لم يبد المرء ارتياحا لمصطلح "مرشح الضرورة" الذي نحته الأستاذ هيكل، في معرض الحديث عن المرشح الرئاسي المشير عبدالفتاح السيسي، والمفارقة أنه لا حيلة للعقل إلا أن ينتبه وينصت باهتمام لرؤى وخواطر وتحليلات لا مهرب منها إلا إليها، لم لا؟.. وهي بنت تجارب وخبرات مهنية وسياسية عريضة مرقت على عصور وقصور، واطلعت على وثائق وحقائق، لكن وللحق، فإن ما يحسبه المرء عين الخطأ هو ترك تلك الرؤى في (فاترينة) الأحداث، لتتحول مع مرور الوقت إلى (مانيكانات) تدير الشأن العام، بما لا يرضي أو يرضى عنه مفكرنا الكبير أو يتمناه، وهو الذي يؤثر دائما أن يلقي بحجر في المياه الراكدة، ومن ثم تدور حول أصداء مقذوفاته دوائر نقاش وجدل عام من النوع الصحي. تحدث الأستاذ هيكل عن "سيسي الضرورة" أو "مرشح الضرورة"، فيما تُركت محظورات تلك الضرورات منفلتة دون ضابط أو رابط ، لتنزلق بنعومة بجميع مفردات ومترادفات المشهد المصري إلى واقع ما قبل 25 يناير، ليس بمحظورات شخوص قادوا المشهد قبل ذلك التاريخ واستكملها من جاءوا بعده، لكن بشواهد قوية تؤشر الى إعادة إنتاج ممنوعات السياسات الداخلية والخارجية التي همشت الوطن وسحقت المواطن وبدلت القلب بالأطراف. انه مأزق الضرورة الذي تدور مصر في فلكه أو قل دائرته المفرغة اليوم، ما بين وعود مستترة تدغدغ المشاعر بقطيعة منيعة مع 4 عقود من التبعية لأميركا والغرب كبلت إرادة مصر ونهضتها، فيما تتسارع الخطي نحو تلطيف الأجواء مع الأمريكي تحت أستار توازن العلاقات الدولية، ليس لعودة موسم الحج الكثيف إلى واشنطن فقط، بل ولزواج أبدي من الأمريكي دون طلاق أو عتاق أو فكاك ، يعيد أدوات الماورة لعب الزوج الأمريكي، ويمنحه فرصا واسعة لفرض شروطه ب"كامب ديفيد" أو فتح قنوات سرية للتصالح مع إرهاب الإخوان، مقابل بضع مقاتلات أباتشي كسيحة واستمرار التبعية العسكرية والأمنية. هو عينه الوجه الآخر للعملة، والذي يقف بالمصريين على مفترق درب الضرروة، ويتركهم فرائس للحيرة بين تكرار (سلحفائي) لحديث (مباركي) قديم عن الانحياز للفقراء ومحدودي الدخل، وبين سعي (الغزلان) نحو تنفيذ روشتة لجنة سياسات الوريث بالتخلص الناعم الصادم من دعم هؤلاء الفقراء دون شفافية أو حساب، ثم الصعود بالآمال عالية علو الجبال في حديث مكرور عن إصلاحات جذرية في القطاع العام، بينما تنهال بشارات (غابر الأزمان) على رؤوس (اكسلانسات) الاستثمار والمال والأعمال، وتتقافز معها الخطى الحكومية بقوانين تحصن فاسد العقود الحكومية المبرمة، وتخلق موطئ قدم للقطط السمان في قلب مستقبل جموع هادرة ثارت على فسادهم. لن يتوقف المرء كثيرا أمام لقاءات لا علاقة لها بموجبات "ضرورة" جرت في معظمها مع النخب وتركت المستضعفين في مقاعد المتفرجين، أو مصالحة تمت هناك بين ظواهر رياضية منفلتة تحمل رائحة فوضى نظام مبارك، فتلك من هوامش المشهد التي قد تعطي إشارات ولا تبني قناعات، لكن أن يأت صوت صاخب من بعيد ليبرئ ساحة "رجل الضرورة" من قرارات وقوانين حكومية وتحركات دبلوماسية، باعتباره بعيدا عن مواقع السلطة، فلابد من صوت مضاد يتساءل عن سر هرولة الحكومة الانتقالية في اتخاذ إجراءات جذرية لا تمت بصلة لدورها في تصريف الأعمال، ولا تتناقض مع دعوات مرشح الضرورة والأوفر حظًا الى تضحيات من جيل بأكمله. لا يكفى إذن الاستفاضة في الحديث عن الضرورة وحسنات مرشح الضرورة وحجم شعبيته الحاشدة في تلك اللحظة الخانقة، دون الأخذ بالاعتبار أن تلك "الضرورة" ليست شيكا على بياض أو ممدود الأجل، يمرر في غمار صخب شعبيته كل موبقات الماضي، ويدير عقارب الساعة الى الوراء عن قصد أو غير قصد، ويضع مصر أكملها اليوم أمام (فصام سياسي) حاد بين بشارات (مصر أم الدنيا) وبين واقع يشي بمحاولات لتحسين شروط ما كان قبل 25 يناير. شئ من الصدق مع النفس يقتضي الإقرار بأن محظورات الضرورة تقود إلى فصام سياسي حاد بين الأقوال والأفعال، وتضع مستقبل الوطن في سياق مبهم غامض يعوزه الكثير من التفسير، ولعل خطورة ما يجري الآن أن يتحول هذا الفصام الى إعادة لإنتاج أسباب الفوضى والتفكك، هذا إذا تم الأخذ بالاعتبار أن المزاج العام للمصريين يحتاج لمعجزة مصداقية، حتى يستجيب لأي دعوة للعمل والإنتاج والبناء، وتلك بلا شك الحلقة المفرغة التي تدور فيها مصر اليوم، ولن تخرج منها إلا بثورة حقيقية في السياسات تؤمن بقدرات الشعب المصري وطاقاته الهائلة، التي لا تحتاج لمرشح ضرورة بقدر حاجتها لجمال عبدالناصر جديد.