دوّت استقالة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة على المستوى المحلي والدولي، بعد حراك الشعب الجزائري على مدار الشهور الماضية من أجل الضغط عليه لعدم الترشح للعهدة الخامسة، ورفض بوتفليقة مطالب الشعب الجزائري، وتأجيل الانتخابات، وحتى نجاح الشعب الجزائري بمواصلة الضغط في إجبار الجيش الجزائري تحت قيادة رئيس أركانه أحمد قايد صالح على التطبيق الفوري للحل الدستوري المقترح، المتمثل في تفعيل المواد 7 و8 و102، ومباشرة المسار الذي يضمن تسيير شئون الدولة في إطار الشرعية الدستورية، بإقالة بوتفليقة. واعتبرت قناة “الجزيرة”، استقالة بوتفليقة استمرارًا لتنحي الرؤساء المغضوب عليهم من الشعوب، الذين سقطوا تحت شعارات الرحيل الصارخة من أفواه ملايين الغاضبين، امتدادًا لرؤساء تونس ومصر وليبيا واليمن الذين تواروا قتلًا أو هربًا أو تنحيًا أمام مطارق الجماهير الغاضبة. وقالت إن بوتفليقة اختار لرحيله الاضطراري واستقالته الإجبارية أن تأتي في آخر شهر من ولايته الدستورية، بعد أن رددت قوى كثيرة من المحيطين به صدى غضب الجماهير، وفي مقدمة هذه القوى قادة الجيش الذين تخلوا عنه، وطالبوه في رسالة عسكرية صارمة بالتنحي الفوري دون إبطاء أو تأجيل. وأضافت أنه رغم أن استقالة الرئيس الجزائري بدت في شكلها لا في حقيقتها فعلًا اختياريًّا، فإنها مثّلت من الناحية الدستورية مخرجًا يعفي الرئيس المريض صاحب 82 عامًا من الخلع تحت بند العجز. معركة كسر العظام فيما قالت وكالة “الأناضول” التركية، إنه بعد ساعة واحدة فقط من كلمة قائد الأركان الجزائري أحمد قايد صالح، التي شدد فيها على أنه “لا مجال للمزيد من تضييع الوقت، ويجب التطبيق الفوري للحل الدستوري المقترح المتمثل في تفعيل المواد 7 و8 و102″، حتى أعلن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة استقالته رسميًّا، وكشفت كلمات قايد صالح عن معركة كسر العظام بين الرئاسة والجيش. هذا ما يؤكد أن استقالة بوتفليقة لم تأت إلا ب”ضغط حاسم” من الجيش، بعد أن تجاهل المجلس الدستوري برئاسة الطيب بلعيز، أحد المقربين والمخلصين للرئيس المستقيل، دعوة قائد الأركان لتفعيل المادة 102 وإعلان عجز الرئيس. وأكدت “الأناضول” أن أكثر ما أثار غضب قائد الأركان، محاولة شقيق الرئيس المستقيل سعيد بوتفليقة، المناورة والتحالف مع قائد المخابرات السابق محمد مدين المدعو الجنرال التوفيق، والاستعانة بالرئيس السابق اليامين زروال، للالتفاف على مقترح قايد صالح، وتشكيل هيئة رئاسية تقود البلاد خلال المرحلة الانتقالية. وقالت إنه كان واضحا أن الهدف من تحالف الرئاسة مع قائد المخابرات السابق، الذي أسس طيلة سنوات طويلة “شبكة من الأتباع”، هو إقالة قايد صالح من رئاسة الأركان، مثلما تحالف الأخير مع الرئاسة في 2015، للإطاحة بالجنرال التوفيق، الملقب بصانع الرؤساء، من على رأس جهاز المخابرات، الذي قاده لنحو ربع قرن. 3 مراكز قوى وكشفت الأناضول عن أن معادلة الحكم في الجزائر تتشكل من ثلاث مراكز قوى رئيسية: “الرئاسة، قيادة الأركان، والمخابرات”، وإذا تحالف اثنان سقط الثالث. الأمر الذي كشف عن الوجه الخشن لرئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح، حينما صرح ضد اجتماع أطراف لم يسمها، في إشارة إلى السعيد بوتفليقة (الرئيس الفعلي للبلاد حينها) والجنرال التوفيق، والذي عرض على زروال خلال لقاء به، السبت الماضي، “رئاسة هيئة تسيير المرحلة الانتقالية”، بطلب من السعيد، حسب رواية زروال، الذي رفض الاقتراح. وأمس الثلاثاء، شُنت حرب شائعات شعواء على قايد صالح، وصدر بيانان مزوران من الرئاسة يُقيل “أحدهما” الأخير من رئاسة الأركان، وهو ما نفته وزارة الدفاع، كما نفى البيان الثاني مستشارُ الرئيس علي بوغازي (إسلامي) الذي استُعمل توقيعه في بيان الإقالة المزعوم. قائد الأركان ومع ذلك تم تداول البيانين على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي، بل نشرته حتى وسائل إعلام أجنبية، وخرج على اليوتيوب من يؤكد أن السعيد بوتفليقة أقال فعلًا قايد صالح، باستعمال ختم الرئيس، وأن الأمر ليس مجرد شائعة. وقالت الوكالة التركية، إن “القرارات المهمة” التي تحدث عنها الرئيس بوتفليقة قبل تنحيه، كان من المنتظر أن تشمل إقالة قائد الأركان، خاصة وأن شعارات رفعت خلال المظاهرات المليونية الأخيرة تضمنت دعوة لإقالة رئيس الأركان، على غرار “يا بوتفليقة أنت رايح رايح إدي معاك قايد صالح” (يا بوتفليقة أنت راحل راحل، خذ معك قايد صالح)، وهو ما اعتبره الأخير مناورة من الرئاسة وذراعها الأمنية لتشويه قيادة الجيش. وهذا ما دفع رئيس الأركان، في بيانه الأخير، للقول بلهجة حادة: “لا يمكنني السكوت عن ما يحاك ضد هذا الشعب من مؤامرات ودسائس دنيئة من طرف عصابة امتهنت الغش والتدليس والخداع”. كانت معركة كسر عظم إلى الرمق الأخير، استعمل فيها جناح الرئاسة المناورة السياسية لكسب المزيد من الوقت للخروج بأقل الخسائر، فيما أصرت قيادة الأركان على تضييق الخناق على الرئيس بوتفليقة ومحيطه بشكل تدريجي، مع الحرص على البقاء في إطار دستوري والتماهي أكثر مع مطالب الشارع، لتفادي أخطاء التسعينات، أو تكرار سيناريوهات دول الربيع العربي. المادة 102 وهذا ما أشار إليه بيان قائد الأركان عندما تحدث عن ثلاث محطات (18 و26 و30 مارس) اقترح خلالها تفعيل المادة 102، المتعلقة بشغور منصب الرئاسة بسبب العجز أو الاستقالة أو الوفاة، وعززها فيما بعد بالدعوة لتفعيل أيضا المادتين 7 و8 اللتين تنصان على أن السيادة للشعب، بعدما رفض المجلس الدستوري الاجتماع لإثبات عجز الرئيس. وفي هذا الصدد، قال قايد صالح، في بيانه الأخير أمس الثلاثاء: “لكن مع الأسف الشديد قوبل هذا المسعى بالتماطل والتعنت، بل والتحايل من قبل أشخاص يعملون على إطالة عمر الأزمة وتعقيدها”. واتهم قائد الأركان، السعيد بوتفليقة، دون أن يسميه، بأنه “بصدد الالتفاف على مطالبه (الشعب) المشروعة من خلال اعتماد مخططات مشبوهة، ترمي إلى زعزعة استقرار البلاد والدفع بها نحو الوقوع في الفراغ الدستوري”، في إشارة إلى إكمال عبد العزيز بوتفليقة ولايته الرئاسية إلى غاية 28 أبريل الجاري، ومغادرته دون أن يسلم الرئاسة إلى رئيس منتخب، خاصة وأن الدستور الجزائري لا يتحدث في هذه الحالة عن تولي رئيس مجلس الأمة رئاسة الدولة لفترة انتقالية. وهذا ما يؤكد أن قادة الجيش حسموا أمرهم نحو “إجبار” بوتفليقة على الاستقالة من رئاسة الجمهورية “فورا”، لتفادي سيناريو “الفراغ الدستوري”، أو لمزيد من مناورات محيط الرئيس، التي قد تزيد المشهد السياسي تعقيدا، وتطيل من عمر الأزمة. واستند الجيش في دفعه لبوتفليقة نحو الاستقالة، إلى جانب الشرعية الدستورية والشعبية، إلى مكافحة الفساد الذي استشرى في البلاد خلال السنوات الأخيرة. مستقبل الجزائر وتساءل قايد صالح، في هذا الصدد، “كيف تمكنت هذه العصابة من تكوين ثروات طائلة بطرق غير شرعية وفي وقت قصير، دون رقيب ولا حسيب، مستغلة قربها من بعض مراكز القرار المشبوهة، وها هي تحاول تهريب هذه الأيام الأموال المنهوبة والفرار إلى الخارج”، في إشارة إلى رجال أعمال مقربين من الرئاسة على رأسهم علي حداد، الرئيس السابق لمنتدى رؤساء المؤسسات، الذي اعتقل الأحد، عند محاولته الفرار برا إلى تونس. وبخصوص مستقبل الجزائر في ظل المرحلة الانتقالية القادمة، لا يرى قائد الأركان ذلك إلا في إطار “الشرعية الدستورية” من خلال تفعيل المواد 102 و7 و8، وفي هذه الحالة سيتولى رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، رئاسة البلاد لفترة انتقالية، يتم خلالها تنظيم انتخابات رئاسية تحت إشراف حكومة نور الدين بدوي. لكنّ المعارضة والشارع يرفضون رئاسة بن صالح للبلاد خلال الفترة الانتقالية، باعتباره أحد المقربين من بوتفليقة ورمزًا من رموز النظام، والأمر ينسحب كذلك إلى حكومة بدوي، التي يحصنها الدستور من الإقالة خلال الفترة الانتقالية، وهو ما يعني أن المظاهرات قد تستمر حتى بعد استقالة بوتفليقة. وتقترح المعارضة الاستناد إلى المادتين 7 و8 التي تمنح السيادة للشعب، من خلال تشكيل هيئة رئاسية، وحكومة لا تضم وجوه النظام السابق، لإدارة المرحلة الانتقالية قبل تنظيم انتخابات لاختيار رئيس جديد، لتفادي إعادة إنتاج النظام القديم نفسه عبر الانتخابات. لكن يبقى التساؤل حول مدى استجابة الجيش لمطالب المعارضة حول كيفية إدارة مرحلة ما بعد بوتفليقة.