البابا تواضروس الثانى يصلى الجمعة العظيمة فى الكاتدرائية بالعباسية..صور    إسكان النواب: مدة التصالح فى مخالفات البناء 6 أشهر وتبدأ من الثلاثاء القادم    أحمد التايب لبرنامج "أنباء وآراء": موقف مصر سد منيع أمام مخطط تصفية القضية الفلسطينية    أمين اتحاد القبائل العربية: نهدف لتوحيد الصف ودعم مؤسسات الدولة    نشرة الحصاد الأسبوعي لرصد أنشطة التنمية المحلية.. إنفوجراف    الشكاوى الحكومية: التعامُل مع 2679 شكوى تضرر من وزن الخبز وارتفاع الأسعار    وزارة الصحة توضح خطة التأمين الطبي لاحتفالات المصريين بعيد القيامة وشم النسيم    برواتب تصل ل7 آلاف جنيه.. «العمل» تُعلن توافر 3408 فرص وظائف خالية ب16 محافظة    أبرزها فريد خميس.. الأوقاف تفتتح 19 مسجدا في الجمعة الأخيرة من شوال    الذهب يرتفع 15 جنيها في نهاية تعاملات اليوم الجمعة    محافظ المنوفية: مستمرون في دعم المشروعات المستهدفة بالخطة الاستثمارية    حركة تداول السفن والحاويات والبضائع العامة في ميناء دمياط    عضو «ابدأ»: المبادرة ساهمت باستثمارات 28% من إجمالي الصناعات خلال آخر 3 سنوات    الاستعدادات النهائية لتشغيل محطة جامعة الدول بالخط الثالث للمترو    المنتدى الاقتصادي العالمي يُروج عبر منصاته الرقمية لبرنامج «نُوَفّي» وجهود مصر في التحول للطاقة المتجددة    نعم سيادة الرئيس    السفارة الروسية بالقاهرة تتهم بايدن بالتحريض على إنهاء حياة الفلسطينيين في غزة    المحكمة الجنائية الدولية تفجر مفاجأة: موظفونا يتعرضون للتهديد بسبب إسرائيل    حاكم فيينا: النمسا تتبع سياسة أوروبية نشطة    المقاومة الفلسطينية تقصف تجمعا لجنود الاحتلال بمحور نتساريم    سموحة يستأنف تدريباته استعدادًا للزمالك في الدوري    بواسطة إبراهيم سعيد.. أفشة يكشف لأول مرة تفاصيل أزمته مع كولر    الغندور: حد يلعب في الزمالك ويندم إنه ما لعبش للأهلي؟    مؤتمر أنشيلوتي: عودة كورتوا للتشكيل الأساسي.. وسنحدث تغييرات ضد بايرن ميونيخ    تشافي: نريد الانتقام.. واللعب ل جيرونا أسهل من برشلونة    «فعلنا مثل الأهلي».. متحدث الترجي التونسي يكشف سبب البيان الآخير بشأن الإعلام    "لم يحدث من قبل".. باير ليفركوزن قريبا من تحقيق إنجاز تاريخي    بسبب ركنة سيارة.. مشاجرة خلفت 5 مصابين في الهرم    مراقبة الأغذية تكثف حملاتها استعدادا لشم النسيم    كشف ملابسات واقعة مقتل أحد الأشخاص خلال مشاجرة بالقاهرة.. وضبط مرتكبيها    إعدام 158 كيلو من الأسماك والأغذية الفاسدة في الدقهلية    خلعوها الفستان ولبسوها الكفن.. تشييع جنازة العروس ضحية حادث الزفاف بكفر الشيخ - صور    تعرف على توصيات مؤتمر مجمع اللغة العربية في دورته ال90    لأول مرة.. فريدة سيف النصر تغني على الهواء    فيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة" يتراجع ويحتل المركز الثالث    الليلة.. آمال ماهر فى حفل إستثنائي في حضرة الجمهور السعودي    في اليوم العالمي وعيد الصحافة.."الصحفيين العرب" يطالب بتحرير الصحافة والإعلام من البيروقراطية    عمر الشناوي ل"مصراوي": "الوصفة السحرية" مسلي وقصتي تتناول مشاكل أول سنة جواز    مواعيد وقنوات عرض فيلم الحب بتفاصيله لأول مرة على الشاشة الصغيرة    دعاء يوم الجمعة المستجاب مكتوب.. ميزها عن باقي أيام الأسبوع    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة.. فيديو    خطيب المسجد الحرام: العبادة لا تسقط عن أحد من العبيد في دار التكليف مهما بلغت منزلته    مديرية أمن بورسعيد تنظم حملة للتبرع بالدم بالتنسيق مع قطاع الخدمات الطبية    بعد واقعة حسام موافي.. بسمة وهبة: "كنت بجري ورا الشيخ بتاعي وابوس طرف جلابيته"    خطبة الجمعة اليوم.. الدكتور محمد إبراهيم حامد يؤكد: الأنبياء والصالحين تخلقوا بالأمانة لعظم شرفها ومكانتها.. وهذه مظاهرها في المجتمع المسلم    بيان عاجل من المصدرين الأتراك بشأن الخسارة الناجمة عن تعليق التجارة مع إسرائيل    قوات أمريكية وروسية في قاعدة عسكرية بالنيجر .. ماذا يحدث ؟    ضبط 2000 لتر سولار قبل بيعها بالسوق السوداء في الغربية    التعليم العالي: مشروع الجينوم يهدف إلى رسم خريطة جينية مرجعية للشعب المصري    محافظ المنوفية: 47 مليون جنيه جملة الاستثمارات بمركز بركة السبع    إصابة 6 سيدات في حادث انقلاب "تروسيكل" بالطريق الزراعي ب بني سويف    وزير الصحة: تقديم 10.6 آلاف جلسة دعم نفسي ل927 مصابا فلسطينيا منذ بداية أحداث غزة    نقيب المهندسين: الاحتلال الإسرائيلي يستهدف طمس الهوية والذاكرة الفلسطينية في    «الإفتاء» تحذر من التحدث في أمور الطب بغير علم: إفساد في الأرض    إصابة 6 أشخاص في مشاجرة بسوهاج    الفلسطينيون في الضفة الغربية يتعرضون لحملة مداهمات شرسة وهجوم المستوطنين    رئيس اتحاد الكرة: عامر حسين «معذور»    الغدة الدرقية بين النشاط والخمول، ندوة تثقيفية في مكتبة مصر الجديدة غدا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صانع ثقافة الثورة.. فتحي رضوان: عبدالناصر رجل «المشاكل» ولم أعرف من الضباط الأحرار سوي «السادات»


قبل أن تقرأ..
لم تجد «روزاليوسف» من هدية تناسب ولاء قرائها لهذه المطبوعة، سوي نشر سلسلة من اللقاءات والحوارات النادرة التي لم تنشر من قبل مع كبار المفكرين والكتاب والأدباء والفنانين، أجراها الكاتب والإعلامي العراقي الدكتور نجم عبدالكريم في فترات مختلفة علي مدي أربعة عقود.
في الحلقة الثانية.. ننشر حواراً نادراً مع صانع ثقافة الثورة.. الرجل الذي أنشأ وزارة الثقافة وأخاف عبدالناصر والسادات إنه فتحي رضوان.
عندما التقيته عام 1968 في مكتبه في القاهرة، كان قد تقاعد من كل المهام الرسمية، وعاد لممارسة المحاماة.. وفي أثناء وضع المحاور والمنطلقات التي سأتناولها بالحوار معه، كنت في حيرة من أمري..!! ففتحي رضوان، رغم أن له العديد من المؤلفات المتنوعة، ما بين كتابة السير والمسرحيات والقصص والبحوث، إلا أن الأدباء لا يصنفونه كأديب، وينظرون اليه باعتباره من رجال السياسة، بينما يتعامل معه أهل السياسة باعتباره من الأدباء!!..
أمام صعوبة هذه المعادلة، كان لابد لي من الخروج من مأزق الحديث عن التخصص في الأدب والثقافة أو السياسة، الي التحاور معه حول تجربته في صناعة الثقافة!!.. باعتبار أن فتحي رضوان قد جعل من فنون الثقافة في العقد الأول من منتصف القرن الماضي، تمور في حركة، هي أقرب ما تكون الي ورشة عمل، حيث كانت المطابع - في مصر - تطبع كتاباً في كل ست ساعات، وفرق الفنون الشعبية صارت تجوب الآفاق العالمية، وتلقي اعجاب العالم في مختلف القارات، أنشئت العشرات من الفرق المسرحية في تلك الحقبة، وكذلك نشطت حركة صناعة السينما بشكل غير مسبوق، كما تم انشاء معاهد لفنون السينما والباليه، والموسيقي، وغيرها من المعاهد الفنية الأخري، وتم تنظيم المتاحف، ودور الآثار، بعد أن كانت عرضة للاهمال، ناهيك عما كانت تقوم به الاذاعة من دور عظيم في التأثير علي الرأي العام المحلي والعالمي.
والعرب - من غير المصريين - ممن عايشوا تلك المرحلة، يدركون كيف كان تأثير دور الثقافة والفنون والاذاعة المصرية عليهم!!.. بل إن ذلك التأثير قد شمل العديد من بلدان آسيا وأفريقيا.
وفي الأيام الأولي لقيام الثورة المصرية، كان فتحي رضوان سجيناً سياسياً، وقد أطلق سراحه في الأسبوع الأول من قيامها، حيث أُنيطت به مباشرة المهام الثقافية والاعلامية.. سألته :
كيف حدث ذلك يا أستاذ فتحي؟!
- أعتقلت في 26 يناير عام 1952 بدون أي اتهام، لكن الأحكام العرفية التي أعلنت أثناء حريق القاهرة الذي لا علاقة لي به من قريب أو بعيد، جعلت رئيس الوزراء علي ماهر يصدر أمراً شفوياً باعتقالي!!
ولما سمعت بيان الثورة في يوم 23 يوليو عن طرق الراديو، قفزت فرحا، وأيقظت زملائي في الحجرة في المعتقل، أذكر منهم يوسف حلمي، وسعد كامل، وبعد يومين أخبرني الضابط أن أكون مستعداً للخروج، إذ إن هناك طائرة خاصة مجهّزة لنقلي الي منطقة بوكلي بالرمل في الاسكندرية، وهو مقر رجال الثورة، الذين لم أكن أعرف منهم أحداً سوي أنور السادات، اذ توطدت بينه وبيني المعرفة عندما كنت أترافع عن بعض المتهمين في قضية مقتل أمين عثمان، ولم يكن هو من بين من كنت أترافع عنهم.
وهل أُنيطت بك المهمة الرسمية عندما التقيت برجال الثورة؟!
- لا.. المسألة ليست بهذا الشكل!!.. فعلي ماهر باعتباره ظلّ رئيساً للوزراء أثناء قيام الثورة، هو الذي اقترح اطلاق سراحي، لأقوم بدور الوساطة بينه وبين رجال الثورة، ظناً منه بأني علي صلة بهم، رغم أن الملك قد أبدي موافقته المبدئية علي معظم مطالب الضباط..!!
وهذا موضوع شرحه يطول.. ولكي أعود للاجابة علي سؤالك، فأنا التقيت بعبد الحكيم عامر، وأبديت له تخوفي من وجود علي ماهر كرئيس للوزراء، فهذا الرجل كان ملكياً حتي النخاع، وكان يدبر المؤامرات السياسية ضدّ خصومه وأصدقائه من داخل السراي عندما كان رئيساً للديوان الملكي، ومستشاراً للملك فاروق!!
فقال لي عبد الحكيم: اريد منك أن تصطحبني لتلتقي بزملائي، وتحدثهم بنفسك عن وجهة نظرك في علي ماهر..!!
ولما التقيت بهم رحّب بي عبد الناصر بطريقة لافتة، وسألني اذا كنت أتذكره؟!.. وأضاف: أنا جمال عبد الناصر كنت في (مصر الفتاة) وكنت أنت يا استاذ فتحي استاذنا ورئيسنا.. ثم تحدثت إليهم عن المهمة التي جئتهم من أجلها.. وبالفعل ما هي الا فترة وجيزة حتي أطيح ب علي ماهر، بعد أن رشحت لهم بديلاً عنه ليتولي رئاسة الوزارة في تلك الحقبة الحرجة، وهو سليمان حافظ، لأنه كان وطنياً شريفاً منذ أن كان طالباً، وكاد أن يعتلي حبل المشنقة في قضية اغتيال السردار الشهيرة، ثم أنه مارس العديد من الوظائف الحكومية، اضافةً الي أنه يعد من رجال القانون، ويقف علي قدم وساق مع عبد الرزاق السنهوري.. وقد تم ترشيحي بدايةً لوزارة الشئون الاجتماعية، ووجد البعض أن علاقتي بقطاع العمال قد تشكل خطورة، كما كانوا يتصورون!!
واقترحت أن تُنشأ وزارة للدعاية.. اذ لم تكن هناك وزارة للارشاد أو الاعلام أو الثقافة في مصر، في ذلك الوقت..!!
كيف كانت تصوراتك أثناء تلك الظروف، للدور الذي كانت ستطّلع به وزارة الارشاد؟!
- انطلقت من مبدأ أن (العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة)، فما كانت عليه الحالة الثقافية أنها في غاية السوء، كانت سوقية وفجة، غير موجهة، لا تسمح للانسان أن يتذوق الفن أو الأدب أو الفنون الجميلة.. والارشاد يعني تنوير الناس باعطائهم البيانات الصحيحية، وجعلهم مستعدين لتجميل حاضرهم ومستقبلهم، وهذا الدور لا يمكن أن تبلغه ثقافة التسويق والاستهلاك والجهل التي كانت سائدة.. كان لابد من ايجاد ثقافة جيدة تصل الي الناس عبر وسائط فنية متقنة، تساهم فيها العقول النيرة، فتأخذ لها مسارات تصب كلها في وجدان الانسان المتلقي.
وهل تعتبر نفسك نجحت في مهمتك؟!
- كانت مهمتي أن أؤسس وزارة من العدم!! ولم تكن لدي الكوادر البشرية التي أستطيع من خلالها أن أحقق ما تطمح اليه البلاد من وعي ثقافي.. فمن المضحك المبكي، أن أديباً ك يحيي حقي كان يعمل مدير ادارة التجارة الداخلية بوزارة التجارة والصناعة!! ونجيب محفوظ كان موظفاً في مؤسسة القرض الحسن بوزارة الأوقاف..!! وعلي باكير كان مدرساً بوزارة المعارف، وقد جئت بهؤلاء والعشرات، بل والمئات غيرهم، لتبدأ مسيرة وزارة الارشاد..
كيف كان تعاملك مع العقلية العسكرية؟!.. وأنت مدني؟!!
- الواقع أن الصراع كان قوياً سواء داخل مجلس قيادة الثورة أو خارجه، كان البعض منهم يعتقد أن يكون رأس الهرم في الثقافة والدعاية والاعلام، هو الذي سيصبح الرجل الأول عند الجماهير.. من هنا كان الصراع!!
فعلي سبيل المثال، أنا طلبت بضم مصلحة الآثار، ومصلحة السياحة، والفنون الجميلة، الي وزارة الارشاد، واذا بالعقبات والدسائس والأكاذيب أخذت تحيط بي من كل جانب.. ولكن بصراحة أقول: إن وقوف عبد الناصر الي جانب هذه الوزارة هو الذي جعلها تأخذ دورها الريادي.
وأروي لك هذه القصة:
"في احدي المرات أهديت لأعضاء مجلس الوزراء، من اصدارات وزارة الارشاد كتابا، وتشجيعاً للقراءة جعلنا سعره خمسة قروش، واذا بأحد أعضاء مجلس قيادة الثورة يقول لي ونحن في الاجتماع: يا فتحي أنت بتنفخ في قربة مقطوعة!!، الناس في مصر لا تقرأ، ولا تحب القراءة.
فقلت له: لو أن واحداً قرأ الكتاب لكان مكسبا.. فرد عبد الناصر قائلاً: اطمئن يا أخ فتحي أنا هو ذلك القارئ الوحيد الذي سيقرأ ذلك الكتاب بكل سعادة.. وكان الكتاب يتناول شخصية (تاليران) وقد ترجمه محمد بدران، وفي الجلسة الثانية من مجلس الوزراء بعد أسبوع قال لي عبد الناصر:
أما أنت يا فتحي، سهّرتني للصبح.. وتاليران ده أنا ما اعرفش عنه أي حاجة.. وأضاف: مين بقي الي بيقول ماحدش يقرا في الشعب المصري؟!.. وكان عضو مجلس قيادة الثورة المعترض علي طباعة الكتاب حاضراً..!"
هل معني ذلك أن عبد الناصر كان قارئا؟
- ما رأيك لو قلت إنه أنشأ وزارة الثقافة مصغّرة أثناء اعداده لتنظيم الضباط الأحرار!!
كيف ؟!
- أقول لك.. لقد عهد الي الضابط أمين شاكر للقيام بترجمة العديد من الكتب السياسية، وكانت تُطبع علي الاستنسل، وتوزع علي الضباط!!
أوا تعرف أن تلك الكتب أعادت طبعها دار المعارف في سلسلة (اخترنا لك).
نعود الي الصعوبات التي كنت تواجهها في عملك؟!
- هي صعوبات وبس..!! انها معارك طاحنة!! اعطيك نموذجاً صغيراً منها: صرّحت يوماً بأن وزارة الارشاد تقوم مقام وزارات الشئون الاجتماعية، والعمل، والصحة، والاوقاف، والمعارف، بل وتقوم مقام الأزهر.. وقلت أن الارشاد تجمع هذه الأجهزة الموجودة فعلاً، ولكن لا تؤدي دورها كما يجب!! فقامت علي الدنيا ولم تقعد.. أما المعركة التي نشبت بيني وبين أحد وزراء الزراعة، فحدّث عنها ولا حرج.. لأنني طالبت بضم المتحف الزراعي لوزارة الارشاد.. فهذا المتحف لا يزوره أحد، وأري أن من مهامي أن أجعله - أي المتحف - قبلة للدارسين والزوار، والمهتمين بتاريخ الزراعة الثري جداً في مصر..!!
ونفس الشيء وأكثر منه حدث عندما حاولت ضمّ المتحف المصري للوزارة.. فهذا المتحف العظيم كان عبارة عن حطام من الأحجار، مع أنه كان يضم روائع فنية لكل واحدة منها قصة.. وكان واجبي أن أجعل هذه الأحجار المهملة تنطق محدّثة عن نفسها..!!
وقلت لأركان قيادة الأزهر: بدلاً من اقامة السرادق هنا وهناك للحديث المباشر والساذج عن الدين الاسلامي، لم لا تقوم وزارة الارشاد بانتاج أفلام تسجيلية، ومسرحيات تتضمن الأخلاق النبيلة، وتحثّ علي مكارم الأخلاق بأساليب مبدعة ورائعة، بعيداً عن هذه السذاجة التي يقوم بها المشايخ في المدن والقري.
وفي احدي المرات قال لي عبد الناصر: يا فتحي البعض يتصور أنك تشتغل لحساب اسرائيل، وأخذت أفكر فيما قاله عبد الناصر فتبين لي أن الحرب ضدّي قد اتخذت وسائل قذرة مليئة بالدسائس والأكاذيب، فما قاله عبد الناصر لم يكن صادراً عن فراغ.. لأنني جئت ب(فرانز ليتشاور) لانشاء اوركسترا القاهرة السمفوني.. واذا بالتقارير السرية ضدّي تقول إن (ليتشاور) هذا، قائد الاوركسترا الوحيد في العالم الذي قبل أن يعزف سيمفونية (اسرائيل) المستوحاة من التوراة، وإنه يهودي متعصب، وبالتالي وجدت نفسي معرضًا لتهمة الخيانة العظمي، مع أن قصة هذا الموسيقي قد بدأت علي الشكل التالي:
إن حسين فوزي كان وكيلاً للوزارة معي وهو متخصص في الموسيقي، فطلبت منه أن يختار من يراه مناسباً للانشاء والاشراف علي الاوركسترا السيمفوني في مصر، فحدد هو الاسم، وتقدمت الوزارة بطلب عن طريق الخارجية المصرية، مع اخطار وزارة الداخلية، حيث كتبنا إليهما عن حاجتنا لقائد اوركسترا تتوفر فيه المواصفات التي حددها الكتور حسين فوزي.. فأرسلت وزارة الخارجية بهذه المواصفات المطلوبة الي وزارة الثقافة النمساوية، التي قامت بدورها بترشيح (ليتشاور) باعتباره أنشأ العديد من الاوركسترات في العالم، فجاء الرجل الي مصر وعمل فيها باخلاص، وتبين - فيما بعد - بعد التحريات الداخلية، أن الرجل مسيحي كاثوليكي، وكذلك هي زوجته!!
هل ترتب علي هذه القضية ما يمس موقعك في الوزارة؟!
- لاحظت أن هناك من زرع الخوف والوساوس عند عبد الناصر عن فتحي رضوان.. اذ وضعوني في موقف محرج عندما صارت الوحدة بين مصر وسوريا، حيث كان لي رأي مخالف لخطة العمل الثقافي والاعلامي، لا تقوم علي الحماس والجعجعة والتهريج السياسي، فبعضهم كان يفهم الدعاية بشكل مغاير لطبيعتها، فأنا أري التوجه الثقافي والاعلامي ينطلق من أن: الرسام يرسم لوحته، والمؤرخ يكتب صفحته، والأديب يصوغ بلغة جيدة قصته، والموسيقي والملحن يعبر عن مقطوعته، وهكذا دواليك بشأن بقية النشاطات الابداعية، كالمسرح والسينما والفنون الشعبية الجامدة والمتحركة.
لكن البعض فضّل الجعجعة عبر الاذاعة، والصراخ عبر الخطب؟!!.. وبكل أسف فإن هذا أدي الي أن كل الجهود الجادة قد ذهبت أدراج الرياح!!
وكانت النتيجة عجيناً بلا طحن، وصراخاً بلا نفع.!!
هناك من أشار الي أن حقبة الخمسينيات والستينيات من الناحية الاعلامية، كانت ترتكز علي الدعاية القائمة علي اسلوب (جوبلز) يعني اكذب وكرر الكذب، حتي يصدقك الناس!! بل غالي البعض منهم بالقول : حتي تصدق نفسك!!
- أولا: أنا لا أدافع عن جوبلز، ولكن هذه المقولة نسبوها أعداؤه اليه..!! جوبلز لا يكذب.. لأنه ليس بحاجة الي الكذب.. تشرشل هو الذي كان يكذب، ألمانيا كانت منتصرة، ومكتسحة بدون الحاجة الي الدعاية الكاذبة، ولكن الذين لجأوا الي الكذب.. وجعلوا من النازية - وأنا هنا لا أدافع عن النازية - وكأنها ضدّ الانسانية، وضدّ الاسلام، انما هم الانجليز.
جوبلز كانت لديه دعاية تعتمد علي الحقائق، ولهذا كانت مؤثرة في نفوس الناس، لقد عملت دعاية جوبلز فيلماً عن الجرائم التي ارتكبها الانجليز في جنوب افريقيا أثناء حرب البوير، وهذا الفيلم اكتسب تعاطف الناس.. مرة أخري أنا لا أدافع عن جوبلز، لكن اسلوبه في الدعاية كان يعتمد علي ابراز الحقائق من خلال الفن، والأدب، والعلم، والتاريخ، فلماذا يحتاج مثل هذا العقل الي الكذب؟!.. ولذلك أنا في عملي لم استعن بالمرتزقة من ذوي الأخلاق المنحطة ممن امتهنوا الفنون والكتابة، والصحافة، وما الي ذلك.. إنما حاولت أن أقدم اعلاماً رفيعاً وثقافة ملتزمة، وفنوناً معبرة عن وجدان الشعب المصري.. فمصر ليست بحاجة للتبذل والتهتك كي تروج لنفسها وتدافع عن قضاياها!!.. رغم أن خصومي سواء كانوا في الداخل أو الخارج.. كانوا يترصدون ما يعتقدونه كذباً في أعمال وزارتي، الا أنهم قد عجزوا، فلجأوا الي التهويش، والتآمر القذر، وثورة مصر بكل معطياتها سارت بالانسان المصري في منعطفات خطيرة.. لو اعتمدت فيها علي الكذب، لانهارت منذ زمن طويل!!
هل لديك خطة عمل اعتمدت فيها علي استمزاج آراء الخبرات، وبدأت في تحقيقها؟!
- نعم.. وإلا ماذا تسمي مطالبتي الي جمع المتاحف المصرية من مصلحة الآثار، ومن وزارة الزراعة، ومن وزارة التربية، وغيرها من كل ماله علاقة بالفن والأدب، والتاريخ والحضارة، أن تكون تحت اشراف وزارة الارشاد؟! أليس في هذا ما ينم علي أن وراء ذلك التخطيط عقولاً تفكر وتستنبط، لأنها تعمل من أجل هدف حضاري كبير..؟!
ما اشرت اليه يبدو فيه أنك تسعي لتحقيق أهداف نبيلة، فلماذا كانت هذه العراقيل توضع في طريقك؟!
- وزارة الارشاد التي اسميتها فيما بعد وزارة الارشاد القومي، والتي أصبحت وزارة الثقافة والارشاد القومي!!.. هذه الوزارة وُلدت علي يدي وهي غير مرغوب فيها !! فهناك من يري أنني سأقود بها لخدمة التيارات الشيوعية، مع أنني - كما يعرف الجميع - لست شيوعياً، وهناك من اتهمني بالرجل الذي تولي المرافعة عن مجرمي الاغتيالات السياسية، وهناك من اتهمني بالفوضي، ووصلت بهم الحال أن نعتوني ب خريج السجون!! لكن عبد الناصر رغم أنه تعهّد بمساعدتي في عملي، ودعمي بمواصلة مسيرة الوزارة .. قال لي يوماً :
" أريد يا فتحي أن أقول لك شيئاً مهماً، أنا مش فاضي لمشاكل هذه الوزارة فإما أن تتولاها أنت، وتواجه بمفردك كل التحديات، وإما أن ألغيها!!"
بعد ذلك أدركت لماذا نُحّيت عن وزارة الارشاد، واختير لها محمد فؤاد جلال المعروف بتبعيته المطلقة لجمال عبد الناصر، مما أدي الي صراع بين أعضاء مجلس قيادة الثورة أنفسهم علي هذه الوزارة.. حتي انتصر صلاح سالم وجناحه، الذي جعل من كافة وسائل الدعاية والثقافة والاعلام تنصّب في مجملها بالحديث عن صلاح سالم نفسه، الذي ما أن كان يغادر مصر في مهمة الا وكانت تصحبه كل قيادات أجهزة الوزارة..!!
.. وبعد أن أدرك عبد الناصر خطورة الموقف، عدّت للوزارة ثانية، ووجدتها في حالة يرثي لها، كانت أشبه ما تكون بهيكل عظمي يتكون من جمجمة وقدمين.. وليس هناك ما يصل بينهما، ولا حتي سلك واحد..!!
ألهذا السبب وجدت القيادة المصرية - أو لنقل عبد الناصر - أنه لابد من انشاء مصلحة الاستعلامات، ومجلس أعلي للفنون والآداب، وكان ارتباط هذين الجهازين مباشراً بالرئاسة.. رغم أن نشاطهما يعد من اختصاصات وزارة الثقافة والارشاد؟!!
- ببساطة أقول لك: عبد الناصر رجل كان كثير المشاكل، وكان في الوقت نفسه عاشقاً للمعرفة والثقافة والقراءة.. فوجد في هذين الجهازين منفذاً مباشراً يلبي بعض طموحاته، تاركاً العبء الأثقل بالنهوض بالفنون والثقافة علي كاهل فتحي رضوان في وزارة الثقافة والارشاد!!
وبالفعل فقد تم انشاء أجهزة ثقافية عديدة حققت لمصر انجازات كبيرة، لأن بعض من تولوا هذه الوزارة، كصلاح سالم وسواه، كانوا يتصورون أن الثقافة والاعلام، والتهريج لهم، ولما فوجئوا بعد عودتي لها ثانية، بخطتي القائمة علي انشاء المعاهد كصروح تسهم في تفريخ الكوادر المبدعة، للنهوض بالمجتمع المصري، مجتمع الثورة الجديد، لم يجدوا بداً من أن يقترحوا علي عبد الناصر أن يعمل علي تأسيس المجلس الأعلي للفنون والآداب ومصلحة الاستعلامات، وكان وراء هذين الاقتراحين هما: عبد القادر حاتم، ويوسف السباعي، حيث تولي كل منهما منصباً في هاتين المؤسستين، محتجين بأن لهما الاولوية فيهما باعتبارهما من العسكر، ويظنان أنهما الأكثر حرصاً علي الثورة من سواهما.. وأنا قبلت بهذا التنافس الشريف، واعتبرته سباقاً جميلاً نحو مصلحة الوطن .
هل أدي وجود مؤسسات ثقافية واعلامية أخري في مصر الي جانب وزارة الثقافة والارشاد الي تقليص صلاحيات تلك الوزارة؟!
- هو لم يؤد الي تقلصها، لكن الذين كانوا يروجون لأنفسهم، قد ازدادوا من خلال تلك المؤسسات وأذكر في احدي المرات أن عبد الناصر سألني: هل وجهت لك الدعوة لكي تأتي معنا الي القناطر؟! فأجبته بأنني لم استلم أي دعوة!!
فقال وهو في غاية الدهشة : " إزاي؟! ده نهرو رايح الي القناطر ليلقي محاضرة!! وأنت حسب معلوماتي، عندك كتاب عن حياة نهرو، فكيف لا تكون من أول المدعوين؟!"
صححت للرئيس المعلومة، وقلت له : أنا ألفت كتاباً عن غاندي وليس عن نهرو .. فقال: مش مهم!! غاندي أو نهرو، المهم أن تكون أول الموجودين!!
دخلت لوزارة الارشاد القومي تحمل الكثير من الطموحات، وخرجت منها بعد سنوات، فكم هي نسبة الطموحات التي حققتها؟!..
- حققت الكثير، اذ أصبحت الثقافة علي خريطة الحياة المصرية مختلفة تماماً عما كانت عليه!! ولم يكن في حسابي في هذا الحوار أن أقوم باحصائية للمنجزات، فهي كثيرة..!!
ما هي البذور الأولي لخلفيتك الأدبية والفكرية والثقافية؟!
- إنها والدتي!! التي كانت مكتبتها تحتوي علي ثلاث مجموعات من الكتب، الأولي: تراثية دينية، وأهمها مجموعات جورجي زيدان الكاملة، والثانية : كتب مترجمة لأهم التراث العالمي..
والثالثة: هي احتفاظها بأعداد جريدة اللواء التي كان يصدرها مصطفي كامل، لقد تفتحت بداياتي، وأنا برعم صغير تحت رعاية والدتي القارئة، بل والتي كانت من أشد الناس تحمساً ل مصطفي كامل، وبعد سنوات أصبحت من المتحمسات لسعد زغلول.. فوالدتي هي المنبع الأول الذي سقاني رحيق الثقافة والوطنية.
هل الاستاذ فتحي رضوان يعتبر نفسه أديباً بالدرجة الاولي أم سياسياً؟!
- في واقع الحال، أنا تخرجت في الجامعة كمحام، ولم أمارس المحاماة الا في حالات نادرة لاعتقادي بجدوي وأهمية العمل السياسي الذي يجب أن نتفرغ له تماماً.. فأصبحت عضواً عاملاً في حزب مصر الفتاة منذ عام 1933 وحتي عام 1942 حيث انقطعت صلتي به نهائياً.
ولكنني في أثناء مسيرتي بالعمل السياسي لم أتوقف عن انجاز العديد من الأعمال الأدبية والعلمية. ثم استمرت مسيرتي في الكتابة حتي هذه الساعة لتصل كتبي الي ما يقرب من الخمسين كتابا..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.