تمثل الزيارة التي يقوم بها الرئيس السوداني عمر البشير غدا الجمعة إلى جوبا عاصمة جنوب السودان نقطة مفصلية في منحنى العلاقة بين الدولة الأم والدولة الوليدة ، حيث تؤشر إلى رغبة حقيقية في تهدئة التوترات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين البلدين. ووفقا لقراءة موضوعية لتطورات الأوضاع فى تلك المنطقة المشتعلة من أفريقيا منذ عقود ، فإن هذه الزيارة التاريخية تعد الأولى التي يقوم بها البشير منذ أن حضر إعلان استقلال جنوب السودان في التاسع من يوليو 2011، في أعقاب اتفاقات سلام عقدت في 2005 وأنهت حربا أهلية استمرت عقودا بين الشمال والجنوب قبل الانفصال. وعلى الرغم من التفسيرات المتناقضة لمسيرة الصراع والتوتر بين البلدين ، إلا أن قضيتين أساسيتين شكلتا عناوين هذا الصراع على مدى عامين هما عمر "الدولة الوليدة " ، كما رسمتا طريقا واضحا لعودة العلاقات الهادئة المبنية على أسس المصالح المشتركة ، وهاتان القضيتان هما النفط والصراع فى دارفور. ويبدو أن القوى الفاعلة فى تلك المنطقة المشتعلة ، قد أدركت أنه لا فكاك من هذا الصراع الدموى المتجدد ، إلا بالتوصل إلى تفاهمات تحقق المصلحة لكافة الأطراف ، وتحفظ حقوق الدول الكبرى فى كعكة النفط السودانى ، وهو ما أكدته المبعوثة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة إلى جنوب السودان هيلدا جونسون عندما صرحت مؤخرا بأن "التوترات بين السودان وجنوب السودان تتراجع". ويأتى هذا الإعلان من جانب المبعوثة الدولية على خلفية اتفاقيات "السودانين" بشأن فتح الحدود المشتركة لنقل النفط ، بإعتباره بداية لفتح صفحة جديدة للبلدين. وكانت الخرطوموجوبا قد اتفقتا في الثامن من مارس الماضي بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا على تنفيذ الترتيبات التعاونية والأمنية التي تم التوصل إليها في سبتمبر الماضي ، وشملت استئناف تصدير نفط جنوب السودان عبر الأنابيب السودانية خلال فترة قدرها أسبوعان. وفيما يبدو وجود خلافات وتوترات بين السودان وجنوب السودان أمرا طبيعيا بعد الانفصال ، حيث تسعى كل من الدولتين إلى تحقيق مصالحها الخاصة وتقليل حجم الخسائر سياسيا واقتصاديا وأمنيا ، إلا أن حسابات المكسب والخسارة كانت عامل ترجيح أساسيا فى تحقيق التقارب خاصة فى قطاع النفط الذى حرك بطبيعة الحال قضايا الحدود ودعم المتمردين فى كلا الجانبين. وتشير التقارير إلى أن دولة السودان فقدت قدرا كبيرا من الدخل منذ انقطاع تصدير نفط جنوب السودان في ينايرمن العام الماضى 2012 ، مما أدى إلى انخفاض قيمة العملة السودانية وزيادة معدل التضخم المحلي لما يزيد على 40 \% ، فيما تعرض اقتصاد جنوب السودان لخسائر كبيرة أيضا. كما أن الأوضاع المتوترة بين السودان وجنوب السودان تشكل تحديات ضخمة على الصعيد الأمني في المنطقة ككل ، ومن المؤكد أن تلحق ضررا بمصالح الأطراف ذات الصلة ،وهو ما دفع الجميع إلى محاولة حلحلة هذه القضايا والتوصل إلى نتيجة جيدة لجميع الأطراف. وتبرز قضية النفط كأحد أبرز عوامل الصراع كما أنها أحد أهم أسباب محاولات التوصل إلى وفاق بين السودان وجنوب السودان ، حيث ظل النفط طوال فترة الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية عقب اتفاق نيفاشا الذى عقد عام 2005 ، وقودا للخلافات بين الجانبين والتي أدت في نهاية المطاف إلى انفصال الجنوب عن الشمال. وكانت تلك الخلافات تتجدد شهريا ، وما أن تعلن وزارة المالية عن العائدات الشهرية للنفط ؛ حتى يسارع أحد الأطراف في اتهام الآخر بأن الأرقام التي أظهرها التقرير غير صحيحة، غير أن النفط لم يغادر محطة الخلافات بالرغم من انتهاء الشراكة بين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)، وإنما ظل إحدى القضايا العالقة بين الجانبين التي لم يستطع الطرفان تجاوزها بالرغم من أن كل دولة أصبحت قائمة بذاتها. فعندما أصبح النفط السوداني أمرا واقعا ، وبعد أن بدأ الإنتاج والتصدير بالفعل ، نظرت واشنطن إلى إنتاج النفط السوداني باعتباره العامل الأساسي الذي سوف يلعب الدور الحاسم في ترجيح توازن القوى في الحرب الدائرة بين الحكومة وحركة التمرد في جنوب السودان. ومن هنا ظهرت السياسة الأمريكية الرامية إلى ضرورة الإسراع بإيجاد تسوية للحرب الأهلية على أساس قيام دولة واحدة بنظامين ، وبما يسمح للولايات المتحدة بالعودة لاستثمار في النفط السوداني على أسس وقواعد جديدة ، خاصة أن واشنطن تعلم أنه مع توافر التمويل والتكنولوجيا الأرقى لدى الشركات الأمريكية ، فإنه يمكن أن تحصل على الحصة الأكبر من كعكة النفط السوداني الموعودة. وقد تبنت واشنطن هذه السياسة بعد الدراسة التي قام بها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن بناء على طلب من وزارة الخارجية الأمريكية ، والتي قدمت لإدارة الأمريكية في فبراير 2001 وقد تمخضت الجهود والضغوط الهائلة التي بذلتها الإدارة الأمريكية عن توقيع بروتوكول مشاكوس الإطاري في 20يوليو 2002 . وتأسيسا على هذا البروتوكول بدأت عملية تفاوض طويلة ومعقدة ، استغرقت ثلاثين شهرا وتناولت قسمة السلطة والثروة والترتيبات الأمنية ووضعية المناطق الثلاث الواقعة على التخوم بين الجنوب والشمال وهى " أبيي وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق" حتى تم توقيع اتفاقية السلام الشامل في 9 يناير 2005. وقد استغرق الجزء الخاص بكيفية اقتسام عائدات النفط وقتا طويلا في المفاوضات عبر مساومات صعبة بين موافق تقف على النقيض من بعضها البعض، ففي الوقت الذي كانت الحكومة السودانية ترى فيه أن النفط ثروة قومية لكل السودان كان مفاوضو الحركة الشعبية يرون أن هذا النفط حق الجنوبيين لأنه يستخرج في معظمه من أراضى الإقليمالجنوبي. غير أنه تم الاتفاق في نهاية المطاف على أن يتم تخصيص يصف عائدات النفط المستخرج من الإقليمالجنوبي (طبقا للحدود الإدارية التي كانت قائمة عند الاستقلال في أول يناير 1956) لحكومة الإقليمالجنوبي مع تخصيص نسبة 2\% للولاية التي يستخرج منها النفط لمساعدتها على تنمية المجتمع المحلى مع وضع إطار خاص لمنطقة أبيي التي شهدت نزاعا حادا بين الطرفين.
وقد استحوذت دولة جنوب السودان التي ليس لها منافذ على بحرية على ثلاثة أرباع النفط السوداني ، لكنها تحتاج إلى دفع مقابل للدولة الأم من أجل استخدام أنابيب النفط وميناء بورتسودان المطل على البحر الأحمر نظرا لعدم وجود منافذ أخرى لتصدير هذا النفط إلا فى كينيا. ويرى الخبراء استحالة تصدير نفط جنوب السودان إلى ميناء مومبسا أو لامو الكينيتين لوجود صعوبات عديدة منها التكوين الجغرافي ومسافة تبلغ 1900 كلم طولي ، تمر في تضاريس وعرة عبر الجبال ، وعدم وفرة البنية التحتية وأنابيب النقل ، والتكلفة المرتفعة التي يقدرها البعض بعشرات مليارات الدولارات لإنشاء هذا الخط إضافة لتعارض هذا الخط لقوانين الطبيعة التي فرضت أن يكون انحدار الأرض تجاه الشمال ، وبالتالي فإن أية مخالفة لهذه القوانين فقد يكلف كثيرا وتحتاج لتقنية عالية من مضخات ورافعات وغيرها مما يزيد من تكلفة الإنتاج. وكان السبب المباشر في تفجُّر الأزمة بعد مرور أكثر من خمسة أشهر على انفصال الجنوب في يوليو 2011 والسماح بمرور نفط الجنوب بدون دفع رسوم العبور، وفي غياب أي اتفاق، فقد قرر السودان بدءاً من ديسمبر 2011 أخذ مستحقاته عيناً إلى أن تتم تسوية نهائية وفق ما سيتم الاتفاق عليه، باعتبار أن جوبا لم تكن تحت ضغط التوصل إلى اتفاق . وكما تضررت دولة الجنوب بسبب وقف التصدير وفقدان المصدر الرئيسى للدخل القومى من حصيلة بيع النفط الخام ، فان السودان الذي يواجه ضائقة اقتصادية غير راغب في زيادة متاعبه بالنظر للشح المستمر في موارده بالعملة الصعبة وارتفاع نسبة التضخم، كما أن محاولة إيجاد سبل تمويل جديدة لهذا العجز المستجد في الميزانية عبر الاقتراض من مصادر خارجية، لا يعد أمراً سهلاً بل تواجهه مصاعب عديدة. وقد وضعت هذه الحالة من الضيق وتنامى معدلات الخسائر لدى الجانبين إلى التفكير فى وسيلة تحقق مصلحة الطرفين ، استنادا إلى مصالح الدول ذات المصالح فى إستمرار انتاج نفط الجنوب خاصة الصين وأمريكا ، حيث أنه لا توجد خيارات واسعة أمام الطرفين، فإما أن يصلا إلى حل، أو أن ينزلقا إلى الحرب في ظل استمرار التصعيد، سواء كانت هذه حرباً محدودة أو شاملة أو حروبا بالوكالة. وفيما تبدو قضية النفط هى الأساس فى محاولات التوصل لاتفاق بين السودان وجنوب السودان ، تبرز قضايا لا تقل أهمية تنتظر الحل بالتبعية مع انتهاء التوتر بين البلدين ، حيث أعلن وزير الدفاع السوداني عبدالرحيم محمد حسين أن تحسن العلاقات مع دولة الجنوب سيساعد الجيش على إنهاء التمرد في إقليم دارفور الذي تدور فيه الحرب منذ عشرة أعوام. وقال في تقرير قدمه للمجلس الوطني السودانى (البرلمان) حول الوضع الأمني بالبلاد "إن تفعيل تنفيذ اتفاق التعاون مع جنوب السودان سيؤثر إيجابا على الأمن في دارفور وسيمكننا من محاصرة المتمردين وإنهاء التمرد". ووفقا لتقرير نشرته مجموعة (سمول ارمز سورفي) المستقلة للأبحاث ومقرها سويسرا ، فإن التوتر على الحدود بين السودان وجنوب السودان أسهم في تعقيد النزاع في دارفور، وأنه رغم اتفاق السلام الموقع بين فصائل متمردة صغيرة والخرطوم، و"بعد اضطرابات استمرت أكثر من عقد، فإن حل النزاع في دارفور يظل احتمالا بعيدا". ويتهم الجيش السودانى دولة جنوب السودان بدعم جبهة التحالف الثورية التى تضم أربع حركات مسلحة من اقليم دارفور والحركة الشعبية قطاع الشمال لشن هجمات على منطقة البحر الابيض الواقعة على الشريط الحدودى بين البلدين ، حيث تهدف إلى العمل على إسقاط النظام في السودان. ويضم التحالف الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال، وأربع حركات من دارفور هي العدل والمساواة وحركة تحرير السودان، جناح مني مناوي، وفصيل عبد الواحد نور. وكان السودان وجنوب السودان قد وقعا فى فبراير الماضى على "اتفاقية عدم اعتداء" تهدف إلى تفادي نشوب صراع مسلح بين الجانبين..وتقضي الاتفاقية الأمنية التي توسط فيها الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا بأن الجانبين اتفقا على احترام كل منهما لسيادة الآخر ووحدة أراضيه، وعدم التدخل في الشئون الداخلية ورفض استخدام القوة والمصالح المشتركة والتعايش السلمي. ويرى مراقبون أن زيارة البشير لدولة جنوب السودان ، ومما سوف تنتجه من تفاهمات تسهم فى تخفيف حدة التوتر ، سوف تدفع دولة الجنوب إلى إبعاد حركات دارفور المسلحة من اراضيها، حفظا للامن والروابط الاجتماعية بين البلدين. وليس ثمة شك فى أن استقرار تلك المنطقة شديدة التوتر ، سوف يفتح الباب واسعا لمزيد من الإستغلال لثروتها النفطية التى تعد محركا رئيسيا للأحداث فيها رغم اختلاف العناوين التي يندرج تحتها أي صراع ينشأ برعاية إحدى القوى صاحبة المصالح. كما أن أى وفاق بين "السودانين" سوف يوفر الكثير من الدماء والأموال لأبناء بلدين يخوضان حربا عبثية بالوكالة لصالح قوى دولية لا يعنيها إلا حسابات المكسب والخسارة ، التى تمر عبر أنهار دماء ينزفها أبناء المنطقة وأصحاب الحق الأصلاء فى تلك الثروة.