كتب الشاعر المبدع الأستاذ فاروق جويدة منذ فترة وجيزة مقالة عما فعله رجلا الأعمال الأمريكيان جيتس وفيث. وهذا الموضوع يستحق مزيداً من المناقشات والاهتمام، من أجل الاستفادة من سلوكهما في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر. وكان بيل جيتس، عبقري البرامج الإلكترونية المشهور، قد تبرع بنصف ثروته لأعمال الخير، وليس هذا النصف مبلغا زهيداً، إذ يبلغ نحو 45 مليار دولار أمريكي، أي ما يعادل أكثر من 250 مليار جنيه مصري، الذي يناهز حجم النفقات العامة في موازنة مصر لعام 2010، وقد سبق أن تبرع جيتس لجامعة هارفارد- علي الرغم من عدم قبولها له- بعشرات الملايين من الدولارات دعما للعلم والعمل علي تقدمه، هذا بالإضافة إلي المبالغ التي سبق أن تبرع بها لإنقاذ المنكوبين من كوارث طبيعية وغيرها.. أما فيث فهو أغني أغنياء العالم، وقدرت ثروته بنحو 100 مليار دولار، وقد أعلن عن تبرعه بكل ثروته تقريباً.. وإن شئت الدقة فقل 99% منها.. واحتفظ لنفسه بمليار دولار فقط، وقد اعتبر ما احتفظ به يزيد علي حاجاته إلي نهاية عمره. وأمثلة هذين الرجلين كثيرة، فقد تبرع غيرهما في الولاياتالمتحدة وأوروبا بالجانب الأكبر من أموالهم لأعمال الخير، وللعمل علي تقدم العلوم والمعرفة، وذلك عرفانا منهم بما قدم لهم المجتمع من خدمات، وتخليداً لأسمائهم، إذ إن الذي سيبقي لهم عبر التاريخ ليس ما تركوه من قناطير مقنطرة من الدولارات، ولكن ما فعلوه من خير لمنفعة الناس وإسهام في تقدم المجتمع، وتحسين جودة حياة للبشر، ومن الجدير بالذكر أن هذه الثروات الطائلة لم تكن ريعية، كما أنهم لم يكونوها خلال فترة وجيزة، أو حصلوا عليها بطرق غير مشروعة، أو نتيجة للاستغلال السيئ للظروف المحيطة بهم، ولكن تحققت هذه الثروات من نشاط مشروع نافع، وعبر سنوات طويلة من العمل الشاق، ومن إسهام مميز في تقدم العلوم والتكنولوجيا، مع الالتزام بمسئوليات الجانب الاجتماعي للأعمال ممثلا في عدم المغالاة في تسعير منتجاتهم، وعدم تحقيق أرباح احتكارية من استغلال المواطنين أسوأ استغلال. أي أن ما قاموا به مؤخراً يمكن وصفه بأنه ما بعد المسئولية الاجتماعية لرجل الأعمال. وليست الولاياتالمتحدةالأمريكية فريدة في مثل هذه الأمثلة، بل نجدها كثيرة في أوروبا بحيث لا نحتاج إلي تكرار ذكرها، أما إذا حولنا أنظارنا تلقاء مصر المحروسة وكثير من الدول النامية فإننا سوف نجد بعض الأمثلة الرائعة، التي خصص فيها بعض رجال الأعمال جانبا من ثرواتهم لأعمال الخير والتكافل الاجتماعي مع الفقراء والمحتاجين، ولدعم مؤسسات التعليم، لكن هذه المبالغ لا تمثل إلا نسبة صغيرة من ثرواتهم ويزداد الحزن علي أوضاعنا بالمقارنة بأمثلة الدول المتقدمة إذا علمنا أن هذه الثروات قد تكونت خلال فترة قصيرة من الزمن، ومن المعروف علمياً وعملياً، أنه إذا كون شخص ما ثروة طائلة خلال فترة قصيرة فلابد أن يكون قد شابها انحراف وفساد وأسباب لا أخلاقية، كما تكونت هذه الثروات في أغلب الحالات نتيجة لاستغلال ظروف غير طبيعية للعلاقة مع السلطة، أو لسوء استغلال معاناة أفراد الشعب في ظل عدم ممارسة الحكومة دورها المفترض في منع الاحتكار، وما يترتب عليه من أضرار اجتماعية واقتصادية. صحيح أن قوانين الضرائب في الغرب تسمح بإعفاءات سخية وخصومات كبيرة من دخول الأفراد والشركات، إذا ما خصصت لأغراض اجتماعية أو خيرية، غير أن المبالغ المتبرع بها تفوق كثيراً قيمة الإعفاءات الضريبية التي تمتعوا بها، وعلي هذا لا يكون الدافع لتبرعهم هو تجنب الضرائب فحسب، ولكن هو الهدف الاجتماعي، غير أن قانون الضرائب عندنا لا يسمح بمثل هذه الخصومات إلا في حالات استثنائية، ومن الضروري تعديله كي يفسح المجال لمزيد من الإعفاءات مع التأكد من أنها تعود حقيقة بالنفع علي المجتمع، وألا يكون ما خصص منها لتحسين التعليم أو غيره بابا خلفياً لتحقيق مكاسب أكبر. ورب قائل يقول، إن المجتمعات الغربية تتمتع بالاستقرار والأمان، ومن ثم أمن الناس علي مستقبلهم، ويستطيعون حساب احتياجاتهم المستقبلية بشيء كبير من الدقة والوضوح، وهو ما لا يتوافر عندنا، لكن هذا منطق غير سليم، حيث إن التفاوت الكبير في توزيع الثروات والدخول، هو الذي يهدد السلام الاجتماعي، ويولد الحقد الأسود، ويسبب القلاقل وعدم الاستقرار.. أما مراعاة متطلبات المسئولية الاجتماعية وما بعدها، فإنها المدخل الصحيح لمزيد من الاستقرار والتضامن الاجتماعي، ودعم نسيج المجتمع وتقويته بين فئات المجتمع وطوائفه المختلفة. ومن المفترض أن منع التفاوت الرهيب في الدخول والثروة والاستغلال السيئ للمجتمع، من المسئولية الأساسية للدولة، وإذا لم تقم به بالدرجة الاجتماعية المطلوبة، فإن هذا لا يسقط عن أصحاب هذه الدخول مسئوليتهم في تحقيق العدالة الاجتماعية، طوعا واختيارا، وهم بذلك يحققون مصالحهم أيضاً، حيث سيقدر الناس لهم ما قاموا به من تبرع لتحسين أحوالهم، وتقوية المجتمع، وتحقيق العدالة الاجتماعية. ومثل هذه الصورة لها مزايا جانبية لا تقل أهمية عما سبق، أهمها محاربة التضخم وارتفاع الأسعار. إن من أسباب التضخم المرتفع الذي نعاني منه في مصر الآن عدم تحمل المسئولية الاجتماعية للأعمال، والتفاوت الكبير في توزيع الدخول والثروات، إذ لا يأبه أصحاب الدخول المرتفعة بمستوي أسعار الخضراوات أو البقول، أو اللحم أو الدجاج، وهذه الظروف تدفع البائعين إلي المغالاة في أسعارها، ضاربين عرض الحائط بانخفاض مستوي دخول غالبية الشعب، وأدت هذه الظروف إلي ارتفاع أسعار الدجاج أو اللحم أو الخضار إلي مستويات تفوق نظيراتها في أمريكا وكثير من الدول المتقدمة. إننا نستشعر تعاظم الحقد الاجتماعي في مصر، وتقتضي المصلحة العامة مواجهة هذه الظروف، وآن الأوان أن يقوم الجميع بتحمل مسئولياتهم والقيام بواجباتهم تجاه الوطن؛ فعلي الدولة أن تتخذ إجراءات فعالة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وإقلال الفوارق في توزيع الدخل والثروة، وأن تحارب التضخم الضار الناتج عن استغلال البعض لظروف طارئة وليس بسبب اختلال العرض عن الطلب، وأن ترعي مصلحة الجميع وليس قلة قليلة من المجتمع، وعلي أصحاب الثروات الكبيرة تحمل مسئوليتهم الاجتماعية علي الأقل قبل أن نصل إلي المرحلة التي تليها، وعلي رجال الفكر والإعلام تكريس مزيد من الاهتمام، لمعالجة هذه الظواهر الفاسدة، وألا يملوا من تكرار التصدي لها. إننا نعيش في وطن واحد، وعلي ظهر سفينة واحدة، وقيادة هذه السفينة إلي بر الأمان فيها مصلحة الجميع، فهل نحن فاعلون؟!