هناك جلس الرواي وحوله الأطفال يستمعون لحكايات أبو زيد الهلالي ومغامرات السندباد البحري، نبعد قليلًا ونسمع المداح ينشد أشعار الحلاج فتتمايل الأجساد إعجابًا وشوقًا في مناجأة الحبيب، نأخذ هذه النفحة الطيبة ونخطو بضعة أمتار فنشاهد عرائس "ماريونت" ترقص هي الأخرى بروح صلاح جاهين "الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة/ مالين الشوادر يابا من الريف والبنادق"، لا نلبث في الإندماج معهم، حتى نشاهد عرضًا مسرحيًا لمجموعة من الشباب يؤدون مسرحية لتوفيق الحكيم ربما تكون السلطان الحائر، هكذا كانت ليلتنا في إحدى قرى الصعيد منذ ما يقرب من 15 عامًا مضت؛ حواديت وطربًا وعرائس ماريونت وعروض مسرحية. أما اليوم، سكن الصمت القرية والمدنية معًا، فيما عدا الانفجارات أو آنات المواطنين من الفقر والقهر، ولم يعد بوسع الألوان أن تقصي الرمادي قليلا، ما يدفعنا لنسأل كيف ولماذا، الإجابة ربما عند الدولة، ممثلة في زارة الثقافة التي يدفع لها أبناء الشعب من أقواتهم بلا مقابل ملموس. الوزارة تعد مع كل تعديل وزاري بالنزول إلى الشارع والتواصل معه عن قرب، وإن كان ذلك صحيحا وواقعا، فكيف كان الأمر منذ أكثر من 15 عامًا؟ في مارس الماضي حدث أول تعديل وزاري في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، شمل 8 وزارت بينهم وزارة الثقافة، ظاهريًا يقول هذا التعديل أن الدولة مهتمة بالثقافة وتحرص على تنمية الشعب معرفيًا، وحتى نقف على حقيقة هذا التعديل الوزاري، بعد فترة من المفترض أنها سمحت له بطرح الخطوط العريضة لسياسته الثقافية، كان لنا لقاء مع ثلاثة من مثقفي مصر يعملون في قطاعات هذه الوزارة. الناقد الدكتور هيثم الحاج علي – نائب رئيس هيئة الكتاب، قال ل«البديل» إن التعديل الوزاري الأخير عكس اهتمام الدولة بالثقافة وكشف عن رسالة تريد الدولة توصيلها إلى الشعب المصري، وهو ما جاء واضحًا في تكليفات رئاسة الوزارء إلى الدكتور عبد الواحد النبوي، والتي أكدت على ضرورة النزول إلى الشارع والعمل مع الشباب وإنتاج أعمال ثقافية بأقل تكاليف.. إلى هنا تبدو الأمور جيدة لكن أين الوزارة من هذه التكليفات؟، يقول "علي": وزارة الثقافة لا تصنع ثقافة، لكنها توفر إمكانيات تحقيقها معبرة بذلك عن ثقافة مجتمعية معينة، وعلى صعيد هيئة الكتاب، قد بدأنا أولى خطواط النزول إلى الشارع إذ وسعت الهيئة معارضها الموجودة في الأقاليم، أيضًا كثفت الاهتمام بمكتبة الأسرة والمطبوعات الصادرة عنها لاسيما أعمال الشباب. تصريحات نائب رئيس هيئة الكتاب،لم تتوافق مع رأي الدكتورة الروائية سهير المصادفة- مدير سلسلة الجوائز بهيئة الكتاب أيضًا، إذ قالت: حتى الآن لا تزال الوزارة مستمرة بنفس الأداء القديم، ولم تصل بعد إلى النجوع والأقاليم ولم تمثل ترسانة قوية في يد الدولة، فمازلنا نعقد ندوات ومؤتمرات لأفراد بعنيها في القاعات المكيفة في القاهرة، وفي النهاية تكون مؤتمرات فاشلة خاوية لا يحضرها سوى القائمين عليها، وللأسف لا أحد يريد تغيير هذه الاستراتيجية ويبقى الوضع على ما هو عليه، لأن تغيير الوزير دومًا "لا يحل ولا يربط"، المؤسسة ذاتها غير متعافية، وإن بدا ظهريًا أن التعديل الوزاري جيد ويخدم الثقافة إلا أنه في حقيقته يسلك الطريق الخاطيء، لأن علينا البدء بوضع استراتجية صحيحة لهذه الوزارة الخربة من الداخل أولًا. تتابع المصادفة: وزارة الثقافة أنشأت لتثقيف الشعب معرفيًا وتشكيل وجدانه وحسه الوطني من خلال الفنون والقراءة، بالتعاون مع كل مؤسسات الدولة، لكن ما حدث أن الوزارة أصبحت تعمل لخدمة مجموعة من الأشخاص، فلا بد أن تعود هذه الوزارة إلى الشارع والجمهور، هل سمعنا يومًا أن مسؤول التقى بالناس، أو حتى مسؤولين اجتمعوا حتى يضعوا خطة يعملون وفقها، بالطبع لا، لأن قطاعات وزارة الثقافة متنافرة ومتعاركة ولا تكمل بعضها، فلا العلاقات الخارجية تعلم ماذا يقدم المركز القومي للترجمة، ولا يعلم المجلس الأعلى للثقافة ماذا تقدم هيئة الكتاب، هذا هو الوضع داخل وزارة الثقافة. بجانب هذا التدهور الإداري والعشوائية التي تعم «الثقافة»، هناك نظرة سيئة ترغب «المصادفة» أن يعزم العاملون في الدولة على تغيرها وتصحيحها، وهي استهزاء الشعب وسخريته من المثقفين، فكلما تحدث مثقف هزء منه الجمهور، فعلينا أولًا إدارك أننا أمام شعب كافر بالمثقفين، ما يتوجب على الدولة تغيير هذه النظرة وبث القيم التي تعلي من قيمة الفنون والآداب واحترامها، فالثقافة قبل أن تكون وزارة ومبني هي سلوك مجتمعي. سابقًا قال "الحاج علي" أن هناك تكليفات يتسلمها كل وزير مع بداية فترة توليه الحقيبة الوزارية، لكن هذا لم يحدث مع الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق، الذي تولى رئاسة الوزارة ل6 أشهر فقط عقب ثورة 25 يناير، وعندما سألنا لماذا؟ قال: لكل فترة متطالباتها، فالوقت الذي توليت فيه الوزارة كان صعبًا، حينها كانت البلاد بلا دستور وتعمها الفوضى، لذا رأيت أن أهم شئ هو استعادة الأمن والاستقرار الثقافي ولو بشكل نسبي، واعتقد أني نجحت في ذلك، بدليل افتتاحنا لمسرح الهناجر، ومسرح بيرم التونسي بالإسكندرية وعدد من فروع الثقافة بالأقاليم. كما قال «عبد الحميد» لكل فترة متطالبات تحتم على الدولة أن تختار شخصية بعينها تراها الأمثل لأداء مهمتها على أكمل وجه، هنا ياترى لماذا اختارت الدولة الدكتور عبد الواحد النبوي وزيرًا للثقافة في الوقت الحالي، يقول عبد الحميد: "النبوي" أزهري وأكيد الدولة لديها مغزى معين وراء تنصيبه على رأس الثقافة المصرية، لكنى لا استطيع أن أجزم ما هو السبب الحقيقي وراء اختياره، وعلى أي حال إذا رغبت في معرفة السبب الحقيقي إسأل الدولة. يأخذنا "عبد الحميد" إلى منحنى هام وهو الثروة الإقتصادية التي يمكن أن تحققها الثقافة لمصر، إذ قال: الثقافة ثروة حقيقة لأي شعب، ففي الدول الغربية استطاعوا أن يجعلوها مصدر من مصادر الدخل القومي، على خلاف ما نحن عليه اليوم، فأقل شئ لا نسطيع تسويقه فالكتب التي نطبعها حتى لا ننجح في توزيعها بشكل جيد. بالحديث مع ثلاثة من كبار مثقفي مصر وما جاء من تضارب في حديثهم والذي ظهر جليلًا بين تصريحات "الحاج علي" و "المصادفة" وهما يعملان في نفس الهيئة، يؤكد أن الثقافة المصرية لا تزال في حالة ارتباك شديد، ولا يزال الغموض قائم بين علاقة الدولة بالثقافة مهما حدث من تعديلات وزارية أخرى، فكما قالت المصادفة علينا التغيير من الداخل أولًا حتى تكون هناك رؤية واضحة للدولة فيما يتعلق بثقافة وهوية هذا الشعب.