: لم يعد لديك؟ ألقت سؤالها علي مسامعه والخوف يعتريها من الاستماع إلي كارثة أخري ليس لديها حقًا القدرة الكافية لتحملها.
كالمعتاد. الطلاق.
يا إلهي. يؤسفني ذلك. هل لديك أطفال؟
رد قائلًا: كان لدي بعضهم. وعندما رأي كيف تبتعد عيناها عنه، استطرد: بالطبع هم لا زالوا علي قيد الحياة ولكن لأنهم بعيدون عني الآن فوجودهم مثل عدمه.
ليس إلي هذا الحد.
قال وهو شارد الذهن: لا، بل ربما أسوأ.. فكر هنيهة ثم قال: وعلي الرغم من ذلك دعينا لا نبالغ في الأمر. فقد رأيتهم فيما مضي مرات نادرة، أحوالهم جيدة ولديهم الآن أسرة جديدة، وعلي حد علمي لديهم الآن إخوة جدد غير أشقاء. لقد تزوجنا عام 1983 بعد انتهاء دراستنا الجامعية مباشرة، ثم أنجبنا أنطوني، وانتقلت في عام 1984 إلي ألمانيا، لكنها لم ترافقني ومكثت ترعي طفلنا عند والديها. وفي الغالب لم يكن ذلك قرارًا صائبًا. أنجبنا عام 1985 كاثرين، وفي عام 1986 أرسل لي محاميها دعوي الطلاق. وكما ترين فأنا بالكاد أتذكرهم، لقد كانوا صغارًا في ذلك الوقت. تزوجت طليقتي مرة أخري في ولاية شيكاغو. وأظن أنهم سعداء.
ألا تري أبناءك إذن بانتظام؟
أجاب الأمريكي في لهجة حاسمة: لا. وهو ما جعل هيلين لا تجرؤ علي طرح مزيد من الأسئلة.
غلفهما الصمت، ثم قال: يمكنك الانصراف إذا كان لديك مواعيد أخري. فأنا أشعر بتحسن الآن ويجب أن أذهب حالًا علي كل حال إلي جلستي.
أرادت هيلين أن تقول له أي شئ لتشجعه، لكن لم يخطر ببالها شئ. وفي النهاية قالت: كيف ستعود إذن إلي الفروسية؟
في الوقت الراهن ليس لدي أدني فكرة. أنا أُعالج هنا حاليًا بشكل مؤقت لعدة أسابيع.
فهمت.
لقد طالعت الصور القديمة التي تعود إلي الحرب العالمية الأولي الموجودة هناك بالأسفل، أشاهدها ليلًا عندما لا أستطيع أن أخلد إلي النوم.
تبسّمت هيلين له في تعاطف.
لكن هل تعلمين أن كاتبًا شهيرًا كان هنا ذات مرة.
هكذا إذن، ومن هو؟
سكوت فيتزجيرالد، أو بالأحري زوجته زيلدا عام 1925. يقال إنها كانت مصابة بالتهاب في المبيض واشتباه في مرض التهاب الصفاق. لكن الإشاعات تقول إنها في الحقيقة كانت تجري عملية إجهاض.
ابتسمت هيلين وقالت: لا أتصور أن المستشفي قد أجري عمليات إجهاض، توجد سيدات في باريس لهذا الغرض ...
قاطعها الأمريكي: لا بد أن تحكي لي يومًا ما عن سيدات باريس.
قالت هيلين: سآتي إلي هنا بضع مرات أخري. أين يمكنني أن أجدك إذن؟
عندما تمرين من داخل المقهي والمطعم متوجهة إلي الاتجاه الآخر حيث المبني الجديد، ثم تصعدين إلي الطابق الثاني، القسم الخامس. ستجدين هناك موظفين في الاستقبال يعرفون أين أنا.
أومأت هيلين برأسها. أتمني لك كل الخير. إلي اللقاء قريبًا.
كل ما أردت أن أقوله لك في البداية هو أنك الإنسانة الوحيدة التي أعرفها هنا.
أومأت هيلين برأسها ولوحت بيدها مودعة.
لقد وُلدت ُبينما كان والدي يؤدي الخدمة العسكرية في الجزائر. هذا ما قالته هيلين في لقائهما التالي مجيبة علي سؤاله عن سبب نفورها من الحرب والجنود.
صحيح أنها لم تكن حربًا حقًا، وإنما تدخلات لإقرار التهدئة ضد عناصرمتمردة. لقد تعلمت الكلمات في وقت مبكر للغاية بالفعل، تلك الكلمات التي أتي بها من هناك، سكان شمال أفريقيا (Bougnouls)،والجرذان (کatons). لا لم يقودوا حربًا هناك، بل كانوا يصطادون الجرذان. كان يطلق علي هذا التدخل عملية تمشيط، بل هي عملية إبادة. وبينما كان والدي هناك بعيدًا اتخذت أمي لها عشيقًا، العم جان لوس. كان هذا الرجل جنديًا حقيقيًا في سلاح الطيران، وقد تعرفت عليه في مدينة ملاهي فور دي ترون. ارتدي في ذلك اليوم زيا أنيقا أزرق اللون وكان يسحب عربة الأطفال التي أرقد فيها. بالطبع أنا لا أذكر ذلك، لكن هناك الصور، وارتدت أمي فستانًا منقوشًا بالورود ونعلين ماركة كوكو، ممسكة في يدها بالونتين. كان يمسك هو بالسلاح ويقف أمام منصة النشان. فيما عدا ذلك كانت تترك الطفلة في أغلب الأوقات لدي أمها. لا أعرف إن كان أبي قد عاقر الخمر بالفعل في الجزائر أم بعد عودته من هناك. عندما بلغت من العمر أربع عشرة سنة مات أبي بمرض تليف الكبد. لكنه لم يحكِ شيئًا عن الجزائر. لا أدري إن كانت الجزائر هي التي تسببت في وفاته أم أمي. يبدو أن قواه قد خارت بسبب الجزائر مما جعله غير قادر علي معارضة أمي،لكنه لم يقو علي ذلك لسبب آخر بالطبع، وهو أنه كان يحبها لدرجة التقديس علي الرغم من كل شئ، فقد كانت سيدة شابة حظيت بنصيب كبير من الجمال قبل أن يزداد وزنها. وكانت متمردة علي العكس من أختها الكبري. طالما روت لنا أنها واعدت ميلس دافيس مرة في سان جيرماين، لكني لا أعرف إن كان ذلك قد حدث فعلًا. أظن أنه في الغالب لم يحدث. انتقلنا من المسكن وأنا بعد في الثالثة من العمر،وابتعدنا عن باريس لوضع حد لهذه العلاقة. انتقلنا إلي حي حديث به بنايات متعددة الطوابق في مولان، وقد كانوا أسسوا هذا الحي علي عجل من أجل من أطلق عليهم حينها الأقدام السوداء (أي المستوطنون الأوروبيون الذين عاشوا في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي)، لكن الحركيّين الجزائريين الذين خدموا في الجيش الفرنسي، انتقلوا بدورهم إلي هناك ثم لحق بهم الجزائريون في السبعينيات. ومن ثم فقد وجدأبي سكان شمال أفريقيا أمام ناظريه مرة أخري، بل وفي نفس الرواق. كان هذا الحي يسمي لابير كولينيه. وقد فصلوهم عن بعضهم في النهاية مرة أخري. بيد أن مولان لم تكن بعيدة بالقدر الكافي عن باريس.
أحببت جان لوس كثيرًا.كان يحضر لي شيئًا معه في كل مرة. عندما يأتي بعد الظهيرة يتوجب عليّ أن أجلس في الشرفة المرتفعة في الطابق الحادي عشر حيث كنا نقطن وحيث يمكنني أن أري موقف السيارات وأخبرهم عندما أري سيارة أبي البانهارد الزرقاء وهي تنحرف، حتي يتبقي أمام جان لوس وقتًا للخروج. إنه ينزل علي سلم البناية بينما يكون أبي في المصعد. وفي وقت ما توقفت أمي عن تهوية الغرفة قبل عودة أبي من العمل.
تذكرت هيلين هذه الرائحة التي هي خليط من العرق ورائحة السجائر وعطر شانيل No5 والفراش غير المرتب، تذكرت عيني أبيها الباحثتين في خوف عندما ولج الشقة. لقد حكت له ذات مرة من باب التعاطف معه عن العم جان لوس، وهو ما كانت أمها قد نهتها عنه بشدة، كما أرته مسدس الماء ذي اللونين الوردي والأخضر الذي كان قد أحضره لها.كانوا في الصيف، وفي الشقة المنخفضة القبلية الحارة، أمسكت هي بالمسدس المائي ووضعت مقدمته في فمها وأطلقت الماء الدافئ داخل حلقها. حملها علي ذراعه وسحب بيده الأخري الحزام الجلدي من السروال وثناه وأخذ يهوي به بشدة علي مؤخرتها، ومع كل ضربة كان يصيح: يجب ألا تكذبي! يجب ألا تقصي أكاذيب عن أمك! انزلق سرواله لأنه كان قد انتزع الحزام منه فبدا سرواله الداخلي من أسفل قميصه الأزرق الفاتح قصير الأكمام، فاضطر أن يتوقف، وسحق مسدس الماء تحت حذائه الأسود اللامع فحوَّلَه إلي فتات من اللونين الوردي والأخضر. اما أمها فقد أدارت جهاز التلفاز حني لا تسمع الصراخ.
مع بلوغها الثانية عشرة من عمرها انتقلت للعيش مع جدها وجدتها في شقتهم الصغيرة في المباني المخصصة لعمال السكك الحديدية في شارع باتنيول، حيث عاشت خالتها غير المتزوجة أيضًا، الأخت الكبري لأمها، وكانت تقاسمها الغرفة. توفي جدها بعد طلوعه علي المعاش بفترة وجيزة، كانت تحب أن تتذكر البيت الذي عاشوا فيه كثلاث نساء ينتمين لثلاثة أجيال. قُبلت في مدرسة شابتال لأنها كانت تلميذة جيدة، وكان نادي التلاميذ الشيوعيين الماويين يلتقي في مقهي في ميدان كليشي بالقرب من مطعم فيبلر فيقرأون أعمال ألتوسير. لكن كل ذلك حدث فيما بعد.
وأمُّكِ؟
كان العم جان لوس متزوجًا هو الآخر ولديه ابنة في مثل عمري. أذكر أننا كنا نذهب في رحلات مع بعضنا إلي بوا دي فانسان. كان هو يمارس رياضة التجديف، أما نحن فكنا نضع أيدينا في الماء ليسحبها معه. حاول أبي التخلص منه مرة أخري وانتقل مرة أخري من مولان إلي أوسير، علي بعد مئة كيلو متر أخري.
لكن هيلين لم تذهب معهما هذه المرة وهربت إلي رعاية جدتها بعد شجارات شنيعة بينهما، وبهذا عادت مرة أخري إلي باريس. أما أمها فقد أقنعت جان لوس فيما بعد أن يترك زوجته وذهبا سويًا إلي الضواحي. لكن هذا الوضع لم يستمر لأكثر من نصف عام.
يبدو أن الحب الذي لم يعد في أوجه كما كان، لم يستطع الصمود. فقد غدت أمي، التي أدمنت شرب الخمر مثل أبي، شرسة ولم تعد جميلة كما كانت قبل ذلك. وفي كل الأحوال فقد عاد جان لوس إلي أسرته نادمًا بعد مضي نصف عام، وعادت أمي إلي زوجها في الوقت المناسب لترعاه في الشهور الأخيرة وتدفنه.
وماذا حدث معها بعد ذلك؟
بقِيَت في أوسير في شقتها حتي أخذتها دار رعاية المسنين قبل عدة سنوات. لقد حاولتُ أكثر من مرة بعد وفاة أبي في البداية أن أعيد الصلة بيننا وأن تنشأ بيننا علاقة صداقة، ثم بعد ذلك حاولتُ الإبقاء علي العلاقة العادية بيننا علي الأقل، وفيما بعد تحول الأمر إلي محاولات للمساعدة. لكن كل ذلك لم يُجدِ نفعًا. لقد كرِهَتني. وكنتُ بمثابة العقبة الكئود التي أجبرتها علي العيش في حياة لا تحبها مع رجلٍ وطفلة.
أصبح الجنود في نظري صورة لأبي الذي يقضم أظافره، وانعكاس البغض المزلزل للعرب الذين كان يقابلهم بالأسفل في موقف سيارات البناية وينتظرون معه أمام المصعد ذي الباب المطلي باللون الأزرق، والنقيب الطيار جان لوس الطويل الضاحك الواثق من نفسه، الذي أخذ مني أمي وأحضر لي معه الهدايا لمواساتي.
حكي الأمريكي أن لديه ذكريات أخري ارتبطت بكلمة جندي.نسخة من لوحة المذبحة للرسام وينسلو هومير المسماة »‬Prisoners from the Front» المعلقة أعلي صوان غرفة المعيشة بجانب شجرة التين. يقف ضابط الاتحاد طاويًا يديه خلف ظهره مقدمًا إحدي ساقيه في استبداد ونفاذ صبر، ويُساق أمامه ثلاثة أسري كونفدراليين، يبدو اثنان منهم في حالة تحطم واستسلام تام، بينما يقف الثالث ذو الشعر الطويل في وقاحة وصفاقة واضعًا يديه إلي جنبيه ويقدم إحدي ساقيه علي الأخري في تحدٍ.
كل ما تمكنتُ من فهمه من هذه الصورة كطفل؛ كل تفصيلة داخلهاوالقصص التي ترويها،رافقتني حتي في أحلامي. حربة جدي الصدئة المعلقة علي الحائط، الملابس الرسمية ذات الأزرار النحاسية اللامعة المثبتة بكل دقة علي كسرة المكواة، ملفوفة في ورق الزبدة الناعم وهي قادمة بعد تنظيفها وكيها، الطلقات الاحتفالية في الاستعراضات العسكرية داخل الثكنة العسكرية. كان أبي يقف صباح أيام الأحد قبل القداس في دورة المياه ليحلق ذقنه ويطلق صفير لحن ريفر كواي مارش. أتذكرأبي الذي علمنا أنا وأخي كيف نلمع الأحذية، أرانا صغارًا نقف مع أمي علي البوابة ونلوح له مودعين عندما يحمل حقيبة أسفاره في يده متجهًا إلي السائق الذي حضر لأخذه مؤديًا التحية العسكرية، وأري أمي التي تبكي عندما تحدث الرئيس ليندون جونسون في نفس الليلة في التلفاز. لازلت أذكر صندوق الأوسمة الزجاجي الصغير فوق الصوان. عندما بلغت الرابعة عشرة من عمري ترك أبي الخدمة العسكرية بعد أكثر من عشرين عامًا، وقد كان ذلك قبل أو بعد اتفاقية باريس بقليل. نحن عائلة جنود كما قلت لك، توارثنا ذلك أبًا عن جد. شعر حينها ببعض الحنق والتذمر لأنه كان يأمل أن يخرج من الخدمة علي رتبة جنرال، لكن تم تسريحه وهو بعد علي رتبة عقيد. لقد بدأ الأمر مع جدي، لا، في الواقع مع جدي الأكبر كوت، الذي ارتحل من كندا في وقت ما مع نهاية القرن التاسع عشر، تحديدًا من كويبيك، وكان ابنه هو من بدأ هذا التقليد الأسري، جدي بطل الحرب. هل يذكرك اسم بيلو وود بشيء ما؟
غابة بيلو؟
قالت: لا. لا شيء.
أظن أن الاسم الصحيح هو لابوا دي بيلو عند شاتو تيري الواقعة علي نهر المارون. لقد كان انتصارًا تاريخيًا للقوات البحرية في يونية 1918، وكان جدي مشاركًا فيها وهو بعد في العشرين من عمره. إنها أسطورة القوات البحرية. لقد تربيت علي مثل هذه الجمل القاطعة التي كان أبي يكررها دائمًا وأبدًا، أما جدي نفسه فلم أره مطلقًا. هل تتراجع؟ الجحيم، إننا نذهب إلي هناك فقط. وهناك مقولة أخري، أعذريني فهي سُبة أكثر منها جملة:
»‬ome on، you sons of bithes، do you want to live forever?
تعالوا إلي هنا يا أبناء العاهرات، هل تريدون أن تحيون إلي الأبد؟ وكان هذا للحث علي اختراق حقل للحبوب لمهاجمة خط دفاع الألمان (MG-Stellung). وهكذا يمكنك فهم الصورة كاملة: يقول المسيح »‬أنَا المحَبَةُ وَالحَيَاةُ»، كما كنا نسمع أيام قداس الأحد. وهذه هي أسرتنا.
لا يمكن أن تكون صدفة أن يكون مآلي إلي وحدة عسكرية شعارها »‬First to fight» لا، هل تتذكرين أني قد قلت لك أنني يجب أن أريكي كونكورد كي أوضح لك شغفنا الوطني. لكن لا تزال هنالك وسيلة. عندما عشنا لفترة في فرنسا، قام أبي معنا برحلة إلي النصب التذكاري آن مارن ميموريال. وهناك ألقي جنرال خطبة نُقشت علي الحجر وحفظناها عن ظهر قلب أنا وأخي، أما أختي فلم تكن مضطرة إلي ذلك لكونها فتاة. لازلت أحفظها حتي الآن:
دومًا ما يأتي الجندي المحنك إلي هنا ليعيش مرة أخري أيام البطولة تلك التي عاشها من قبل في يونيو منذ زمن بعيد.إننا نؤسس هنا الهياكل الوطنية الجديدة الخاصة بنا، هنا نجدد تلاوة القسم علي التضحية والتعهد فداء الوطن. سيحج مواطنونا إلي هنا في أوقات الحزن، وحتي في أوقات السرّاء ليجددوا قدراتهم الباسلة عند ضريح البطولات هذا.
علقت هيلين بقولها: ليس سيئًا. لكننا نحن الفرنسيين لا تنطلي علينا بلاغة البطولات تلك، فهذا النوع من النفاق تتعثر فيه هنا عند كل حجر في الطريق.
وجد الأمريكي نفسه يضحك، وقال: أنتِ حقًا لا تستحين يا هيلين.
قالت هيلين: وبسبب هذا التقليد العائلي لم يكن في وسعك إلا أن تصبح بطلًا؟
نعم، ربما. علي الرغم من أن ذلك لم يكن سهلًا إلي هذا الحد.
وأخذ يتذكر كيف أن كل المؤشرات كانت ملائمة لأخيه الأصغر جريجوري، فقد كان جريجوري هو الشاب الشهير، لاعب البيسبول، ابن أبيه، حتي أنه كان يشبهه في ملامح وجهه، بينما هو وإيزابيل يشبهان أمهما. أثناء طفولته وشبابه كان هو من النمط الهادئ، الذي يميل إلي الوحدة ويمارس رياضة السباحة، يقوم وحده برحلات تجوال طويلة عبر الغابات، ويراقب الطيور. ولم تكن كل هذه الأشياء سببًا كافيًا ليحظي بالاحترام داخل المدرسة.
لقد تبدلت الأمور منذ ذلك الحين الذي كان يُطلق عليّ في المدرسة اسمًا كريهًا، الولد السلحفاة، بسبب السباحة وغيرها من الأشياء. لكن يجب أن أوضح لك الآن أن الولد السلحفاة، أي الولد ذو الصدَفة ما هو إلا تمثال وعلامة تجارية خاصة بورسستر، لكنه في نفس الوقت، وبسبب طريقة عرضه، عُد مصدرًا للتشبيهات والنكات السخيفة. وعندما يُنعت أحدهم في ورسستر بهذا الاسم، فلا يتبقي أمامه في الحقيقة سوي أن يلجأ إلي الترحال أو الانعزال. ويبدو أن الرغبة في التخلص من هذا التنمر،ولأتمكن من حماية نفسي منها، بدأت في ممارسة التجديف وازداد حجم عضلاتي بمقدار خمسة عشر كيلو جرام خلال سنتين. وفجأة لم أعد ذلك الشاب الضعيف، وإنما مراقب التجديف المزدوج، وبالتعاون مع صديقي ربحنا مسابقات وجوائز للمدرسة. وقد بدأت هذه الأمور تطيب لي بشكل أو بآخر، الرياضة، والشعور بالمسئولية، وتمثيل الغير بشكل معين. سرعان ما أبلغ جريجوري أبي أنه يريد أن يصبح رجل قانون، وأن الالتحاق بالجيش أمر مستبعد تمامًا من تفكيره. ولأن تقاليد العائلة تقتضي علي كل حال أن يحمل الابن الأكبر الراية، حيث كان جدي هو الابن الأكبر، فقد قبلت أنا هذه المهمة. ولم أجد تعارضًا بين ذلك وبين ميولي الأخري. رجل يهوي القراءة و في نفس الوقت رجل الأفعال. كان هذا هو النموذج المثالي الذي طاف بمخيلتي.
قالت هيلين: ثم حدث أن أتي جدك بشكل أو بآخر إلي هنا.
حرك الأمريكي رأسه نفيًا وقال: لم يكن سائق سيارة إسعاف، ولكن متطوع في الحرب. بعد الطلقة التي أصيب بها وتسببت في تحطيم كتفه، وحينها كان ذلك من حسن حظه في ظل الصراعات التي جرت في بيلو، حيث دارت المواجهات باستخدام سلاح السونكي وبالأيدي المجردة، فانتقل علي إثر هذا الجرح، الذي أصيب به في سبيل الوطن، إلي المستشفي الميداني، ثم عاد في أغسطس 1918 إلي الديار، تغطيه الأوسمة. كان والدي الابن الوحيد، حيث أجهضت جدتي بعده خمسة أجنة تقريبًا، ولا أعرف السبب.
ثم صار هو الآخر جنديًا.
نعم، لقد التحق بالأكاديمية العسكرية، وشارك في شبابه المبكر في حرب كوريا، وبعد خمسة عشر عامًا،ذهب، وهو في رتبة مقدم، إلي فيتنام ...
قطعت الكلمة الحديث.
قالت هيلين: والآن أنت. هل تعني أن بلادك ستظل تشن الحروب بهذا الشكل المنتظم، حتي يستطيع ابنك أن يشارك في إحداها؟
يجب. يجب أن يشارك.
لكنك أدركت بالفعل بعد كل هذا أن الحرب ليست سعادة خالصة بالنسبة للجنود.
بالتأكيد لا. إنها مزيج عجيب من مشاعر الفخر اللحظية وذلك الشعور بالخوف يسري في المعدة، هذه المشاعر تصيب الإنسان بالشلل وتؤثر علي حركة أمعائه، قدر كبير من تعقيدات الروتين الحكومي لا يمكن وصفه، وأوضاع وسياقات غير واضحة، وغباء إداري. إن الحرب تجربة لا يمكن إغفالها. حتي الجنرال يري بالكاد بشكل أفضل من فابريك في ووترلو، نحن هنا ننتظر وننتظر ونحاول تنظيم مخاوفنا، ونحاول التركيز، ونحاول العمل بأعلي كفاءة، وألا تتفلت منا سلسلة الأوامر بسبب ضعف دواخلنا أو الاستغراق في التفكير، ونقول لأنفسنا دومًا: أنا أفعل ذلك من أجل هدف أسمي. أنا أفعل ذلك حتي ينتصر الخير. ما أفعله ينبع من روح التضحية، بدونه لن تقوم أي حضارة. وبالطبع نأمل دومًا أن تكون الحرب التي ننغمس فيها لتونا نهاية لكل الحروب.
لابد أن جدك كان صغير نسبيًا عندما تُوفي، بما أنك لم تعرفه.
قال الأمريكي: نعم. لم يكن قد بلغ الستين من عمره،بعد حرب كوريا بفترة وجيزة. ولم يكن أبي قد تزوج بعد. نعم، لقد عاني من الشلل الرعاش، وفي آخر عامين من عمره كان يلازم الكرسي المتحرك الذي تدفعه جدتي في كل الأنحاء. حينها لم يكن ثمة ما يكن فعله حيال ذلك.
وجدتك؟
كانت سيدة عظيمة. لقد أطلق عليها الجميع اسم ما كوت. لقد توفيت في العام قبل الماضي، بعدما صارت طاعنة في السن. كانت رائدة بحق. سيدة لا تلزم المنزل. لقد كانت تذهب معي لمراقبة الطيور وتحكي لي عن الماضي. ذات مرة أهدتني منظار جدي المكبر، ووضعت لي بعض الخبز، ثم انطلقنا سويًا في السير. كانت عضوة في نادي فوربوش بيرد. ذهبنا سويًا إلي متنزه روتلاند ستيت، وإلي خزان واشوسيت، وإلي حديقة كاسكيدز. ذهبنا إلي كل الأماكن التي ذهبت إليها بمفردي فيما بعد. لقد عرفتني علي الطيور؛ طائر السمان، وطائر الطيهوج، والفيبي الشرقية، والهازجة الزرقاء سوداء الحلق. الأسماء وحدها يمكنها أن تُشكل قصيدة. وأحيانًا نستريح بعد ذلك بعض الشئ عند قبر جدي، تجلس جدتي وتنتف بعض الأوراق حول الزهور وتتحدث معه كأنه يجلس بجانبها علي الأريكة. يا زوجي العزيز، لقد كان يومًا جميلًا، قضيته مع الصغير في الغابة، وكيف حالك أنت؟ أرجو أن تكون بخير في هذا الطقس الجميل. لا بد أن أتذكر غدًا صباحًا أن أشعل شمعة في الكنيسة لروح الجد كيرواك.
قاطعته هيلين بقولها: هلا ذكّرتني؟ - ألم تقل له كذلك: هلا ذكّرتني؟ لأن جدتي كانت تفعل ذلك دائمًا عندما تذهب إلي قبر جدي. في الغالب مرة واحدة في العام لأنه دُفن خارج المدينة في تيا والطريق إلي هناك بعيد، كانت تذهب في الغالب في عيد جميع القديسين. يخرج الناس في أعداد كبيرة إلي الشارع الممتد قادمين المترو أو محطة الحافلات، يقفون لدي بوابة محل الزهور في طابور ويستعيرون جواريف وأباريق الري، ثم يهبطون كقطيع من البستانيين إلي ساحة المقابر. كان مشهدا ضخما، لا يمكن أن تمر دون أن تراه، في طرق السيارات بين صفوف المقابر. قطاعات، نعم كانت تسمي بهذا الاسم. لم يكن المكان جميلًا، قليل من النباتات البرية، مصممة بشكل هندسي مبالغ فيه. علي أية حال من يعرف أين يرقد ذووه الذين يبحث عنهم، يجدهم. يستغرق الطريق من المدخل عشرين دقيقة سيرًا علي الأقدام، وجدتي لم تكن تسير بشكل جيد، لأنها كانت تعاني منذ شبابها في وقت الحرب من التهاب المفاصل الروماتويدي ويقال إن ذلك بسبب سوء التغذية في أثناء فترة الاحتلال. في العامين الماضيين كانت تتحرك بواسطة عربة تشبه عربات ملاعب الجولف. نعم، كنا نقضي هناك الجزء الأعظم من عيد القديسين كل عام.
نأحذ معنا وجبات خفيفة، ونزيل أوراق الأشجار الذابلة المتساقطة حول المقبرة، وننظف حواف المقبرة الخشبية بفرشاة الأظافر، وننظف الأجزاء الداخلية العميقة للحروف الذهبية المحفور بها الاسم علي الحجارة بفرشاة الأسنان لنزيل صدأ النحاس، وننزع نباتات الخلنج القديمة التي زرعناها العام الماضي ونزرع غيرها ونرويها، ونزيل الحشائش ونجرف الحصي. نعم. وتبدأ جدتي في الحديث مع زوجها. تقول له: جوس، فقد كان يدعي أوجوستي. جوس، انظر إلي، لم يعد يمر في حياتي أي جديد. لقد اعتصم زملاؤك مجددًا هذا الخريف. كانت تحكي هذه القصة دائمًا، فقد كان جدي عضوا مخضرما في النقابة. وكانت تقول مثلًا: لا بد أن أرسل لفلان بطاقة تهنئة بمناسبة تعميد حفيده، هلا ذكّرتني؟
ابتسم الأمريكي وقال: إننا نتحدث عن الموت والمقابر فحسب. علينا أن نتوقف عن ذلك.
قالت هيلين: لكن هذا الحديث ملائم للمكان هنا حيث مرحلة البرزخ.
رفع الأمريكي حاجبيه متسائلًا.
بلي. هنا في هذا الممر يحدث ما يطلق عليه تغير حالة المادة. هنا يخرج الأطفال للحياة، ويتم إخراج الرُّضع الصارخون من هنا. إلي هنا يدخل المحتضرون ثم يتم التخلص من النعوش في تكتم من المخرج الخلفي. وبين هذا وذاك، بين الأسرّة وعلي الأجهزة وفي غرف التشاور والمعامل، كل شئ ممكن. المستشفي هو المعبربين الحياة واللاحياة.
الكل يصارعون فقط من أجل الحياة. كل موت وكل ... كل حالة مستعصية هي في حقيقتها هزيمة.
ونحن لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بالهزائم، قالتها هيلين وهي تتطلع إليه.
أجابها بنظرة أخري وقال: نحن لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بالهزائم.
صمتا لبرهة، ثم اقترحت هيلين القيام بجولة في الحديقة لأنها ترغب في التدخين. نبهها إلي أهمية الابتعاد عن التدخين في أثناء الحمل. زمجرت هيلين، وقالت إنها ليست حاملًا بعد، كما أن هناك حدودًا لما تفعله بنفسها وما ترغب في التنازل عنه وما لا ترغب.
وأضافت أن التدخين ليس من ضمن هذه الأشياء. سيحين موعد التلقيح بعد ثلاثة أيام؛ إذا نجحت العملية هذه المرة، يمكنها حينئذ التفكير في التوقف عن التدخين.
ماذا تعني كلمة »‬إذا» ؟ لا بد أن ينجح الأمر. عليكِ أن تؤمني بذلك. لا بد أن تكون لديكِ الإرادة.
قالت هيلين: أوه، الرب يعلم أنني أريد ذلك حقًا.
أجابها الأمريكي: أثق أنك ستكونين أمًا رائعة.
أرادت هيلين أن تدير دفة الحوار فبادرته متسائلة: ماذا رأيت في باريس وما حولها منذ قدومك إلي هنا ؟
لم يجب. واصلا السير صامتين حتي وصلا إلي أريكة في الحديقة مستظلة بالسور الخارجي، حيث تقع خلفه بناية بها شقق غالية الثمن، يُري أمام شرفاتها ألواح زجاجية داكنة اللون. ثم جلسا.
قال الأمريكي. لا شئ. لا شئ مطلقًا.
نظرت له هيلين غير مصدقة وقالت: ماذا تعني بلا شئ. ألم يثر اهتمامَك أيُ شئ؟
قال الأمريكي وهو يغض طرفه: لا. لا شئ البتة. أنا، أنا لا أستطيع. لا أستطيع السير في أي مكان. ليس لدي ثقة كافية أن أخرج من المنزل بمفردي. لم أر شيئًا مطلقًا فيما عدا ساحة الثكنة في فونتنبلو والمنطقة المحيطة بالمستشفي. ولم أكن وحدي. فقط عندما أكون في حراسة أو في رفقة أحدهم، فيكون علي يميني ويساري شخص ما، أي محاط بحماية، ثم ... وإلا ... أصاب بنوبة هلع، فأنا أغدو مخبولًا بالمعني الحرفي للكلمة. ينتابني شعور أنني أسقط، أتداعي. أو يصيبني الدوار. أشعر أن الأسوار تقترب ناحيتي من كل الاتجاهات وتنطبق علي.
مرر يده خلال شعره وبدا عليه الارتباك، وأمسك بيده الأخري حافة ظهر الأريكة.لم تدر هيلين ماذا يجب عليها أن تقول.
إنه ذلك الرهاب من الخلاء أو الاضطراب الذي شخصه دكتور مهران وأتناول هذه العقاقير لأتعافي منه. لقد وصلت لمرحلة أنني لم أعد أرغب في الخروج من هنا إلي أي مكان. الأسوار العالية والأجهزة والمعاطف البيضاء، كل هذه الأشياء تشكل عالمي الآمن. لقد عدت مجددًا طفلًا صغيرًا في بيت أبويه، أو مجنون يشعر داخل مستشفي الأمراض النفسية بأنه في منزله. أعذريني إن كنت أزعجك بكل هذا، صدقيني، أنا نفسي منزعج. أحيانًا ...
قالت هيلين متسائلة عندما لم يكمل كلامه: ماذا؟
أشار الأمريكي بالنفي وقال: لا. لا شئ. ومن ثم قرر أن يطلب منها سيجارة. وضعت العبوة بينهما علي الأريكة، وفي النصف ساعة التالية التي قضياها سويًا، دخن هو خمس سيجارات دون أن يلحظ ذلك. كان لدي هيلين قدر عالٍ من اللباقةفلم تنبهه لذلك.
سألته هيلين في النهاية: وعندما تقود سيارة؟
ابتسم ابتسامة باهتة وقال: هذا خطر عام. أحيانًا أطلب سائقًا لأي مهمة وأرجوه أن يطوف بي في طرق أطول. وهذا كل ما رأيته حتي الآن من باريس. سر بنا في شارع الشانزلزيه من فضلك أو سر علي امتداد طريق ريفولي.
عندما تذهب في رحلة مماثلة برفقة أحدهم يمكنك الذهاب إلي موريه، موريه سيور لوان. هي ليست بعيدة عن فونتنبلو.
وماذا يوجد هناك؟
ابتسمت هيلين وقالت لنفسها: ذكريات. لقد ظهرت هكذا من تلقاء نفسها، نابعة من إحساس داخلي بضرورة مجابهة الأسي بعض الشئ، ذلك الأسي المتجلي في صوت الأمريكي أكثر مما يستشف من كلماته.
لكنها قالت: الجمال. سيسلي، حيث يمكنك رؤية أكثر صور الجمال بهجة. إنها دواء للروح. أنت بالتأكيد تعرف سيسلي، الفنان الانطباعي؟ ألفريد سيسلي؟ لقد رسم معظم أعماله هناك، كما أنه ووري التراب هناك أيضًا. إنها قرية هادئة وصغيرة، ولم تتغير منذ ذلك الحين كثيرًا. إنها فرنسا الجميلة.
قال الأمريكي: سيسلي؟ ساعديني بعض الشئ. هل توجد لوحة معينة مشهورة له؟
هزت رأسها نافية وقالت: ليس مثل أقرانه مونيه ورينوار. لكنه الأكثر شاعرية بينهم، واقتصرت أعماله الفنية علي رسم الطبيعة. وقد توفي حتي قبل أن يُعرف.
سأل الأمريكي: هل يوجد هناك متحف؟
ضحكت هيلين. لا، لا يوجد هناك الآن متحف في الواقع. لكن الكنيسة لا تزال مثلما رسمها، بلون أحجار المُغرة البني المائل للحمرة من الجهة المقابلة للشمس، واللون البنفسجي في الظل، وسقفها علي شكل قبة من حراشف الأسماك الحمراء. اللوحة بالكامل تبدو علي شكل فتات كأنها قلعة رملية تسلطت عليها أشعة الشمس لفترة طويلة. كما أن النهر لا يزال كما هو منذ ذلك الحين ...
كانت تتبسم مع كل صورة تمر بخاطرها.
طلب منها الأمريكي أن تتابع الحكي، وقال: حتي لو لم أكن أعرف هذا المكان بالمرة، أشعر كأنني أراه.
نعم، تسير علي امتداد نهرلوان، عبر المراعي الرطبة، يمكنك سماع صوت القطار علي الجانب الآخر من الطريق، كما يتجسد في لوحاته. يمكن أن تسير بعدها حتي سان ماميس حيث يصب نهر لوان في نهر السين. تري النهر حينًا في لون زرقة السماء وحينًا أخضر داكن اللون، ويقف الصيادون أسفل الكوبري ممسكين بصنارات قوية، كما رسمهم سيسلي.
إذا جلست هناك في هذا الموقع، فإن الوقت يُمسك بالطُعم ويظل معلقًا بالخطاف.
سألها الأمريكي: هل كنتِ هناك قبل ذلك؟ هل لهذا المكان مكانة في نفسك؟
نعم، ظللت لعدة أعوام أذهب إلي هناك كل ربيع، لكن ليس في موريه نفسها، بل علي بعد بضعة كيلومترات علي امتداد النهر، في مونتيني. وقع زوجي في غرام هذه الأماكن، ونحن الاثنان وقعنا في غرام فندق صغير في هذه الناحية.
انتظرها حتي تكمل حديثها.
فندق فان روج، الواقع مباشرة علي السد حيث يمكنك سماع هدير الماء طوال الليل من الغرفة. يقبع في الاستقبال ببغاء كبير، من نوع ماكاو الأمريكي، يخلط ريشه بين اللونين الرمادي والأحمر، ويلقي الدعابات مع سيده. كنا نذهب إلي هناك دومًا في بدايات مارس.
في المساء أذاع التلفاز حفل توزيع جوائز سيزار وقد اغرورقت عينا هيلين بالدموع بينما تشاهد بيرنارد بلير وهو يخطو ببطء ومعاناة مرتقيًا خشبة المسرح ليتسلم جائزة تكريمه، وقد غدا مظهره أقرب لظل إنسان، حيث تحول ذلك الوجه المستدير الممتلئ إلي وجه نحيل ذابل. هذا الرجل الذي أقر ضوابط للممثلين علي مدي قرابة نصف قرن، حيث شق طريقه من الكواليس وصولًا إلي خشبة المسرح ليقف خافضًا عينيه وسط حفاوة الترحيب به.
كنا نمشي في الغابة طوال النهار، إنها الغابة الشاسعة في فونتنيلو التي كان يمارس فيها الملوك الصيد يومًا ما.
سألها الأمريكي: أنت تحبين هذه المقاطعة الفرنسية، أليس كذلك؟
أجابت هيلين: نعم. وأخذت تفكر. ربما كان شعورها هو خليط من النوستالجيا والرغبة في الهروب من الواقع. هروب من المدينة. الحياة في باريس تزداد صعوبة.
قال الأمريكي: كثيرًا ما نسمع ذلك. إنها فكرة غير محتملة بالمرة بالنسبة لمن هم مثلنا.
باختصار شديد يمكننا القول بإن الرأسمالية فائقة السرعة هي التي أفسدت المدينة، والناس الذين يعيشون فيها.
رد الأمريكي هو يغمز بعينه: أنتِ لستِ معادية للحرب فحسب وإنما اشتراكية أيضًا.
أجابت هيلين: نعم، أنا كذلك بالفعل.
أتعلمين، إن لم أكن كذلك، لكان الزمن الماضي بالنسبة لي هو الجنة بعينها، لكنت أمشط غابة فونتنبلو وأنا أحمل منظارا مكبرا ومفكرة وربما جهاز تسجيل أيضًا لأسجل الأصوات. أشعر الآن بالنشوة لمجرد التفكير في الأمر. ماذا كان اسم الفندق المطل علي الجسر ذو الببغاء؟
فان روج، فندق فان روج، في مقاطعة مونتيني علي نهر لوان. لقد رسم سيسلي كذلك ممارسي رياضة التجديف. توجد لوحة جميلة له اسمها: المجدفون في نهر السين في Saint-Mammes.
سأتناول كمية كبيرة من عقار الباروكستين وأطلب من السائق أن يقودني إلي موريه ومونتيني.
غاصت عيناه في المساحة الخضراء المحيطة بهم في الحديقة وبدا أنه لم يلحظ هذا الاستراحة التي قطعت حديثهما.
سألته هيلين في النهاية وهي تثبّت ناظرَيها علي طلاء الأريكة الأخضر المتقشر: هل تود أو تستطيع أن تتحدث عن الحرب؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.