لا يمكن لأحد أن ينكر أن لإسرائيل دورا رئيسيا وبارزا في الاضطرابات والفوضى والخلافات التي تنشب من حين لآخر في منطقة حوض النيل، فهذه الدولة تضع نصب عينيها مياه هذا النهر المهم، ودائما ما يعترف قادتها أن منطقة حوض النيل تمثل بُعدا إستراتيجيا مهما للدولة العبرية، خصوصا أن مياه النيل تعتبر ورقة مهمة تلعب بها تل أبيب أمام مصر، وذلك كله رغم أن إسرائيل لا تقوم بالكشف عن أنشطتها في تلك المنطقة بشكل رسمي، بل تقوم بذلك في الخفاء. ونجد أن أكبر دليل على ذلك الاتهامات التي وجهت لإسرائيل، بأنها تقف خلف توقيع عدد من دول حوض النيل لاتفاقية منفردة لإعادة توزيع مياه النهر، رغم اعتراض كل من مصر والسودان. وفي محاولة منا لكشف حقيقة ما تقوم به إسرائيل من مخططات صهيونية خطيرة في منطقة حوض النيل، في ظل إهمال تام من قبل نظام المخلوع حسني مبارك لهذه المنطقة الإستراتيجية والمهمة بالنسبة إلى الأمن القومي المصري، سنقوم هنا باستعراض كتاب إسرائيلي خطير صدر باللغة العبرية في عام 2006 للخبير الإستراتيجي الإسرائيلي أرنون شوفير يتناول فيه مشكلة المياه في الشرق الأوسط بشكل عام، ويركز بشكل خاص على مشكلة النيل ويفرد لذلك جزءا كبيرا من صفحاته. ومن أهم ما تضمنه كتاب "صراعات المياه في الشرق الأوسط" اعتراف مؤلفه صراحة بوجود مصالح إسرائيلية ليست بالهيّنة، ووجود مخططات صهيوينة في منطقة حوض النيل. وهو الأمر الذي سنقوم بالكشف عنه هنا من خلال رصد ما جاء بالكتاب عن علاقات الدولة الصهيونية بدول حوض النيل ونظرتها لها. في البداية يؤكد المحلل الإسرائيلي أرنون شوفير أن لإسرائيل مصالح إستراتيجية وسياسية كبيرة في منطقة حوض النيل، ويدّعي أن نسب توزيع المياه بين دول نهر النيل لها تأثير مباشر على إسرائيل، مما يُعد اعترافا صريحا منه بأن لبلاده أصابع خفية في دفع دول المنبع إلى توقيع اتفاقية منفردة لإعادة توزيع مياه النيل. النيل سلاح إسرائيل الإستراتيجي ضد مصر: يدعي الخبير الإستراتيجي الإسرائيلي أرنون شوفير في كتابه أنه من حسن حظ إسرائيل أن النيل يمثل شريان الحياة بالنسبة لمصر، لأن هذا الأمر منح الدولة اليهودية تفوّقا تكتيكيا وإستراتيجيا أثناء حروبها السابقة مع مصر، ففي حرب الاستنزاف مثلا قامت إسرائيل بضرب سد نجع حمادي وسد إسنا وخطوط الكهرباء الرابطة بين أسوانوالقاهرة، الأمر الذي دفع مصر إلى تغيير خططها، واضطرها إلى إرسال قوات لحماية السد العالي من أي هجوم إسرائيلي، الأمر الذي أدى إلى تقليل حدة الضغوط والهجمات المصرية التي كانت تتعرض لها إسرائيل على خط القناة. وهنا يكشف الكاتب عن المخطط الصهيوني المتعلق بمصر والذي يأتي ضمن مخطط وإستراتيجية أوسع تشمل كل دول حوض النيل، حيث يكشف هذا الكتاب أن موجات الجفاف المتعاقبة التي تعرض لها حوض النيل، بالإضافة إلى الزيادة السكانية المرتفعة في مصر، أدت إلى عدم تمكن مصر من توفير اكتفائها الذاتي من الغذاء، وبالتالي اعتمدت على دول أخرى لتوفير الغذاء لسكانها، الأمر الذي جعل مصر ترتبط بدول خارجية وخصوصا الولاياتالمتحدة التي تُعد أكبر منتج للغذاء في العالم. ويرى الخبير الصهيوني أنه كلما زاد اعتماد مصر على الولاياتالمتحدة، كان هذا الأمر في صالح إسرائيل لأنه يضمن استقرار اتفاقية السلام الموقعة بين القاهرة وتل أبيب. كما يرى الكتاب أن أزمة المياه في مصر ستضطرها إلى إجراء إصلاحات اقتصادية وإلى ترشيد استهلاك المياه، وهو ما قد يصبح سببا لتعاون كبير بين مصر وإسرائيل، لأن إسرائيل تمتلك خبرة واسعة في كلا المجالين ويمكن لمصر أن تستفيد منها في هذا الأمر، بحسب زعم مؤلف الكتاب. في نفس الوقت ترى إسرائيل أن من مصلحتها حدوث أزمة مياه في مصر، لأن ذلك سيدفع مصر إلى الانشغال في صراعات بهذا الشأن مع جيرانها في منطقة حوض النيل، الأمر الذي سيقلل من تدخلها في شئون وقضايا العالم العربي، وهو ما تريده إسرائيل بالضبط. ولكن رغم ذلك لا تخفي عناصر إسرائيلية قلقها من أن تؤدي أي أزمة مياه قد تتعرض لها مصر من تنامي قوة العناصر التي تعارض اتفاقية السلام مع إسرائيل. هذا ويتطرق الكتاب إلى نقطة مهمة أخرى تتعلق بسيناء، حيث يتوقع المحلل الإسرائيلي أن نشهد في عام 2015 انتقال آلاف المزارعين والفلاحين المصريين للإقامة في سيناء بالقرب من الحدود المشتركة مع إسرائيل، نتيجة مشاريع التنمية التي ستتم في سيناء والتي من ضمنها مد ترعة السلام إلى مدينة العريش. وهنا يوضح أن هذا هو السبب الحقيقي -غير المعلن- الذي دفع رئيس الأركان الإسرائيلي إلى إصدار قراره الخاص ببناء جدار حدودي فاصل على طول الحدود المصرية-الإسرائيلية، وذلك حتى يضمن حماية إسرائيل استعدادا لأي تداعيات قد تحدث نتيجة لأمر كهذا. ونجد أنه يوجد في إسرائيل حاليا فريقان ينظر كل منهما نظرة مغايرة لهذا الأمر، فلأن توطين هذا العدد الضخم من المزارعين المصريين في سيناء بالقرب من الحدود الإسرائيلية سيؤدي إلى إحداث تغيرات إستراتيجية كبيرة في المنطقة، نجد أن هناك إسرائيليين ينظرون نظرة تشاؤمية لهذا الموضوع، حيث يرون أنه في حال وقوع مواجهات مستقبلية بين مصر وإسرائيل لن تتمكن إسرائيل من إعادة سيناريو حربي 48 و67 وستجد القوات الإسرائيلية صعوبة في الزحف باتجاه قناة السويس نتيجة لوجود هذا العدد الضخم من المزارعين المصريين الذين سيشكلون جبهة صد أمامية لمصر. أما الفريق الإسرائيلي المتفائل من هذا الأمر فيرى أن الاستثمارات الضخمة التي استثمرتها مصر على مدار 25 عاما في جنوبسيناء، بالإضافة إلى الاستثمارات الحالية التي يتم استثمارها في شمال سيناء سيزيدان من رغبة مصر في التحاور مع إسرائيل ويجعل من مصلحة مصر زيادة حرارة السلام بين البلدين حفاظا على تلك الاستثمارات. ويشير الكتاب إلى أنه مع توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، ظهرت اقتراحات تطالب بتوصيل مياه النيل إلى قطاع غزة الذي يعاني فقرا مائيا شديدا، وإلى النقب وإلى الأردن، ولكن الكاتب يرى أن هذه الفكرة لن تتحقق أبدا نتيجة لسببين: الأول يتعلق بالنقص الشديد في المياه الذي تعانيه مصر. والسبب الثاني يتعلق باعتراض دول حوض النيل وخصوصا إثيوبيا على هذه الفكرة. وفي النهاية يكشف الكاتب الصهيوني عن نظرة إسرائيل للسد العالي، حيث ترى الدولة العبرية أن هذا السد يشكل خطرا أمنيا كبيرا على مصر، لأن تدميره نتيجة ضربة عسكرية أو كارثة طبيعية -زلزال مثلا- ستؤدي إلى إغراق مصر بأكملها، بالإضافة إلى قطع التيار الكهربائي عن مصر، وهنا يزعم أن من أسباب توقيع مصر لاتفاقية السلام مع إسرائيل، هو خشيتها من أن تقوم إسرائيل بضرب السد العالي بقنبلة نووية. المخطط الإسرائيلي في إثيوبيا وإريتريا: يقول الكاتب الإسرائيلي أن مصلحة إسرائيل الإستراتيجية تقضي بعدم سيطرة الدول العربية على البحر الأحمر.. لذلك تعمل الدولة العبرية -من خلال مخطط قديم- على فرض سيطرتها ونفوذها على الدول غير العربية المطلة على هذا البحر ومساعدتها بكل استطاعتها، وخصوصا دولتي إريتريا وإثيوبيا، اللتين تكتسبان ميزة إضافية لدى إسرائيل تتمثل في كونهما أيضا من دول حوض النيل. ويكشف الكتاب عن نوايا إسرائيل صراحة من خلال تأكيده أن إسرائيل يهمها زيادة حصة إثيوبيا من مياه النيل، لأن هذا الأمر يعني من وجهة النظر الإسرائيلية إعادة تقسيم حصص دول الحوض في مياه النيل بشكل عادل. ويؤكد الخبير الإسرائيلي أنه لخشيتها من أي رد فعل مصري، تقوم إسرائيل بتنفيذ مخططاتها في إثيوبيا وإريتريا بشكل حذر حتى لا تثير غضب القاهرة، خصوصا أن هناك العديد من التقارير التي تتهم إسرائيل ببناء عدد من السدود على النيل الأزرق في إثيوبيا. المخطط الإسرائيلي في دول المنبع: يعترف أرنون بأن إسرائيل أقامت علاقات قوية ومتينة مع دولة كينيا، لوجود منابع نهر النيل بها، وكذلك مع أوغندا التي توجد بها بحيرة فيكتوريا وسد "أوان". ويشير الكاتب في هذا السياق إلى أنه خلال حقبتي الستينيات والسبعينيات خشيت مصر من أن تقوم إسرائيل بإغلاق سد "أوان" وبالتالي عدم تدفق مياه نهر النيل إلى مصر، فقامت القاهرة بإرسال فريق من الخبراء والمتخصصين المصريين إلى أوغندا، حيث يوجدون بشكل دائم منذ ذلك الحين عند هذا السد لضمان تدفق مياه النيل الأبيض بشكل منتظم. ويكشف الكتاب عن المخطط الإسرائيلي في تلك الدول والذي يتضمن اهتمام إسرائيل بإحداث تنمية اقتصادية وزراعية في تلك الدول. المخطط الإسرائيلي في السودان: من المعروف أن السودان تعد دولة معادية لإسرائيل، ولكونها كبرى دول حوض النيل وضعتها إسرائيل ضمن اهتماماتها، حيث كان للدولة العبرية دور بارز في الحروب الأهلية التي تشهدها السودان، وخصوصا تلك التي وقعت بين المسيحيين في الجنوب والحكومة المركزية المسلمة في الخرطوم، وتضمن المخطط الصهيوني الذي بدأت إسرائيل تنفيذه منذ بداية التسعينيات تحريض الجنوبيين على عدم التوصل إلى أي تسوية مع حكومة الخرطوم، ودعمهم بالسلاح ومساعدتهم على الانفصال عن السودان. لذلك يكشف مؤلف الكتاب بشكل صريح أن إسرائيل تشعر بالسعادة البالغة بعد الإعلان عن إقامة دولة مسيحية مستقلة في جنوب السودان، لأن ذلك سيضمن لإسرائيل وضع يدها على مصادر المياه هناك.