قبل أن تقرأ.. لم تجد «روزاليوسف» من هدية تناسب ولاء قرائها لهذه المطبوعة، سوي نشر سلسلة من اللقاءات والحوارات النادرة التي لم تنشر من قبل مع كبار المفكرين والكتاب والأدباء والفنانين، أجراها الكاتب والإعلامي العربي الدكتور نجم عبدالكريم في فترات مختلفة علي مدي أربعة عقود. قبل أن أكون واحداً من طلبته في المعهد العالي للسينما، كنت قد تعرفت عليه، وشاهدته في الاستديوهات، وهو يقوم باخراج أعماله السينمائية، كان صلاح أبوسيف يعد من أكثر المخرجين أهمية، ومن أكثرهم هدوءاً أثناء عمله .. ففي الوقت الذي كان فيه يوسف شاهين يثور، ويتلفظ بكلمات غير لائقة داخل الاستوديو، نجد أن صلاح أبو سيف كثيراً ما يعتريه الحياء والخجل، في مخاطبته للعاملين معه في الاستوديو . أما عما تركه من آثار فنية، فهي تُعدُّ بحقٍ من أكثر الأعمال السينمائية ملامسةً للواقع المصري، حتي أطلق عليه النقاد لقب (مخرج الواقعية). ... عندما التقيته، انتابتني الحيرة ! فالرجل قليل الكلام، واجاباته مختصرة جداً، ولكنني لم أتورع لتبديد حيرتي من التوجه اليه بهذا السؤال في لقائي معه: وسيلتنا في الاذاعة هي الكلام .. وما أعرفه عنك أنك رجل قليل الكلام، فكيف سنتعامل مع هذه المعادلة ؟! - اذا جلست وراء الميكرفون وهناك أسئلة توجه الي، فلا أستطيع الصمت، لابد أن أتكلم .. استاذ صلاح .. عندما كنت تقوم بتدريس مادة السيناريو والاخراج في معهد السينما، كنت تشعرنا نحن طلبتك بأننا أمام صديق، وهذا الاسلوب التربوي في التعليم جعلنا نُميز بينك وبين الاساتذة الآخرين ممن كانوا يصرّون علي الشدة التي تصل أحياناً الي الشتم والتعزير.. لدرجة أننا كنا نرتقب مجيئك، ونحرص علي الحضور الي مادتك، كي نستمتع بالجلسة مع صديقنا صلاح أبو سيف ! - دراسة السينما، تختلف عن أي دراسة أخري، فالانسان الذي يقرر دراسة هذا النوع من الفنون، لابد أن يكون بداخله فنان، لديه فكرة كاملة عن طبيعة ما هو مقدم اليه، فإذن لابد من الصداقة بيني وبينه كي نتفاهم علي مشاريع المستقبل، ثم انني لست مدرساً، فأنا صاحب تجربة، ولدي معلومات اكتسبتها من خبرتي العملية، ودوري كان يتطلب مني أن أُطلع أصدقائي الطلبة علي تجربتي وخبرتي .. وهذا ما حدث فعلاً في تعاملي مع الكثير ممن أصبحوا الآن زملائي في العمل أمثال عاطف الطيب، وأشرف فهمي، وايناس الدغيدي، ورأفت الميهي، ومحمد خان، وغيرهم .. وغيرهم .. عفواً استاذ صلاح .. رأفت الميهي ومحمد خان، لم يكونا من خريجي المعهد العالي للسينما ! -الميهي لم يكن خريج المعهد العالي للسينما صحيح، لكنه اكتسب معرفته السينمائية من الخارج .. عندما كان يكتب سيناريو، وارتبط بشبكة علاقات مع السينمائيين، وكان موهوباً، وانتقل من احتراف كتابة السيناريو الي الاخراج . أما محمد خان فقد درس السينما في لندن، لكنه قد اكتسب خبرة سينمائية عملية عندما اشتغل معي حينما كنت رئيس مجلس ادارة شركة الانتاج . ثم لا تنسي أن الميهي وخان كانا من أصدقائي، كما كنتم أنتم في معهد السينما أصدقائي .. أقول أصدقائي لأنها الكلمة الأكثر تعبيراً عن تلامذتي او طلبتي . في فترة الستينيات قد تبوأت موقع الريادة في تحديد مسارات السينما المصرية، كرئيس مجلس ادارة لقطاع السينما، وكانت لديك طموحات للارتقاء بمستوي هذا المرفق .. فكيف تري صناعة السينما المصرية الآن؟! - بكل أسف أقول: إن صناعة السينما في مصر متخلفة جداً، جداً! والسبب؟! -أن هناك من يسعون لتدمير وفشل هذه الصناعة!!.. وهم أنفسهم ما زالوا يقفون ضدّ صناعة سينما مصرية نظيفة!! من هم هؤلاء؟! وبكل أسف أقول أيضاً : انهم من السينمائيين، أو بالأحري من جماعة سينما المقاولات، لأنهم ينظرون اليها من زاوية تجارية بحتة، حتي وإن قدمت للجمهور كل ما هو مبتذل ورخيص، فوقفوا بكل ما يملكون من قوة لافشال القطاع العام في مجال السينما، واستغلوا مرحلة الانفتاح الساداتية، لتصل السينما المصرية الي احط مراحل تاريخها في عقود ما بعد القطاع العام، فأصبحت شاشة السينما المصرية مليئة بالمشاهد الاباحية والفجور، والاغراء والانحلال، فالبطلة تخرج من مشهد جنس الي مشهد جنس آخر، والحوار بذيء والألفاظ رخيصة مكشوفة..!! .. أما الرقابة فكأنها تُعبر عن مجتمع أمريكي، عن الليبرالية التي يمارسونها هناك، عن حضارة غسل المخ بالجنس والعنف، والمخدرات، وكرة القدم، والاعلانات، والسلع الاستهلاكية.. لأنهم لا ينظرون الا لحصيلة الشباك، وهذا تقليد في ابتذال السينما الأمريكية ولكن علي مستوي أقذر وأتفه.. والجيد من أفلام المقاولات هذه، وهو نادر جداً، لايزيد علي فيلم أو فيلمين من كل مئة فيلم!! أليس هذا حكماً قاسياً علي السينما المصرية المعاصرة؟! -ما أقوله هو ما يحدث الآن بالفعل، لدرجة أن السينما قد ربّت نوعاً من الجمهور أكثره من الغوغاء.. بل إن المحترمين من الناس اذا ذهب الواحد منهم الي دار السينما ليشاهد فيلماً، فإنه لا يكررها ثانيةً، لما يسمعه من تعليقات منحطة داخل دور العرض .. فهذا الفن السينمائي الرديء هو العملة الرابحة في السينما المصرية المعاصرة. والحل؟! - أن تكون هناك ادارة مكافحة لمن يقدمون أعمالاً سينمائية مبتذلة، شبيهة بإدارة مكافحة تجارة المخدرات!! .. وأن يحاكم من يخرجون هذه النوعية من الافلام الرديئة!!.. أنا أعرف أحد المخرجين، يقوم بانتاج واخراج سبعة افلام في السنة!!.. أو تعرف ماذا يعني هذا؟!.. سبعة أفلام!!.. متي يقرأ السيناريوهات الخاصة بها؟!.. متي يقوم بتقطيع المشاهد لكل سيناريو؟!.. متي يعقد اجتماعاته مع المساعدين، وجهاز التصوير، وجهاز الديكور، بل متي يلتقي بالممثلين، هذا النوع من المخرجين يجب أن يقدم للمحاكمة..!! بأي قانون، تدعو لمحاكمتهم؟! - كما قلت لك: نستحدث ادارة باسم مكافحة الأضرار الاجتماعية، شبيهة بادارة مكافحة المخدرات، أليست ادارة شرطة الآداب مهمتها الحفاظ علي السلوك العام، والحياء العام، فيجب أن تكون مهمة هذه الادارة التي سيكون لها قضاتها ممن يحافظون علي سلامة الذوق العام في المجتمع.. تصور أن هناك مسابقة تجري في الوقت الحاضر، تقوم علي أساس: من يقوم باخراج فيلم خلال اسبوعين؟!.. وأصبحت للأسف الآن عشرة أيام..؟! وأنا أعرف أحدهم أخرج فيلماً كاملاً في اسبوع واحد!! عندما أسافر الي الاسكندرية في الاتوبيس أشاهد أفلاماً غريبة، عمري ما سمعت عنها!! وهي أفلام مصرية!! بممثلين معروفين!! اذن أنت تري الحل بإنشاء ادارة لمكافحة الأعمال السينمائية الهابطة؟!! - نعم.. السينما رسالة ثقافية ترفيهية، ولا يجب أن يقوم علي صناعتها إلا من كان جديراً بها، أما حكاية (الجمهور عايز كده) التي أصبحت كلمة يشار بها الي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر بسبب الجهلة الذين اخترقوا صناعة السينما!! هذه الكلمة (الجمهور عايز كدة) يجب أن تعطينا درساً لما تحمله من مضمون يدل علي الرخص والابتذال.. هذه الكلمة يجب أن تُمحي من قاموس السينما..!! ألا تري أن الابتذال الذي أشرت اليه في صناعة السينما المصرية المعاصرة قد انتقل الي التليفزيون أيضاً؟! - في التليفزيون أهون، ولكن خطورة الابتذال في التليفزيون هو ليس ما نخشاه من انتاج الفضائيات العربية، بالرغم من تحفظاتي علي الكثير منها، ولكن الخطورة من البرامج والتمثيليات والأفلام التي تبثها فضائيات الدول الأخري، ويشاهدها الناس في بلادنا العربية.. ولتأكيد تخوفاتي هذه، أنني كنت أشاهد محطة فضائية تركية تبث أفلاماً جنسية، ومتي؟!.. في شهر رمضان المبارك.. تخيل؟! ناس مجردون تماماً من الملابس، ويمارسون الجنس علانيةً.. هذا في تركيا، فما بالك مما تبثه الدول الأخري!.. ولذا فإني أدق ناقوس الخطر لأجهزة الفضائيات العربية ألا يفسحوا المجال للمشاهد العربي كي يلجأ لمثل هذه الفضائيات، عندما يقدمون له أعمالاً جيدة ومدروسة، مستفيدين من أخطاء السينما، وكذلك من أخطاء المسرح الذي جنح للابتذال هو الآخر!! عُدت مؤخراً من باريس، ونشرت الصحف أن هناك مشاريع مشتركة تمت بينك وبين سينمائيين فرنسيين، فهل من الممكن أن تُسلط الضوء علي هذا الموضوع؟! -ما نُشر ليس صحيحاً، أنا ذهبت الي باريس لحضور مناقشة رسالة دكتوراه في جامعة السوربون عنوانها: (المجتمع في أفلام صلاح أبو سيف) قدّمها باحث تونسي اسمه خميس خياطي، وحصل بموجبها علي درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف، وكنت قبل ذلك قد حضرت رسالة دكتوراه أخري ل عبد الحميد يوسف تناول فيها (الروايات الادبية في أفلام صلاح أبو سيف ). أكيد كان ل نجيب محفوظ النصيب الأوفر في هذه الرسالة ؟! خاصةً بداية ونهاية، والقاهرة (30) -نجيب محفوظ اشترك معي في كتابة (15) سيناريو، وكانت من أفضل ما أخرجت من أعمال سينمائية.. يقال إنك أنت الذي اكتشفت نجيب محفوظ ككاتب للسيناريو؟! -وهذا ما أعتزّ به.. ففي عام (1945) كان لي صديقان عزيزان جداً هما: عبد الحليم نويرة الموسيقي المعروف، وشقيقه فؤاد نويرة، وكانا كثيراً ما يتحدثان عن كاتب اسمه نجيب محفوظ، ثم أعطياني روايتيه اللتين كتبهما عن تاريخ مصر القديمة وهما : (كفاح طيبة)، و(رادوبيس).. والذي أعجبني فيهما أن نجيب محفوظ يكتب بالصورة، وليس بالاسلوب اللغوي، وعندما التقيته، قلت له: "استاذ نجيب أنا أريد أن تشاركني في كتابة السيناريو السينمائي.."، فقال: "ليست عندي معرفة أو خبرة في هذا المجال.."، فشرحت له وقلت: "أنت عندك المبادئ الأساسية الخاصة بالسيناريو، لأنك تكتب بأسلوب درامي، وما ينقصك هو معرفة خصائص الكتابة للسينما، وهذه مسألة ممكن التغلب عليها.. وجلبت له عدة كتب عن حرفية السيناريو، وتمخض أول تعاون بيننا عن فيلم عنتر وعبلة من بطولة كوكا، وسراج منير، واخراج نيازي مصطفي.