لم تعد أزمة العلاقات المصرية الأمريكية هي حالتها الراقصة منذ ال30 من يونيو وحتى الآن، فنموذج الإجابة الأمريكي أو قُل توصيات مؤسسات الأمن القومي ومطابخ السياسات الأمريكية واضحة بأنك ان لم تستطيع بلوغ مصر الفوضوية التي تريدها، فلابد أن تسعى لبلوغ مصر التي تحتاجها في 3 ملفات رئيسية، وهي أمن إسرائيل (كامب ديفيد) وتأمين المجرى الملاحي لقناة السويس والحرب على الإرهاب، وأحسب أن تصريحات وزير الخارجية جون كيري بشأن الإفراج عن صفقة الأباتشي، ثم ابتلاع ذلك التعهد عقب الأحكام المغلظة بحقة صحفيي الجزيرة، هو جزء من لعبة عض الأصابع التي تمارسها واشنطن منذ ال30 من يونيو، لإخضاع القرار المصري أو على أقل تقدير إعادة الظرف السياسي لما قبل ثورة 25 يناير، بما يؤشر الى لعبة توزيع أدوار أجادتها دوائر صنع القرار الأمريكية منذ وقت مبكر، وتتشارك فيها وسائل الإعلام الأمريكية المدفوعة صهيونيًا. حسنا.. تلك لغة المصالح عندما تتحدث وتشترط وتضغط، وتلك أزمة الأمريكي منذ الانكشاف الفاضح والتخبط المزري لسياساته عقب اندلاع ثورة 25 يناير، لكن المفارقة أن جوهر الأزمة الآن هو داخل مصر نفسها التي لم تحدد بعد مسارات واضحة للعلاقات مع الأمريكي، وترسم موقعها السليم داخل مثلث الحليف والشريك والتابع الذي تتخبط فيه منذ كامب ديفيد، وإذا ما كان من الصعب اغفال تصريحات السيسي المهادنة لأمريكا قبل انتخابه رئيسا، وحديثه مفرط الود للجانب الأمريكي، وإذا كان حسن النية والطوية يضع تصريحات الرئيس في خانة ما يعرف دبلوماسيًا ب"إبداء حسن النية"، فإن حسن النية المصري الآن غير مبرر أو مفهوم مع قوة دولية متآمرة متخبطة عديمة التوازن. السيسي يعيش الآن في برزخ السياسات الخارجية المصرية بعد ثورتين، بدا خلالها تحركه الأقدار واحكام التاريخ أكثر من رؤى واضحة تتعامل مع مفردات السياسة الإقليمية والدولية، لتضعه نقاهة ما بعد ثورتين بين تحسين شروط الماضي المنبطح وبين إعادة كتابة عقد جديد مع المستقبل المتحرر، وما من ترجمة حية لذلك مثل قراره أن يبدأ جولاته الخارجية الى السعودية ردا للجميل النفطي، لتسوقه قدميه وبغير حساب نحو المحطة الأولى الجزائرية ردا لاعتبار التاريخ، ومع الأميركي أيضا تختلف حسابات وكلمة التاريخ مع حكمه، فبعد أن مد يده للشريك والحليف بالتعاون والتحالف والحاجة، جاءت أحكام القضاء المصري الرادعة لتطيح بتلك الحسابات، باصطدامها مع رغبة الامريكي في إعادة ترويض مصر ما بعد 30 يونيو، لتترك الأباتشي معلقة في الهواء بعد وعود بإعادتها، ويكون الاختياران بين قوسين دون استعانة بصديق، هما: إما الرضوخ وتوفير مخرج ذكي على طريقة (مبارك أيمن نور)، أو التصلب والعناد والانتصار للدولة المصرية ولعل ما تبدو من مؤشراته المعلنة حتى الآن هو الاختيار الثاني إن لم يستجد جديد. في مصر وكما في طابورها العربي الأسئلة تطرح نفسها دونما سائل، لتبدو وكأنها نبت شيطاني لقيط بلا منبت أو جذور، كذلك هي التحركات والمبادرات السياسية تنتظر أن تطرح نفسها ولا تجد من يخطط لها أو يطرحها، وربما يكون في ذلك التقدير تفسيرًا انسانيًا ملائمًا لغياب المبادرة والمكاشفة مصريا وعربيا، وعقمها حتي اللحظة في ايجاد صيغة جديدة للعلاقات مع الولاياتالمتحدة، تستغني وبحسم ودون حسابات معقدة عن المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي تمس الكرامة الوطنية، وتتدنى مناقشاتها في الكونجرس الامريكي بمصر من موقع الدولة الاقليمية المحورية الى مركز المستعمرة التابعة، كذلك ما هو ملحوظ من بطء استثمار فراغ اللحظة وسلحفائية الخطى وخجلها نحو الاتجاه شرقا لاستعادة الدور المصري الواضح والقوي في الملفات السورية والعراقية واللبنانية، وعدم اتخاذ خطوات حاسمة لاصلاح العلاقات مع طهران، ثم الخطاب السياسي والدبلوماسي المفعم بالمواربات والكنايات وعموميات الأحاديث، وعدم مكاشفة الأمريكي علنًا برؤية مصر القاطعة لطبيعة الدور الأمريكي ومستقبلة مع مصر وفي المنطقة، ارتكازا على النقط ال3 الحاكمة للمصالح الأمريكية مع مصر. لا ينبغي إذن أن نقع في فخ تحليلات بعض الصحف الغربية من قبيل (اذلال السيسي لأوباما) أو (المشير النابوليوني المتغطرس)، فهي مناوشات تخضع لتصفية الحسابات في دوائر الاعلام والسياسة الأمريكية، لكن لا يمكن أيضًا تجاهل ما قد تثيره بوادر التحركات المصرية في المنطقة بفتح امتدادها القديم عربيًا وإفريقيًا من قلق أمريكي، وهو القلق الذي يبقى معه السؤال المطروح أمريكيا مفتوحا حول سبل فتح صفحة جديدة مع مصر ما بعد انتخاب السيسي، أو بتعبير أدق ايجاد صيغة أمريكية تجعل من السيسي نسخة كربونية من مبارك، والذي بدت في الأعوام الأولى من حكمه علامات النشاط في دوائر تحركاته الخارجية عربيا وافريقيا، ثم استسلم للمربع الأمريكي حفاظًا على الكرسي ل3 عقود .. وهي لعبة قد يكون من الممكن إعادتها نظريًا على أي حال، لكن اعادة ركلها في مرمى مصر يبدو اليوم صعبًا، ليس لتغير الظرف التاريخي بقدر التغيير الذي لحق بالمصريين، وجعل كلامهم في السياسة نهرا متجددا لا يجف!.. ويبقى السؤال المعلق عن مبادرات السيسي ورؤيته أمرا ينتظر الحسم؟!!