سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن في بداية الأسبوع السبت 11 مايو 2024    انخفاض أسعار الدواجن لأقل من 75 جنيها في هذا الموعد.. الشعبة تكشف التفاصيل (فيديو)    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    مندوب مصر لدى الأمم المتحدة: ما ارتكبته إسرائيل من جرائم في غزة سيؤدي لخلق جيل عربي غاضب    الطيران المروحي الإسرائيلي يطلق النار بكثافة على المناطق الجنوبية الشرقية لغزة    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو حول دعوتها للمشاركة في إدارة مدنية بغزة    مأ أبرز مكاسب فلسطين حال الحصول على عضوية الأمم المتحدة الكاملة؟    على طريقة القذافي.. مندوب إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة (فيديو)    حكومة لم تشكل وبرلمان لم ينعقد.. القصة الكاملة لحل البرلمان الكويتي    الخارجية الفرنسية: ندعو إسرائيل إلى الوقف الفوري للعملية العسكرية في رفح    البحرين تدين اعتداء متطرفين إسرائيليين على مقر وكالة الأونروا بالقدس    هانيا الحمامى تعود.. تعرف على نتائج منافسات سيدات بطولة العالم للإسكواش 2024    أوباما: ثأر بركان؟ يحق لهم تحفيز أنفسهم بأي طريقة    تفاصيل جلسة كولر والشناوي الساخنة ورفض حارس الأهلي طلب السويسري    «كاف» يخطر الأهلي بقرار عاجل قبل مباراته مع الترجي التونسي (تفاصيل)    جاياردو بعد الخماسية: اللاعبون المتاحون أقل من المصابين في اتحاد جدة    مران الزمالك - تقسيمة بمشاركة جوميز ومساعده استعدادا لنهضة بركان    نيس يفوز على لوهافر في الدوري الفرنسي    ضبط المتهم بقتل صديقه وإلقائه وسط الزراعات بطنطا    أنهى حياته بسكين.. تحقيقات موسعة في العثور على جثة شخص داخل شقته بالطالبية    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    حار نهاراً.. ننشر درجات الحرارة المتوقعة اليوم السبت فى مصر    مصرع شخص واصابة 5 آخرين في حادث تصادم ب المنيا    غرق شاب في بحيرة وادي الريان ب الفيوم    «آية» تتلقى 3 طعنات من طليقها في الشارع ب العمرانية (تفاصيل)    «عشان ألفين جنيه في السنة نهد بلد بحالها».. عمرو أديب: «الموظفون لعنة مصر» (فيديو)    عمرو أديب عن مواعيد قطع الكهرباء: «أنا آسف.. أنا بقولكم الحقيقة» (فيديو)    حج 2024.. "السياحة" تُحذر من الكيانات الوهمية والتأشيرات المخالفة - تفاصيل    تراجع أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 11 مايو 2024    سيارة صدمته وهربت.. مصرع شخص على طريق "المشروع" بالمنوفية    طولان: محمد عبدالمنعم أفضل من وائل جمعة (فيديو)    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    حظك اليوم برج الجوزاء السبت 11-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    تراجع أسعار النفط.. وبرنت يسجل 82.79 دولار للبرميل    محمد التاجى: اعانى من فتق وهعمل عملية جراحية غداً    الإبداع فى جامعة الأقصر.. الطلبة ينفذون تصميمات معبرة عن هوية مدينة إسنا.. وإنهاء تمثالى "الشيخ رفاعة الطهطاوى" و"الشيخ محمد عياد الطهطاوى" بكلية الألسن.. ومعرض عن تقاليد الإسلام فى روسيا.. صور    وظائف جامعة أسوان 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    إدراج 4 مستشفيات بالقليوبية ضمن القائمة النموذجية على مستوى الجمهورية    أخبار كفر الشيخ اليوم.. تقلبات جوية بطقس المحافظة    زيارة ميدانية لطلبة «كلية الآداب» بجامعة القاهرة لمحطة الضبعة النووية    لتعزيز صحة القلب.. تعرف على فوائد تناول شاي الشعير    مادلين طبر تكشف تطورات حالتها الصحية    شهادة من البنك الأهلي المصري تمنحك 5000 جنيه شهريا    لماذا سمي التنمر بهذا الاسم؟.. داعية اسلامي يجيب «فيديو»    نقاد: «السرب» يوثق ملحمة وطنية مهمة بأعلى التقنيات الفنية.. وأكد قدرة مصر على الثأر لأبنائها    "سويلم": الترتيب لإنشاء متحف ل "الري" بمبنى الوزارة في العاصمة الإدارية    آداب حلوان توجه تعليمات مهمة لطلاب الفرقة الثالثة قبل بدء الامتحانات    حسام موافي يكشف أخطر أنواع ثقب القلب    5 نصائح مهمة للمقبلين على أداء الحج.. يتحدث عنها المفتي    فضائل شهر ذي القعدة ولماذا سُمي بهذا الاسم.. 4 معلومات مهمة يكشف عنها الأزهر للفتوى    نائب رئيس جامعة الزقازيق يشهد فعاليات المؤتمر الطلابي السنوي الثالثة    بالصور.. الشرقية تحتفي بذكرى الدكتور عبد الحليم محمود    واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن العامة، الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة القادمة    محافظة الأقصر يناقش مع وفد من الرعاية الصحية سير أعمال منظومة التأمين الصحي الشامل    دعاء الجمعة للمتوفي .. «اللهم أنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هيصة جنسية انتابت بعض موظفي التليفزيون قبل النكسة
نشر في القاهرة يوم 26 - 10 - 2010


هيصة جنسية انتابت بعض موظفي التليفزيون قبل النكسة
وأحدهم قال لي «داحنا بكره هنهيص مع البنات في تل أبيب»
ورد في العدد الماضي خطأ غير مقصود حيث تكرر عنوان «أضلاع الحلم اليوتوبي لأدباء أمريكا اللاتينية تكتمل بفوز يوسا بجائزة نوبل» والموجود في صفحة «شيء من الأدب» من العدد بدلاً من العنوان الصحيح للحلقة الثانية من مذكرات لويس عوض والتي كانت تحمل عنوان «أشهد بأن الشيوعيين المصريين الذين تعرفت عليهم في المعتقل كانوا شجعانًا وشرفاء.. لذا رأينا أن نورد عنوان الحلقة الماضية من المذكرات التي ننشرها من كتاب «المثقفون والسلطة في مصر» للكاتب غالي شكري مع عنوان الحلقة الثالثة والأخيرة.
في عام 1965 جاءني أحمد حمروش وإلهام سيف النصر وأخذا نسخة من رواية «العنقاء» بهدف نشرها في «الكتاب الذهبي» الذي تصدره «روزاليوسف» وكذلك طلب مني محمد حنسنين هيكل نشرها في دار المعارف فأعطيته نسخة. وكان مستشار الدار هو الدكتور السفير مصطفي السعيد، وقبل ذلك بسنوات عديدة، أثناء وجودي في جامعة دمشق، طلب مني سهيل إدريس نسخة لنشرها في دار الآداب. وأرسلتها له، ثم قال لي إنها لم تصل. أما الدكتور السعيد فقد قال لي إنني صورت عزرائيل علي نحو كريه بينما هو أحد الملائكة. ثم جاءني عبدالحميد ناصر من دار الطليعة في بيروت، وأخذ نسخة نشرها فعلا.
كنت أقف حائرا أمام بعض الظواهر في المجتمع المصري، فالسلطة في أيدي اليمين بينما عبدالناصر في صف التقدم، ولذلك تبلور الإحساس عندي وعند الآخرين بأن عبدالناصر ليس منفردا بالسلطة، وأن هناك عناصر تخريبية داخل النظام. وبدأت تتضح بعض الأمور الداخلية كقضية مصطفي أمين وبعض الأمور الخارجية كحرب اليمن. وليست صدفة أن حرب 1967 قد ترافقت مع نهايات حرب اليمن. كان عبدالناصر قد اتفق مع الملك فيصل، ومع ذلك أصرت الدوائر الأمريكية والإسرائيلية علي ضربة 1967. كان هناك خوف من وصول عبدالناصر إلي منابع البترول، ولكن لقاء جدة أنهي المشكلة. إلا أن الخوف من عبدالناصر كان متشعبا ومركبا في المنطقة كلها. أصبحت هناك أبعاد إقليمية ودولية لحركة عبدالناصر. ووصلت شعبيته في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فضلا عن مصر والعالم العربي إلي درجة تهدد المخططات الاستعمارية.
قبل الهزيمة بعدة شهور فكر محمد حسنين هيكل في إصدار مجلة ثقافية أقوم برئاسة تحريرها. وأنا بطبعي وفي سني عزوف عن تحمل هذه المهام. وأذكر في بداية الستينات حين كنت في دار التحرير بجريدة الجمهورية أنهم فكروا في إصدار مجلة «الكاتب» وطلبوا مني رئاسة تحريرها. ولقد شرعت فعلاً في تحضير بضعة أعداد، ولكني فوجئت بأنهم تراجعوا وعينوا أحمد حمروش رئيسًا للتحرير. إنني عزوف عن هذه الأشياء لأن اهتمامي الأول هو تثبيت تيارات فكرية وليس من طموحاتي أن أتولي المناصب. وأعتقد أن هيكل فكر في إصدار مجلة ثقافية عن «الأهرام» لأنه لاحظ جنوح مجلات وزارة الثقافة إلي اليمين السافر. وكان من الغريب أن تكون «الدولة» هي التي تنفق علي هذه البذاء،ة والمفترض أصلا أن وزارة الثقافة هي أم الجميع فترعي اليمين والوسط واليسار، علي السواء، وإذا كان لديها ما تقوله فإنها تقوله.
ولكن ليس من المفهوم أن تتحول إلي طرف في حرب أهلية بين المواطنين أو الأدباء. غير أن هذا هو ما حدث فاقتحمت مجلات الوزارة، أو أن البعض اتخذها مطية لركوب الموجة الرجعية.
في تلك الفترة وصل توزيع هذه المجلات (أقصد الرسالة الثقافية) إلي الحضيض من واقع الأرقام المثبتة في سجلات وزارة الثقافة، فأغلقت. وحينئذ فكر هيكل في مجلة ثقافية شهرية تصدر عن «الأهرام» اتخذنا لها بالفعل اسم «العصر» وأعددنا منها حوالي ستة أعداد تجريبية.
وأثناء الانهماك المضني من جانبي ومن جانب زملائي في القسم الأدبي ب «الأهرام» من أمثال صلاح عبدالصبور وغالي شكري ومصطفي إبراهيم وماهر فؤاد ووحيد النقاش، وقعت حرب 1967، وحسب النتيجة التي انتهت إليها، انتهت كذلك تجارب إصدار «العصر» فقد اعتذرت عن الاستمرار في المحاولة. وكان الجو كله مهيأ لتوقف أشياء وأمور عديدة.
وفي اليوم الثاني أو الثالث من الحرب كان في مكتبي غالي شكري حين دخل علينا عبدالحليم حافظ وهو شبه باك، يقول لي: ماذا نقول للناس؟ هل نبيعهم أوهامًا؟ وفهمت أننا هزمنا. كان عبدالحليم واحدًا من المصريين الذين أفقدتهم الهزيمة توازنهم. وكنت أيضًا واحدًا من هؤلاء، كنت شديد التعاسة. وهنا اجتاحتني العاصفة التي تدفعني لكتابة الشعر أو الرواية. إنه «الانفجار» الذي يزلزلني ما لم أحوله إلي كتابة إبداعية. لذلك كتبت «مراثي أرميا». ولكني شعرت بأن ما جري يحتاج إلي الفكر، البحث عن الجذور، جذور الشخصية المصرية، جذور العقل المصري في التاريخ الحديث. ومن هنا بدأت «تاريخ الفكر المصري الحديث».
إنني أوافق علي القول بأن هزيمة 1967 كانت نهاية جيل وربما أكثر في تاريخ الثقافة المصرية، وربما العربية. أقصد أن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأنا أيضًا، قد أصبحنا من الماضي ولم يعد لدينا أي جديد. وقد عبر كل منا عن هذه «النهاية» تعبيرًا يتناسب مع شخصيته وتكوينه. يوسف إدريس مثلاً اتجه إلي كتابة المقالات و«المفرقعات»، ولكن يوسف إدريس الذي عرفناه من «أرخص ليال» إلي «بيت من لحم» أين هو؟ توفيق الحكيم توقف أيضًا عند «بنك القلق» التي كتبها عام 1966 ولم يضف جديدًا سوي المقالات و«المفرقعات» كمقالة «عودة الوعي». نجيب محفوظ باستثناء «ملحمة الحرافيش»، توقف عند «ميرامار» التي نشرها عام 1966. توصل كل منهم إلي تفسير للهزيمة وصيغة، هي في خاتمة المطاف «نقطة النهاية» الموضوعية، أما الوجود أو البقاء الذاتي للأفراد فشيء آخر.. فلا أحد يستطيع أن يقول إن محفوظ أو الحكيم أو إدريس هو هذه المربعات أو المستطيلات النثرية الأقرب إلي الانطباعات السريعة منها إلي المقالات الأدبية.
وقد اتجهت أنا إلي استئناف كتابة «تاريخ الفكر المصري الحديث» و«ثورة الفكر في النهضة الأوروبية» ربما لأن تكويني كأستاذ جامعي يساعدني علي هذا النوع من الأبحاث. ولكن المؤكد أنني مثلهم جميعًا توقفت جوهريا في هزيمة 1967. هذا يعني أن للهزيمة وجهًا حضاريا. أي أنه لم يكن في الحرب «خيانة» بالمعني العسكري أو السياسي إلا إذا أثبتت الوثائق ذلك، وهذا لم يحدث حتي الآن. وإنما أتذكر أنني كنت في مبني التليفزيون، وكان الكلام يدور بين الحاضرين خارج الاستديو علي أن الحرب ستقع خلال يومين علي الأكثر. وهو حديث الناس في جميع أنحاء البلاد. ورغم ذلك فوجئت بأن بعض الموظفين في مكاتب الحسابات في حالة «ابتهاج» وكأنهم في موجة انتعاش عاطفي وانتشاء جنسي، إذ دارت تعليقاتهم حول هذا المعني «دا حنا بكره حنهيص مع البنات في تل أبيب». وقد ذعرت لسماع هذا الكلام. وكنت قد ذهبت إلي إدارة الحسابات للحصول علي بيان للضرائب. ذعرت لأن «الإحساس بالحرب» لم يختمر عند الشباب بمعاني المعركة الوطنية لاسترداد الأرض وتحرير الوطن، وإنما اقترن ب «الهيصة الجنسية». أذهلني لدرجة أن وجدان الشباب خلا من الإحساس بالمسئولية والشعور بالخطر. وقد تكرر ذلك بعد أيام من الهزيمة حيث تراجع عبدالناصر عن الاستقالة فإذا بأحد النواب في مجلس الشعب يرقص تحت قبة البرلمان من شدة الفرح، بينما البلاد كانت قد استبيحت منذ احتل الإسرائيليون أجزاء غالية من ترابنا الوطني. كانت «رقصة النائب» عارًا ما بعده عار.
وأثناء المفاوضات الدائرة بين عبدالحكيم عامر وشمس بدران من جهة وعبدالناصر من جهة أخري كان ثروت عكاشة هو الذي يقوم بدور الوساطة. وقد روي لي أن شمس بدران قال له، والهزيمة لا يكاد يستوعبها العقل حينذاك: «لماذا أنت حزين هكذا؟ هل نحضر قهوة سادة؟». هذا الرجل كان وزير الحربية عام 1967 ولا يدرك حجم الذي حدث أو أنه يدرك ولا يشعر ضميره الوطني بأي وخز أو ألم، وكأننا لسنا فعلاً في مأتم قومي.
إذن فبعض الشباب يتوقع قبل الهزيمة نصرًا جنسيا، وأحد النواب يرقص بعد أن وقعت، ووزير الحربية يستكثر الحزن علي الاحتلال ويسخر من المتألمين. وقيل إن هناك بعض العائلات التي أضيرت من الناصرية قد شربت نخب الهزيمة أي أنها بدافع من الحقد الطبقي فقدت شرفها الوطني.
لقاءات مع عبدالناصر
التقيت بعبدالناصر ثلاث مرات، أولها في قصر عابدين حيث كنت مقررًا للجنة الثقافية في مؤتمر التضامن الافريقي الآسيوي. والمرة الثانية حين تسلمت وسام الاستحقاق من الطبقة الأولي. والمرة الثالثة كانت في «الأهرام» حين قام الرئيس بزيارته المعروفة عام 1969. وكان هيكل قد اختار مكتبي ليكون مكانًا للقاء كتاب وأدباء الأهرام بالرئيس عبدالناصر. كان هناك نجيب محفوظ وحسين فوزي وعائشة عبدالرحمن وصلاح طاهر وصلاح جاهين. وعندما دخل عبدالناصر أراد هيكل أن يمزح معه وهو يقدمنا له قائلاً: هنا جميع التيارات الفكرية ممثلة، فالدكتورة بنت الشاطئ تمثل مصر الإسلامية ود.لويس عوض يمثل مصر الفرعونية ونجيب محفوظ.. فأكمل عبدالناصر «ويمثل السيدة زينب» فعلق نجيب «بل سيدنا الحسين يا سيادة الرئيس». وضحك جمال عبدالناصر. وجاء دور حسين فوزي فقال هيكل إنه يمثل مصر البحر المتوسط وحينئذ قال عبدالناصر لفوزي: أنت لا تحب القومية العربية. فقال فوزي: بل لقد كتبت يا سيادة الرئيس في كتاب السندباد (يقصد «سندباد مصري») أن العرب انتصروا علي الروم بواسطة الأسطول المصري.. فعلق عبدالناصر بأنه يمزح لا أكثر. ولكن حسين فوزي استطرد: يا سيدي الرئيس لقد كانوا يعلموننا أن مصر أعظم أمة، والآن نحن دولة متخلفة، ولن نستطيع استعادة مكانتنا إلا إذا اتجهنا بأبصارنا نحو الشاطئ الآخر للبحر المتوسط، لنر ماذا يفعلون ونفعل مثلهم.
ما لفت نظري هو رد عبدالناصر، فقد أجابه بهدوء: زامبيا تقول الكلام نفسه. ولكن فوزي استأنف الكلام: علي أية حال لقد تعلمت وجيلي أنه ما لم نر أوروبا ماذا نفعل ونحاول أن نفعل مثلها، فإننا لن نتقدم. أما أن تكون أوروبا الغربية أو أوروبا الشرقية، فإن الأمر متروك لسيادة الرئيس أن يقرر. وطبعًا، كان حسين فوزي ماكرًا، فكأنه لا ينفي الاتهام الموجه إلي عبدالناصر بأنه جنح شرقًا. وقد رد عليه عبدالناصر بجواب حكيم دون أن يحتاج للخوض في التفاصيل. وكان تفسيري لهذه الإجابة ومايزال أنه أراد أن يقول: لست شيوعيا ولكني مضيت في طريق الكفاح الوطني إلي النهاية. وأعتقد أنه كان بهذا الجواب قد تحلي بدرجة عظيمة من النبل.
وأثناء خروجه من مكتبي سمعته يقول لهيكل: لقد نسيت أن أسأل د.لويس عوض من هو حسن مفتاح (بطل رواية «العنقاء») وكنت قد أهديته الرواية عند صدورها عام 1966 وتضمنت المقدمة التي شرحت فيها المناخ السياسي والثقافي للأربعينات. وقد غضب عبدالناصر- كما فهمت من هيكل- لأن هذه الرواية نشرت خارج مصر. كان يتمني أن تطبع في مصر. وبالطبع لم أكن حكيت لهيكل محاولاتي المستمرة لتنفيذ هذه الأمنية. لكني قلت له بعد ذلك أنني لست الملوم في ذلك، وإنما مستشار دار المعارف هو الذي اعتذر عن عدم نشرها بسبب تصويري لعزرائيل كشخصية شريرة. وكان جوابي أن عزرائيل في المخيلة الشعبية هو ملاك الموت الذي يقبض الأرواح. ولذلك فالعامة تخافه ويتمناه الخصوم لبضعهم البعض بصفته «شر الشرور» الذي يفرق الأحباب.
وحين مات جمال عبدالناصر كتبت الأسطر التي يحفظها بعض الناس إلي الآن، فقد كان بطلاً وطنيا منحازًا للفقراء. وربما لا أري أن إصلاحاته وانحيازاته للفقراء كانت كافية، ولكنه كان أكثر زملائه تقدمًا لا أتكلم عن اليساريين منهم فهؤلاء تركوا السلطة منذ البدايات. ولكني أتكلم قياسًا إلي جميع الآخرين. كان أكثرهم صلابة واستبصارًا واستنارة.
ولن أنسي يوم استولي بومدين علي الحكم في الجزائر، وقام عبدالناصر بإيفاد عبدالحكيم عامر ربما للتوسط في شأن بن بللا، وإذا بمجلة «تايم» أو «نيوزويك» تنشر رسمًا كاريكاتيريا لعامر وهو يصافح بومدين فلا يقول:
How do you do? بل يقول: It How did you dot حيث يتحول معني الجملة في الإنجليزية من «كيف حالك» إلي «كيف فعلتها؟». ومنذ ذلك اليوم وأنا أحدس بأن الأمريكيين قرروا التخلص نهائيا من عبدالناصر، وربما كان عامر في ظنهم قادرًا علي القيام بدور بومدين بالنسبة لبن بللا. ولكن بعد 1967 لم يعد اسم المشير واردًا.
عهد السادات
في ديسمبر 1972 اشتركت في مؤتمر فلورنسا (إيطاليا) الذي ضم من المفكرين المصريين د.حسام عيسي و ميشيل كامل وأنا. وقد فوجئنا بأن الاتحاد الاشتراكي قد أرسل صوفي أبوطالب وعاطف صدقي وثروت بدوي. كان مؤتمرًا فكريا ثقافيا، ولذلك استغربنا كثيرًا، وبعضنا سأل إدارة المؤتمر عما إذا كانت قد دعت أصحاب هذه الأسماء فأجابت الإدارة بالنفي ولكنها أضافت أن الاتحاد الاشتراكي في مصر طلب ضم هؤلاء السادة كمراقبين فقلنا أهلا وسهلاً.
كانت حركة الطلاب المصريين قد استأنف اشتعالها. ولعلها كانت من طلائع الحركات الطلابية عام 1968 ولكنها بسبب الظروف المصرية التي استولي فيها السادات علي الحكم وقام بتأجيل الحرب، جددت مظاهراتها واعتصاماتها وتمردها بين أواخر 1972 وأوائل 1973 وكنت كما سبق أن ذكرت في مؤتمر فلورنسا وقد تفهمنا نحن المدعوين وجهة نظر الداعين إلي قدوم «الاتحاد الاشتراكي» كمراقب دون أوراق عمل.
وحدث أن ورقة زميلنا د.حسام عيسي كانت حول «محنة اليسار في مصر» أحد الكوادر العليا في الحزب الشيوعي الإيطالي هو السنيور باييتا تساءل بعد تلاوة ورقة ميشيل كامل: لماذا لم تستطع الحركة الماركسية المصرية أن تمد جذورها في أرض مصر؟ وأجاب حسام عيسي أن الماركسية كالليبرالية، كأي مذهب سياسي آخر في مصر، يزدهر حين تنحاز الدولة ناحيته ويضمر حين تعنف قبضتها ضده. ولذلك فعندما تكون الحكومة تقدمية يزدهر اليسار، وحين لا تكون كذلك فإنها تطارده.
طلب الكلمة د.ثروت بدوي وقال: ليس صحيحًا ما قاله حسام عيسي لأن الشعب المصري لا يقبل الماركسية بسبب إيمانه وتدينه، ولكن الشيوعيين الحاقدين، فأنهم لتبرير فشلهم يذهبون إلي أسيادهم في موسكو ويدّعون أن الحكومة تضطهدهم.
شعرت أن قاموس الحوار تغير، إذ كيف يتحول الحوار الثقافي إلي لغة «أسيادهم في موسكو؟» كان رئيس الجلسة المفكر المغربي د.عبدالله العروي الذي رفع الجلسة: وخلال ربع الساعة (الاستراحة) ذهبت إلي ثروت بدوي، وكان برفقة زميليه عاطف صدقي وصوفي أبو طالب وقلت له: يا دكتور ثروت أنا أحتج علي الكلام الذي قلته في الجلسة السابقة، فهو ليس من النوع الذي تعترف به المؤتمرات الدولية أو الندوات الفكرية. وأنت من حقك أن تري ضرورة التعاون مع أمريكا، ولكن ماذا يكون موقفك إذا قال أحدهم عنك أنك تذهب إلي «أسيادك في واشنطن؟» وبالتالي، فليس من حقك أن تتهم زميلاً لك بأن أسياده في موسكو. ولذلك أطالبك بأن تسحب هذه العبارة من المضبطة في بداية الجلسة التالية. وإذا لم تفعل فأنني سأنسحب علنا.
ارتبك ثروت بدوي، وتوجه إليه صوفي أبوطالب بالحديث قائلاً: افعل كما يقول لك الدكتور لويس. حينئذ اصطحبته إلي الدكتور العروي الذي قلت له أن ثروت لديه كلمة يريد أن يقولها. وقال ثروت: أريد أن أسحب عبارة «أسيادكم في موسكو» من مضبطة الجلسة. وبعد أن دخلنا الجلسة قال العروي إن ثروت بدوي يريد الإدلاء بكلمة، فوقف ثروت وكرر طلب الشطب علي العبارة المذكورة، وعقب العروي: إذن فإن هذه الكلمات تعتبر لاغية وكأنها لم تكن، أي كأنها لم تقل ولم تسمع.
تكهرب الجو قليلاً. ولما عدت إلي مصر، وكانت الحركة الطلابية في عنفوانها، أصدرنا بيان الكتاب والأدباء الذي اختاره السادات «مناسبة» لإبعاد أكثر مائة كاتب، بواسطة «لجنة النظام» التي ألفها من حامد محمود ومحمد عثمان إسماعيل ويوسف مكاوي وأحمد عبدالآخر وكمال أبوالمجد (الذي لم يشارك في أعمالها كما فهمت). وكان حامد محمود قد عين وزير دولة لشئون مجلس الشعب. وحدث أن اتجهت إحدي المظاهرات إليه فسأله الطلاب أسئلة عديدة من بينها: لماذا فصلتم لويس عوض؟ فأجابهم بأنه في مؤتمر فلورنسا قال إن في مصر فتنة طائفية وأن الأقباط يضطهدون وكنائسهم تحرق. وبالطبع كان هذا الكلام كذبًا في كذب لأن أمثال هذه الموضوعات غير مطروحة أصلاً للنقاش، ولأنني لا أقحم نفسي في قضايا غير ثقافية في ندوة ثقافية، ولأنني طيلة حياتي لم أتكلم في السياسة بهذا الأسلوب الفج. من أين جاء حامد محمود بهذا الكلام؟ لم يكن حامد محمود معنا في فلورنسا، فهو إما أنه أجاب الطلاب ارتجالاً، أو أن واحدًا من الثلاثة الذين أوفدهم الاتحاد الاشتراكي أوحي إليه بهذا الكلام.
فصلوني إذن مع زملائي من عضوية التنظيم السياسي وقد كانت شرطًا للعمل، فكان الفصل من الاتحاد الاشتراكي يعني الفصل من أعمالنا. وقد رفض هيكل تنفيذ القرار، وقال للسادات إن أحدًا لا يستطيع وقف كاتب أو صحفي إلا في الحالات التي حددها قانون نقابة الصحفيين وبعد النظر في شأنه في «مجلس تأديب». وأجابه السادات أن عليه تنفيذ الأوامر، ولكن هيكل رفض وقال لرئيس الجمهورية: إنني سأصرف لهم مرتباتهم كالمعتاد وأنني أضع استقالتي في تصرفك. وفي آخر الشهر صرفنا مرتباتنا فعلاً، نحن والآخرون في بقية الصحف. وبعد عشرة أيام كلمني هيكل تليفونيا يسأل ماذا أفعل؟ قلت إنني بصدد ترجمة جديدة لكتاب «فن الشعر» لأرسطو. كرر السؤال مضيفًا: ماذا تكتب للأهرام؟ قلت: إننا مفصولون، ولا داعي للحرج، فعلق: لا لم يحدث شيء من هذا القبيل، عد إلي مكتبك.
في هذا الوقت وصلتني دعوة من جامعة كاليفورنيا تطلب مني- كما هي العادة في بعض الجامعات الكبري- قضاء موسم دراسي بين طلابها. ولو وصلتني هذه الدعوة في ظروف عادية لقبلتها، ولكني اعتذرت عن عدم قبولها بسبب الوضع غير الطبيعي بيني وبين النظام. وقد شكرت أصحاب الدعوة وطلبت تأجيلها إلي وقت آخر.
وعندما وقعت الحرب كتبت بعض التعليقات التي اعتذر هيكل عن عدم نشرها ربما لأنها كانت مليئة بالأفكار التي حيرته كما قال.أحدهم، علي سبيل المثال، أردت فيه أن أفسر استبسال المصريين في القتال. وكان رأيي أن العار من هزيمة 1967 كان قد وصل بالمصري العادي أن يفضل الموت علي الحياة في ظل هذا العار الوطني، وأن مرارة الإحساس بالهزيمة بلغت مبلغ الانتحار. وربما وجد هيكل في مثل هذا الوصف أو التحليل قسوة أو قتامة لا تناسب الموقف. ولكن مازال هذا هو تفسيري إلي الآن، فلست أجد تبريرًا آخر للضراوة التي قاتل بها المصريون إلا أنهم ألقوا بأنفسهم في النيران باعتبارها أهون مما هم فيه. كان هيكل ممن يسمون الهزيمة نكسة. أي أنه كان ممن يحرصون علي الاحتفاظ بأعصابهم ويخففون من وقع الأشياء. أما الأدباء فنميل إلي تسمية الأشياء بأسمائها.
وقد كنت واحدًا ممن فوجئوا بالحرب. وعلي أية حال فإن المناخ الذي سبقها والذي تلاها يبرر المفاجأة. إذا كان ما يسمي «بيان توفيق الحكيم» هو أحد أسباب فصل الكتاب الذين وقعوا عليه، فإن الأسباب الأخري التي عبرت عنها حركة الطلاب والمثقفين هي التي تسببت في فصل من لم يوقعوا عليه، كما تسببت في صنع الجو الذي دفع ببعض المثقفين إلي النزوح الجماعي. هي أيضًا التي تسبب في خلق اليأس من حرب التحرير ومن أي تقدم نحو الأمام.
طلب توفيق الحكيم أن أزوره في مكتبه وإذا به يطلعني علي صفحات مكتوبة بالقلم الرصاص. وكانت هذه هي مسودة «عودة الوعي». قال لي: هذا كتيب صغير عن أوضاع مصر، أريد رأيك فيه. أخذت الكتيب وسهرت في قراءته. وأعدته له في اليوم التالي حسب طلبه. وقلت له: لا يا أستاذ توفيق، لست أنصحك بنشره. سألني: لماذا؟ أجبت: لأنك شريك في كل ما كان. ولا أظن من العدل أن تأتي بعد كل ما حدث وتتنصل منه كأن الذي قام به شخص واحد هو جمال عبدالناصر.
كان ذلك بين أواخر 1973 وبداية 1974. وكان السادات قد شتم الحكيم في اجتماع مغلق للإعلاميين بعد طرد زملائهم ولكننا فوجئنا بعدئذ بالحكيم وهو يقابل السادات ثم يصدر عنه ما يشبه «البيان المشترك» الذي يبشر بالمصالحة من أجل مصر.. فهل كان «عودة الوعي» من خبايا أو ظواهر هذه المصالحة؟ لا أملك ولا أستطيع أن أقطع برأي.
ثم فوجئت في أول فبراير بأن هيكل نفسه يخرج من «الأهرام» وينشر الخبر في كل الصحف. كنا نسمع عن تحفظات هيكل حول كيسنجر ومساعيه، وأن هيكل لم يعد شخصًا مرغوبًا فيه، فمن هو الذي رفض هيكل؟ هل هو السادات أم الأمريكان؟ لا أملك أيضًا ولا أستطيع أن أقطع في ذلك برأي- والمهم أنه حين خرج هيكل من «الأهرام» شعرت بأنه الوقت المناسب لتلبية دعوة كاليفورنيا. وفعلاً أبرقت للجامعة بالقبول.
وكنت منذ فصلت من الاتحاد الاشتراكي في فبراير 1973 إلي عودتنا للعمل في سبتمبر 1973 قد عكفت علي «تاريخ الفكر المصري الحديث» في البيت. ورأيت أنه من المفيد استئناف هذا البحث في هدوء. كذلك فقد شعرت بعد خروج هيكل بأنني أصبحت ضيفًا ثقيلاً علي «الأهرام».. وقد سافرت إلي كاليفورنيا في مارس 1974 وبقيت هناك إلي يونية من العام نفسه. وبعد فترة وجيزة وصلتني من الجامعة برقية تستفسر عما إذا كان ممكنًا أن أشغل منصب الأستاذية في الموسم الدراسي للعام الجامعي الجديد (1974- 1975)، وأبرقت بالموافقة.
وعدت إلي الولايات المتحدة في سبتمبر 1974 حتي يونية 1975 وهي الفترة التي انجزت فيها بحثي عن جمال الدين الأفغاني. ولما انتهي العام الدراسي عدت إلي «الأهرام». وعندما وصلت إلي سن الحادية والستين في عام 1977 طلبت من علي حمدي الجمال رئيس التحرير في ذلك الوقت أن يتكرم بإحالتي إلي التقاعد. رجاني الرجل تأجيل ذلك فاعتذرت وقلت له أنه يمكن بعد «تسوية حالتي» أن أكتب للأهرام، ولكن ليس كموظف. وتحت إلحاحي أمكن تسوية حالة التقاعد، وبقيت أكتب «للأهرام». ولكني لاحظت كثرة المصادرات لمقالاتي. وأتذكر إحداها عن المثقفين في الخارج وأخري عن اتحاد الكتاب وكان عنوانها «قانون غير قانوني». المقال الأول كان تحية لهؤلاء المثقفين الذين تركوا مصر في ظروف صعبة، وكنت قد رأيت بعضهم في بيروت (أيام انقلاب عزيز الأحدب) فوجدتهم وكأنهم فرقة مصرية في الحرب الإسبانية. وفي المقال الثاني رأيت أنه من الغريب أن ينص قانون اتحاد الأدباء علي ضرورة أن يؤمن العضو بالاشتراكية العربية، فكيف يكون الكاتب كاتباً إذا أمليت عليه شرطاً أيديولوجياً كهذا؟ وللأسف فإن هذا القانون معمول به إلي الآن، وقد لاحظت علي يوسف إدريس أنه حرص علي أن يكون المسئول عند قيد الأعضاء في الاتحاد، ولكنهم بسرعة أرسلوه في «بعثة ضيافة» إلي الولايات المتحدة حوالي ستة شهور، وكان ذلك يعني إبعاده حتي يمكنهم اختيار الأعضاء الذين يريدونهم ورفض من لا يعجبهم فكره، والأغرب أن ذلك تكرر مرة أخري حين رشح يوسف نفسه لنقابة الصحفيين، وكانت له شعبية كبيرة، وإذا برحلة جديدة إلي أمريكا تحول دونه والاستمرار حتي يوم الانتخاب.
اعتقالات سبتمبر
وفي سبتمبر 1981 كان السادات قد اعتقل رموز المعارضة السياسية المصرية، ولم أكن أكتب في السياسة، ولكني لا أستبعد التفكير في اعتقالي، وقد حدثت لي آنذاك واقعة غريبة، فقد كنت في أحد تلك الأيام أتناول غدائي في كافتيريا «الأهرام» وإذا بسعد الدين إبراهيم الأستاذ في الجامعة الأمريكية ينظر إلي في دهشة واستغراب قائلا: «هو أنت ما اتمسكتش؟»، تضايقت، لأن الحركة والجملة فيهما إيحاء بأنه يملك من المعلومات ما يؤكد أنه كان من المفترض أن يقبضوا علي، وإذا كان الأمر اجتهادا من جانبه فهي قلة ذوق.
في ذلك الوقت قدمت حلقات الأفغاني إلي «الأهرام» ولا أعرف من الذي قرر منعها أو اقترح ذلك المنع، ولكنها منعت، واستقلت.
السبعينات والثمانينات عصر جديد، كانت العلامة الأولي هي ذبول المسرح المصري الجاد وازدهار المسرح التجاري، كانت هزيمة 1967 هي بداية التدهور المسرحي، ولكن أعمال ميخائيل رومان والفريد فرج ثم علي سالم كانت تحاول الابقاء علي الشعلة حتي نهاية الستينات، ولكن العصر السياسي- الاجتماعي الجديد حمل معه مسرحاً جديداً هو اللامسرح، ومن الغريب أنه في الفترة بين الهزيمة ورحيل عبدالناصر نشطت المصادرات المسرحية، الجزئية والكلية: تعديلات شديدة في «العرضحالجي» لميخائيل رومان، مصادرة «المخططين» ليوسف إدريس قبل فتح الستار عن ليلة العرض الأول، مصادرة «ماراصاد» لبيتر فايس و«انطونيو وكليوباترا» لشكسبير و«سر الكون» لنعمان عاشور و«سبع سواقي» و«الأستاذ» لسعد الدين وهبه، وبدأ النزوح الجماعي للمخرجين والممثلين المسرحيين إلي البلاد العربية.
بضمور مسرح الدولة ونزوح الفنانين، ووفاة ميخائيل رومان ونجيب سرور ومحمود ديات ثم صلاح عبدالصبور- وكان الحكيم قد كف بعد «بنك القلق»- وجد المسرح التجاري نفسه سيد الساحة الوحيد.
وفي الشعر كان صلاح عبدالصبور قد سافر إلي الهند أربع سنوات، وكان حجازي قد سافر إلي باريس حيث لا يزال، وكان محمد عفيفي مطر قد سافر إلي بغداد، وبقي أبو سنة وأمل دنقل الذي أصر علي الرفض حتي مات عام 1983 بعد صلاح بعامين.
في العهد الناصري ازدهرت الآداب والفنون واختنق الفكر، وهذا طبيعي، فالثورة تريد لفكرها الشيوعي علي حساب الفكر المعارض، في ظل الثورة كان هناك انفتاح فني حقيقي، وقد أرسيت البنية الأساسية كالباليه، والكونسرفتوار والقطاع العام المسرحي والسينمائي والنشر.
مصادرة كتاب فقه اللغة
أما في السبعينات قد بدأ الانحطاط، بحيث أصبح من العسير استعادة الكرامة الفنية وفي هذا العصر صودر كتابي «مقدمة في فقه اللغة العربية» الذي انكببت عليه عشرين عاماً متصلة أبحث وأنقب وأقارن وأراجع حتي توصلت إلي مجموعة من النتائج الأساسية.
كان الكتاب قد صدر في أوائل عام 1981 عن الهيئة العامة للكتاب في مصر، أي دار النشر التابعة للدولة، وقد بيع منه حتي يوم مصادرته في آخر العام نفسه تسعمائة نسخة، وكان مطبوعاً منه ثلاثة آلاف نسخة، في هذه الأثناء كتب أحدهم اسمه «أو باسم زهران» 13 مقالاً في مجلة «الإذاعة والتليفزيون» حين كان يرأس تحريرها أحمد بهجت، ضد الكتاب من وجهة نظر دينية، هذا بالرغم من أن نظرية «خلق القرآن» من صميم علم الكلام في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وليست من اختراعي الشخصي.
وكتب المعتزلة مطبوعة علي نفقة الدولة المصرية كمؤلفات القاضي عبدالجبار والمغني، حققه أمين الخولي ونشرته الدولة.
وفي صيف 1981 فوجئت بضابط من مباحث أمن الدولة- قسم الصحافة- هو حالياً العميد حمدي عبدالكريم يتصل بي قائلا: إن الجمعية الشرعية يادكتور تنادي بقتلك في اجتماعاتنا، فإذا كنت تحتاج إلي حراسة خاصة فنحن علي استعداد، أجبته بالشكر والاعتذار عن الحراسة لأني لم أعتقد أن الموضوع يستحق.
في السادس من سبتمبر 1981 أرسل مجمع البحوث الإسلامية مذكرة إلي مباحث أمن الدولة تطالب بالتحفظ علي الكتاب ومساءلة مؤلفه، ومن جانبها قامت المباحث بالطلب إلي هيئة الكتاب أن تمنعه من التداول حتي يفصل في أمره قاضي الأمور المستعجلة.
وبعد عامين تقريبًا فوجئت بأن الحكم قد صدر بالمصادرة النهائية دون أن أحاط علمًا بذلك. واستغربت أن المحامي لم يستأنف الحكم في الموعد المقرر، ولما سألته قال لي: عندما كنت أترافع في قضية غبور (أحد كبار الأثرياء) قال لي المدعي العام الاشتراكي: لقد كنا سنضعك أنت أيضًا تحت الحراسة. وفهمت أن ضغطًا ما مورس ضده، فما علاقة غبور بفقه اللغة؟
وكانت الصحافة في مصر والعالم العربي كريمة معي، إذ وقفت علي وجه الإجمال، إلي جانب حرية الفكر والتعبير دون الدخول في التفاصيل.
إنهم لم يعتقلوني في سبتمبر 1981 ولكنهم فعلوا ما هو أبشع إذ اعتقلوا كتابي، فقد تم الإفراج عن المعتقلين ومازال كتابي أسيرًا، يصوره القراء والباحثون بأسعار مرتفعة.
أعتقد أننا نمر الآن في مرحلة انتقال. ومثل هذه المرحلة تحتاج إلي الصبر حتي يتكون الجديد وينقرض القديم. أي أن الفترة التي نشهدها وقد تفاعل معها البعض علي مستوي الفكر سوف يعقبها بالضرورة، وربما بعد عشر سنوات أو أكثر، مرحلة نهوض ثقافي آخر. الآن يجري إعداد التربة، فإذا لم تحدث كارثة جديدة كبري في العالم العربي، فإن الأمور لابد أن تمضي إلي الأفضل.
لا يبدو لي الآن مستقبل لبنان، أري الخراب من البشاعة بحيث يحجب عني أي مستقبل. قضية فلسطين دخلت في منطقة بين الظل والصمت.
في حرب الخليج أنا منحاز للعراق. ولست أجد فارقًا يذكر بين الخميني والشاه. كان الشاه يطمح لبناء إمبراطورية فارسية كالتي كانت في عهود قورش وكسري وقمبيز ودارا. والخميني أيضًا يحاول فرض السيادة الفارسية علي الأقطار العربية جميعًا باسم الإسلام. ولست أعتقد أنه سينجح، فهو يتوهم أشياء، كما لو أنه في أيام أبو مسلم الخرساني، ولكنها مجرد أوهام.
لذلك فإنني أقول للمثقف المصري، والعربي عمومًا، ألا تختلط عليه الأمور، فيجب أن يكون شديد الاحترام للشعوب الإيرانية وأن يرفض رفضًا قاطعًا تجاوز إيران لحدودها الدولية، وأن يعمل علي اقتلاع حلم التوسع علي حساب العرب من الذهن الإيراني.
وأظن أني ككاتب مصري جزء من التراث العربي. ولكني أري في تفاوت مستويات التطور بين البلاد العربية عائقًا يحول حتي الآن دون مستقبل «عربي» موحد.
من 28- 9 إلي 16- 10/1987.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.