حسناً، لست في حاجة لإعادة ما ذكرته في مقالي السابق "همّ الفنانين بيعملوا في نفسهم وفينا كده ليه؟!" إذ يمكنك الضغط عليه وقراءته قبل قراءة هذا المقال الذي يعدّ الجزء الثاني منه. فبعد أن تحدثت عن أمراض المشاهير، وازدواجية شخصياتهم في الفن والواقع بشكل انعكس على سلوكيات الجمهور الذي تسللت إليه تلك الأمراض النفسية، وازدواجية المعايير، دعونا نناقش أحوالنا اليوم كمشاهدين متهمين ومجني علينا في الوقت نفسه!
لماذا تنجح الأفلام المبتذلة المليئة بالمشاهد الساخنة والألفاظ الخادشة للحياء؟! سؤال طالما سألته لنفسي ولمن حولي، دون أن ألتقط طرف خيط يقودني إلى سبب منطقي، أو إجابة شافية.. فما أن تغزو إعلانات فيلم جديد شاشات تليفزيوناتنا، ونشاهد كمّ العري والجنس الموجود فيه، بخلاف الألفاظ الخارجة، والإيماءات والإيحاءات الساقطة، حتى تقوم الدنيا ولا تقعد من الجمهور "المحترم".. مجموعات على موقع الفيس بوك تهاجم الفيلم، وتدعو الجميع لمقاطعته وعدم دخوله لما يحتويه من أفكار، ومشاهد خارجة عن النسق العام، بطريقة تناقض عاداتنا وتقاليدنا كمجتمع شرقي "محافظ"، وتعليقات هجومية شرسة من زوار المواقع الإلكترونية على أي موضوع أو مقال منشور في تلك المواقع، ويتحدث عن هذا الفيلم من قريب أو بعيد، ليتبارى أصحاب تلك التعليقات في صب جام غضبهم واعتراضهم على كل المشاركين في هذا الفيلم، سواء من كانوا أمام الكاميرا أم من وقفوا خلفها، داعين الله تعالى بإنزال عقابه، وأن يرينا عجائب قدرته في هؤلاء الفاسدين الفسقة الذين عاثوا في الأرض فساداً، وخرجوا عن الدين والملة، وفي النهاية ينجح الفيلم بجدارة إن لم يحقق المركز الأول، بفعل إقبال الجماهير عليه في دور العرض!
حدث هذا -على سبيل المثال لا الحصر- في فيلمي: "بالألوان الطبيعية" و"كلّمني شكراً" بموسم نصف العام الماضي، بعد أن حدث قبلها في مواسم كثيرة وأفلام أكثر!
أين "الأدب" من جمهور يعادي "قلة الأدب" في الأفلام والأعمال الفنية، رغم انتشار الألفاظ الخارجة في الشوارع والطرقات العامة؟! علامة استفهام كبرى من الحجم العائلي، تعتري عقلي وتفكيري وأنا أعيش في مجتمع تصدمك ألفاظه الخارجة، وسبابه الذي يتعدى كل الحدود والأعراف بمجرد خروجك من بيتك، وحتى عودتك إليه مرة أخرى، وقد حملت أذنك أبشع قائمة بغيضة من الشتائم واللعنات التي التقطتها -رغم أنفك- وأنت تسير في الشوارع، أو تركب وسائل المواصلات العامة، أو داخل عملك في القطاع العام أو الخاص على حدّ سواء، أو حتى وأنت تدرس في مدرستك أو معهدك أو جامعتك، بخلاف تعليقات من حولك ومزاحهم "الخارج" وأنت تجلس مع أسرتك أو زوجتك وأولادك في "فسحة بريئة" في النادي أو السينما، لتقسم بأغلظ الأيمان أنه مجتمع "قليل الأدب"، قبل أن يفاجئك هذا المجتمع نفسه بالتأفف، والامتعاض، وإصدار أصوات الاعتراض الخجول بالأنف والفم، سواء ب"تؤ تؤ"، أو "ياي"، أو تلك الهمهمات التي يعبر أصحابها عن كسوفهم من لفظ خارج خرج من البطل أو البطلة على حين غرّة -حلوة على حين غرّة دي- في فيلم ما، وأنت تشاهده في دار العرض، وكأن هذا اللفظ مثلاً جاء من "المريخ" ولم يسمعه أو يعتدْ عليه الأخوة المعترضون!
والأطرف والأنكى أن تعليقات الجمهور المنشورة على مواقع ومنتديات الإنترنت، لتعبر عن اعتراض أصحابها على ما ورد في الفيلم من ألفاظ وكلمات خارجة، قد تتضمن أحياناً شتائم وألفاظا خارجة بدورها، موجهة للوسط الفني وأبطال العمل؛ لأنهم خرجوا عن "الأدب" وقالوا ألفاظاً "قليلة الأدب"، ولا يصح ذكرها..
من الذي يشتري الصحف والمجلات المليئة بصور الفنانات العاريات؟! تسير بجوار أحد أكشاك الجرائد، فيصطدم بصرك بزحام شديد، وتجمهر حاد من عدد كبير من البشر معظمهم يصوّب بصره إلى الجريدة "الفلانية" التي تنشر صورة فاضحة لممثلة عارية، أو المجلة "العلانية" التي تتصدر غلافها مطربة خليعة، ورغم ذلك، تخترق مسامعك كلمات الاستغفار والغضب من حال الناس الضالة التي تُقبل على المعاصي والشهوات، وتزني بالنظر إلى المحرمات، لتلتفت إلى جوارك وتجد أن هذا الأخ المعترض، كان يزاحمك منذ لحظات في مقاسمة النظر لتلك الصور، والحصول على نفس الذنب، بينما لا يجد شاب آخر -أعتبره الأكثر تصالحاً مع نفسه- أي غضاضة أو خجل في شراء تلك الجريدة أو تلك المجلة، رغم معايرة "المشاهدين" له بأعينهم، فيجيبهم بعينيه أيضاً "لو مش عاجبكم واقفين تتفرجوا ليه؟".
كيف نعترض على اهتمام البعض بأخبار الفنانين وعدم الالتفات لمشاكلنا وأحوالنا المؤسفة، ونحن نحذو حذوهم ونعلّق على نفس الموضوعات الفنية؟! تكتب خبراً فنياً، أو مقالاً نقدياً عن عمل فني من باب التحليل والرصد، فتجد تعليقات من بعضهم، تبكي على حال أمتنا التي انشغلت بتوافه الأمور، والساقطين من الفنانين، دون أن يلتفت أبناء هذه الأمة لباقي الكوارث والخواطر المحدقة بنا، ويتعجب أصحاب تلك التعليقات من المتأسفين على أحوال الأمة، كيف تزيد تعليقات الزوار على الأخبار الفنية، بينما تقلّ على الموضوعات الهامة، رغم أن الأخ أو الأخت التي كتبت التعليق قامت هي الأخرى بالتعليق، وفي غالب المرات نكتشف أن الذي كتب التعليق قد قرأ الموضوع حتى نهايته، ليعلق على كل ما جاء فيه، ثم يسبّ أقرانه من الشباب الضائع الضال الذي ينشغل بقراءة الأخبار الفنية دون غيرها!!
ما معنى كل هذا التناقض والازدواجية؟! نحن مجتمع يرفض إقرار الخطأ والخطيئة حتى وإن كنا نقترفها في لحظات الضعف والاستسلام للشيطان.. نحن مجتمع يدين الفساد والمفسدة رغم أننا نسقط ونفسد ونحن نطمع في رحمة الله ومغرفته، مرددين أنه "رحمن رحيم".. نحن مجتمع اختلط عليه الأمر، وفشل في التفرقة بين معنى الفن الحقيقي وأخطاء وخطايا الفنانين التي تسيء لشخوصهم ولا تسيء للفن نفسه.. تماماً مثل أن أخطاء أتباع الأديان تسيء لذواتهم ولا تسيء لأديانهم التي يعتنقونها نفسها.. نحن مجتمع يكره فنانة بعينها لأنها تعري جسدها وتتاجر بأنوثتها، وتجاهر بعدم حيائها، رغم أننا نستسلم لتلك المفاتن والأنوثة في لحظات أخرى يعترينا فيها الضعف، فنحملها فوق الأعناق، ونتهافت على تجميع صورها، ومشاهدة أعمالها، والتقاط الصور معها، ومدحها بكلمات الغزل حين نلتقيها وجهاً لوجه فنشجعها على التمادي في الرذيلة.. نحن مجتمع معظم شبابه محروم من الزواج فلا يقدر على العفة، ولا يقوى على الصوم طوال أيام السنة، فينزلق إلى المفاتن والشهوات، بينما بعض الأهل أنفسهم ينزلقون مثله لمتابعة تلك المهزلة، وهم يحذون حذوه في التركيز، والإنصات، والمشاهدة بعينين متسعتين تتمنى لو تلتهم الصورة التهاماً!.
نفس المجتمع الذي يربي شبابه ذقونهم، ويتركون لحاهم في رمضان، وقد عوّدوا أنفسهم على الذهاب إلى المساجد للّحاق بصلاة الجماعة، والمواظبة على الطاعات والعبادات، وختم القرآن الكريم، هو نفسه المجتمع الذي يخلع شبابه ثوب التدين ويحلقون اللحى، ويتعاطون المخدرات في ليلة "وقفة العيد" ويتخلون عن الفروض والشعائر، إلا من رحم ربي، وهو نفسه المجتمع الغارق في ازدواجية المعايير، ويفعل الخطأ ثم يعترض عليه ويسب من يفعله.. تماماً كتلك الازدواجية في مواقفنا السياسية، وطريقة تعاملاتنا اليومية مع من حولنا، من أناس نمدحهم في وجوههم، ونبصق عليهم ونسبّهم بمجرد أن يعطونا ظهورهم، ليمتد هذا التناقض والازدواجية في مواقفنا وأحكامنا الفنية على الفن والفنانين.
الأمر يشبه ذلك التساؤل الشهير.. "أيهما أولاً.. البيضة أم الفرخة؟!"، فهل الفنانون هم الذين أصابونا بذلك الازدواج والتناقض، أم إن تناقض المجتمع وازدواجيته هي التي تسللت للوسط الفني؟ هل الأفلام المبتذلة تنجح لأن الجمهور يحب الابتذال؟ أم إن الابتذال هو الذي ينتشر حتى يفرض نفسه فيتأثر به الجمهور ويقبل عليه؟ لو سألت أي مخرج أو فنان أو فنانة عن مشاهد "خارجة" قاموا بها سيبادرونك متسائلين بدورهم: ولماذا شاهدتها إن كانت لا تعجبك؟ ولماذا تنجح تلك الأعمال التي تحتوي على المشاهد الساخنة والألفاظ البذيئة إلا إذا كان الجمهور نفسه يقبل على الابتذال والسفه؟
الحل -من وجهة نظري- أن الأمر بيد الجمهور لإثبات الحقيقة.. إن كان الابتذال مرضاً يتسلل إلينا من الوسط الفني، فلنحاول أن نشفى منه بمقاطعة تلك الأعمال المبتذلة حتى يفيء كل ساقط مبتذل، ولا يجد من يشتري بضاعته.. ربما كان الأمر صعباً، ربما شعرنا بالألم من جراء سحب الابتذال من نفوسنا التي تشبعت به، كألم المدمن من جراء سحب المخدر من دمه، لكننا في النهاية سنتعافى وسنجبر البائع أن يغير بضاعته لنفرض عليه أذواقنا، بدلاً من أن يفرض هو علينا أخلاقيته وأنماطه المتوحلة.
أما إذا كان الابتذال واقعا نحن من يفرضه على المنتجين والفنانين الذين يضطرون للابتذال حتى يحظوا بإقبالنا، ويضمنوا النجاح الذي ندفعه من جيوبنا، فلا نلوم إلا أنفسنا إذن، ولا نسبّ الفنانين لأننا نقف معهم على قدم المساواة في عالم الخطيئة والانحدار!