تظل النسبة والتناسب بين الأجور والأسعار مربط الفرس في شأن الأحوال الاقتصادية، ودلالة استقرار الأحوال الاجتماعية في البلاد أو عدم استقرارها، فالمرتب الكبير مع الأسعار المرتفعة يعني انخفاض قيمة العملة، بينما المرتب القليل مع انخفاض الأسعار يعني الإطمئنان على المصير. وتلك قاعدة اقتصادية معروفة تترافق معها قاعدة أخرى تتصل بالتوازن بين العرض والطلب، فإذا كان المعروض من السلع قليلا والطلب كبير ترتفع الأسعار والعكس صحيح، فإذا كان المعروض كثيرا والطلب قليل تنخفض الأسعار، وهذا ما يعرف بالتضخم Inflation (أي الانفلات). والسياسة المالية الواعية تحرص دائما على إيجاد التوازن بين العرض والطلب حتى لا ينفلت العيار وتشيع الفوضى وتصبح البلاد على شفا أزمة طاحنة. ومصر في تاريخها الحديث لم تشهد ظاهرة التضخم هذه إلا مع الاحتلال البريطاني، ذلك أن "الدولة" التي أقامها محمد علي كانت تسيطر على الشؤون الاقتصادية، وتعمل على الاكتفاء الذاتي مع التصدير ومنع الاستيراد إلا لمستلزمات الإنتاج حتى يتم تدبيرها محليا. وبوقوع مصر تحت الإحتلال البريطاني دخل رأس المال الحكم وأصبحت اقتصادياتها تابعة للسوق العالمي الرأسمالي الإمبريالي، وما صاحب ذلك من تحكم رأس المال في الأجور وترك الأسعار حرة، وحرمان الطبقة العاملة من حق تكوين النقابات حيث رفضت لجنة وضع دستور 1923 النص على هذا الحق، فأصبحت النقابات القائمة غير قانونية وتعرضت قياداتها للملاحقة والاعتقال والنفي، ومن ثم شهدت مصر سلسلة الاضرابات والمظاهرات الفئوية خلال تلك الفترة الطويلة وحتى يوليو 1952. ومع ثورة يوليو عادت دولة محمد علي بشكل جديد حيث سيطرت حكومة الثورة على الإنتاج والأجور والأسعار وبالتالي ساد الاستقرار والاطمئنان وانعدمت المظاهرات الفئوية. وعندما رفع زكريا محيى رئيس الوزراء (1965-1968) سعر كيلو الأرز تعريفة أو قرش صاغ احتجت الجماهير فأسرع عبد الناصر بإلغاء الزيادة فسرت بين الناس نكتة تقول: زكريا محيى الدين بطل مصر في رفع الأسعار. وفي يوليو 1969 فكر عبد الناصر في تأميم تجارة الجملة على أن تتولى الحكومة نقل الانتاج من المصدر إلى تجار التجزئة فتنخفض الأسعار وهو الإجراء الذي لم يتم في وقته، وتم طيه بعد رحيله. وفي ضوء سياسة حكومة عبد الناصر بالعمل على التوازن بين الأجور والأسعار ظل المصريون ينعمون بالاستقرار، ورغم الهزيمة فلم يشكو أحد من نقص في العرض أو زيادة في الأسعار. وبرحيل عبد الناصر عادت مصر على يد السادات-مبارك لتكون تحت سيطرة رأس المال مرة أخرى فبدأت دائرة التضخم من جديد، وبدأت الاحتجاجات الصامتة إلى أن انفلتت الأمور بثورة يناير 2011 تطالب بالعدالة. ومع هذا لم تتحرك حكومات ثورتي 2011-2013 قيد أنملة تجاه السيطرة على دائرة التضخم الجهنمية التي تدور فيها البلاد، بل إن رفع الحد الأدني للأجور إلى 1200 جنيه في الشهر إذا تحقق، فلا معنى له طالما ظلت الأسعار دون ضبط، ذلك انه مع زيادة الطلب برفع المرتبات مع ثبات المعروض من السلع يؤدي آليا إلى ارتفاع الأسعار. ومن عجب أن هؤلاء السياسيون الذين يسيطرون على مقاليد الأمور في بلدنا لا يتعلمون من الدول الرأسمالية أساليبها في مواجهة التضخم للحفاظ على التوازن الاجتماعي وتجنب المطالب الفئوية. فعندما يزيد الطلب على المعروض عندهم وحتى لا ترتفع الأسعار تعلن البنوك زيادة نسبة الفائدة فيقل الطلب على العرض فتتستقر الأسعار، وإذا قل الطلب على العرض تعلن البنوك تخفيض نسبة الفائدة فيسحب الناس الأموال من حساباتهم لشراء المعروض، فيحدث التوازن وتغلق دائرة التضخم اما نحن في مصر .. فيبدو أنه قد كتب علينا أن نظل ندور في حلقة مفرغة من التضخم وعدم التوازن بين الأجور والأسعار ومن ثم استمرار المطالب الفئوية التي تهدد بتجدد الثورة بين آن وآخر بسبب إصرار رأس المال الحاكم على الربح دون تقديم تنازلات. ولله الأمر من قبل ومن بعد.