■ خدم فى بلاط مبارك وعرض خدماته على الإخوان وفشل فى الوصول إلى هيئة الاستعلامات ■ أخطر أمراض السياسة المصرية أن تبدأ المفاوضات بالرئيس.. فالملك آخر من يتحرك على رقعة الشطرنج!
■ عرض على عصام الحداد مرافقة الوفود الإخوانية إلى الولاياتالمتحدة وتقديمها لجماعات الضغط اليهودية
فى أساطير « ألف ليلة وليلة « يحلم الصياد الفقير بسمكة يتناولها على العشاء.. لكن.. ما أن يبدأ فى طهى السمكة حتى يجد فى بطنها جوهرة خاتما سحريا يجعل منه سلطانا.. يسكن القصور.. وتنحنى له الرؤوس.. ويتزوج من «ست الحسن والجمال».
هذه الخرافة التى لم تعد تقنع طفلا لينام أصبحت حقيقة فى الحكومة الثانية للمهندس إبراهيم محلب.. فالسفير المتقاعد سامح شكرى كان يبحث عن وظيفة ولو متواضعة يقضى فيها وقت فراغه حتى يتجنب الثرثرة على المقاهى، فإذا به يختار وزيرا للخارجية.
ولد سامح شكرى فى 20 أكتوبر 1952 وبعد أن حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس انضم إلى السلك الدبلوماسى وصعد درجات السلم حتى أصبح سفيرا لمصر فى واشنطن.
لمدة خمس سنوات (1995-1999) عمل بالقرب من مبارك.. سكرتيرا للمعلومات.. ولابد أنه أظهر طاعة عمياء للرئيس الأسبق أهلته لتولى مسئولية سفارتنا فى واشنطن.. فقد كان الضعف أهم شروط تولى الوظائف المؤثرة فى ذلك الوقت.
وحدث أن كنت فى واشنطن وسط مجموعة من رؤساء التحرير وتلقيت دعوة منه لتناول العشاء فى بيته.. واستعد كل منا بما لديه من أسئلة لطرحها عليه.. لكنه.. لم يفتح فمه بكلمة واحدة.. وظل طوال العشاء لا يتكلم.. وتولت السيدة حرمه التى تستحق حمل جنسية أمها الأمريكية المهمة نيابة عنه.. وراحت تروى تاريخ البيت الذى اشتراه الملك فاروق قبل زيارة لم تتم للولايات المتحدة.. وأهمية اللوحات الفنية التى على الجدران.. وقطع الآثار النادرة التى توجد فى كل الأركان.
استوعب سامح شكرى الدرس من سلفه نبيل فهمى الذى يمتلك شخصية مستقلة تؤهله للحديث بجرأة دون أن يستأذن القاهرة.. وكان نبيل فهمى قد أدلى بتصريحات عن فلسطين وكامب ديفيد لم تعجب مبارك.. فأمر بعودته.. وأرسل سامح شكرى الذى عرف قيمة الصمت مكانه.
نبيل فهمى كان واحدا من ثلاثة جرت المفاضلة بينهم لتولى منصب سفير مصر فى واشنطن.. هو وميرفت التلاوى ورمزى عز الدين.. واختير نبيل فهمى رغم صغر سنه للمنصب.. لكن.. كانت مشكلة نبيل فهمى أنه «صاحب رأى».. لا يتردد فى الاختلاف مع الكبار.. ويقبل اختلاف مساعديه معه.. بتعبير مبارك «مناكف».. وقد ظل على طبيعته بعد أن أصبح وزيرا للخارجية.. لم يكن يسكت فى اجتماعات مجلس الوزراء على عادة من سبقوه عند مناقشة الشئون الداخلية.. وعندما صدرت أحكام الإعدام الأخيرة وجد نفسه فى ورطة.. وقال لزملائه فى الحكومة: «كيف يمكن أن أدافع عن هذه الأحكام أمام العالم؟».. واقترح عقد مؤتمر صحفى عالمى لوزير العدل يشرح فيه وجهات النظر القانونية والقضائية.. وهو ما حدث.. كما أنه تدخل للإفراج عن 300 طفل من الأحداث بعد أن غضبت اليونيسيف مما حدث لهم.
كان متوقعا بعد ترك نبيل فهمى سفارتنا فى واشنطن أن يحل محله السفير رمزى عز الدين.. المرشح المنافس له.. وهو دبلوماسى مميز.. ولكن.. مبارك لم يجد أفضل من سامح شكرى.. فقد جربه فى الرئاسة.. ووجده يتمتع بكل المواصفات المطلوبة.
وعندما قامت ثورة يناير حصل زميلى فى «الفجر» محمد الباز على سجل مكالمات مبارك مع شخصيات تعيش فى الخارج.. وجربنا الاتصال بأرقام التليفونات التى فى القائمة.. ووجدنا سامح شكرى يرد علينا.. فقد كان يبلغ مبارك بموقف الإدارة الأمريكية منه أولاً بأول.. فقد ظل رجله الوفى حتى آخر لحظة فى حكمه.
بعد الثورة أيضا فشل سامح شكرى فى تولى حقيبة الخارجية.. وحمل الحقيبة وقتها السفير محمد العرابى.. لكنه.. سرعان ما قدم استقالته بعد أن عجز عن تحمل السهام التى أطلقت عليه بوصفه واحداً من فلول مبارك.. حسب التعبير الشائع.
وما أن وصل الإخوان إلى الحكم حتى سارع سامح شكرى بتقديم خدماته إليهم.. التقى بالدكتور عصام الحداد.. الصانع الخفى للسياسة الخارجية فى شهور رئاسة محمد مرسى.. وعرض عليه مرافقة الوفود الإخوانية إلى الولاياتالمتحدة وتقديمها إلى لجان الكونجرس وجماعات الضغط اليهودية ومراكز الدراسات الاستراتيجية.. مدعيا أنه عليم بأساليب التعامل معها.. وهو ما لم يثبته خلال خدمته لنظام مبارك.. خاصة أن العلاقات المصرية- الأمريكية لم تكن طيبة فى الخمس سنوات الأخيرة من حكم جورج بوش.. كان سامح شكرى سفيرا فى جزء منها.
وطلب عصام الحداد منه أسبوعا حتى يشاور مكتب الإرشاد.. وقبل أن تنتهى المهلة اعتذر له.. دون أن يقول له: «إنه ملوث بحكم مبارك».
كانت مشكلة سامح شكرى أن يجد وظيفة مهما كان شأنها.. وكثيرا ما كان يقول لزملائه فى حزن: «شوفولى حاجة».. خاصة أن كثيرا من هؤلاء الزملاء وجدوا فرصا مناسبة لكفاءتهم بعد التقاعد.. مثل عز الدين رمزى اختير لمكتب الجامعة العربية فى فيينا.. ومثل أحمد فتح الله اختير لمكتب الجامعة العربية فى نيويورك.
وذهب سامح شكرى إلى محمد فائق عارضا عليه العمل معه فى المنظمة العربية لحقوق الإنسان لكن.. محمد فائق رفض طلبه فى نفس اللحظة.
وبعد ثورة يونيو سعى جاهدا لتولى الهيئة العامة للاستعلامات.. لكن.. نائب الرئيس وقتها محمد البرادعى رفض رفضا قاطعا لعلاقته المتينة بمبارك وسعيه الحثيث للحاق بقطار الجماعة.
لكن.. الدبلوماسى الباحث عن وظيفة بسيطة.. حصل فجأة على الجائزة الكبرى.. وأصبح فى آخر لحظة قبل إعلان التشكيل الحكومى وزيرا للخارجية.
فى الساعة الخامسة من بعد ظهر يوم الاثنين استقبله إبراهيم محلب.. وبعد دقائق أصبح وزيرا.. وبعد دقائق أخرى أعلنت الحكومة الجديدة.
والمثير للدهشة أن إبراهيم محلب كان قبل أيام قليلة من التغيير الوزارى قد كلف نبيل فهمى بمهام إفريقية منها متابعة مجلس السلم والأمن الإفريقى قبل إعادة عضوية مصر.. تمهيدا لمؤتمر ملابوا للقمة الإفريقية.
والحقيقة أن لا تغيير فى الحكومة الأخيرة يستحق التوقف عنده أكثر من تغيير نبيل فهمى وتعيين سامح شكرى.. ربما كان نبيل فهمى «مناكفاً».. وصاحب رأى.. وربما كان مطلوبا سحب الملفات الإقليمية والدولية من وزارة الخارجية.. وربما كان مطلوبا أن يعود وزير الخارجية ضعيفا.. ينفذ سياسة الرئيس.. ويكاد عمله ينحصر فى حمل رسائله إلى حكام الدنيا.. ولكن.. لا يمكن أن يجسد سامح شكرى هذه المهام على تواضعها.. وهو ما يفسر حالة الصدمة التى اجتاحت وزارة الخارجية فور وصول خبر تعيينه.
والأخطر أن اختياره لذلك المنصب يأتى فى وقت تحتاج فيه مصر لكفاءة خمسة وزراء للخارجية يتجسدون فى شخص واحد.
على الحدود الغربية والجنوبية والشرقية متاعب تصل إلى حد الخطر.. مؤامرات دولية مخططة لإفشال حكم السيسى.. تتضمن إشغاله برفع قضايا جنائية ضده.. وفتح ملفات المشاكل له.. مثل ملف سد النهضة.. وملف حلايب وشلاتين.. بجانب ملفات الإرهاب الذى وصل فى تجبره إلى حد الاستيلاء على السلطة فى مناطق عراقية.
كل هذه الملفات تحتاج إلى أطقم دبلوماسية محترفة تجهز الحلول والمقترحات للرئيس قبل أن يأخذ فيها القرارات المناسبة.. وقبل أن يدخل فى مباحثات عند أعلى مستوى لحلها.
إن أخطر أمراض السياسة العربية هى ترك الرئيس يبدأ المفاوضات مع نظرائه لتسوية ما بينهم من نزاعات.. هذا حدث فى مباحثات كامب ديفيد.. حيث بدأت من عند السادات.. فلم يستطع أحد أن يعدل عليه.. وخسرت مصر الكثير من المكاسب.. ووضعت عليها كثير من القيود.. وتكرر نفس المرض لدى ياسر عرفات عندما بدأت مباحثات أوسلو من عنده.. فلم يستطع أحد أن يراجع ما توصل إليه.. ويوما بعد يوم اختفت القضية الفلسطينية.
لقد تسلل هذا الفيروس ليقضى على أساليب التفاوض المعمول بها فى الدول المستقرة.. والمقتبسة من رقعة الشطرنج.. حيث لا يتحرك الملك إلا إذا أجبر على ذلك.. تاركا باقى القطع تفتح له الطريق.. وتضع خصمه فى حرج.
فى تلك الدولة يجرى تجهيز الملفات بدقة قبل أن تبدأ وفود الإدارة الوسطى فى تناولها مع الأطراف الأخرى.. وبعدها يدخل المستوى الوزارى.. ممهداً الطريق للرئيس الذى يتدخل لحسم الأمور الصعبة.. أو ليوقع على الأمور الأقل منها.
ولست متفائلا أن سامح شكرى يملك من الخبرة والجرأة ما يجعله مفاوضا بارعا فى الملفات الشائكة التى تثير أزمات بين مصر ودول أخرى.. كما أننى لست متحمسا أن يبدأ الرئيس بنفسه ما يفرض علينا من مفاوضات.. ومن ثم فإن البديل تكوين مجموعة قوية فى رئاسة الجمهورية تجهز الطبخ للرئيس قبل أن يجلس على المائدة.
ربما لهذا السبب أتمنى ألا يسارع الرئيس بالسفر إلى إثيوبيا حتى لا يقيدنا ما يصل إليه من وعود.. والأفضل أن يلتقى الرئيس الإثيوبى فى ملابوا عاصمة غينيا الاستوائية على هامش القمة الإفريقية التى ستعقد هناك فى 26 و27 يونيو الجارى.
خاصة أن حكومة أديس أبابا استغلت حالة الود بين القاهرةوأديس أبابا فى الترويج لفكرة غير صحيحة هى أن كل ما بين البلدين من متاعب بسبب سد النهضة لم يعد له وجود.. وهى رسالة للدول التى تراجعت عن تمويل سد النهضة بأن تعود إلى تمويله.
هل يجرؤ سامح شكرى أن يقترح على الرئيس مثل هذا الاقتراح؟.. لا أتصور.. سينحنى قائلا: تحت أمرك يافندم.. وعندما تقع الفأس فى الرأس.. سيغسل يديه مما حدث.. معلنا: إنها تعليمات الرئيس.
نحن الآن فى حاجة إلى أقوياء وخبراء.. لكننى.. لا أعتقد أننا لو فتشنا عنهم سنجدهم كثيرا فى الحكومة الأخيرة.