قال رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية ريتشارد هاس إنه بينما شكل حلف شمال الأطلسي (ناتو) تطورا إستراتيجيا جديدا هو الأهم في علاقات عبر الأطلسي منذ ثلاثينيات القرن الماضي وشكل بعض النجاح الأوروبي، فإن تلك العلاقات مهددة بالانقطاع وإن أوروبا برمتها كقوة عظمى آخذة في التلاشي. ومضى الكاتب -في مقال نشرته له صحيفة فايننشال تايمز البريطانية- إلى أنه في حين شكلت أوروبا الحلبة المركزية لمعظم أحداث تاريخ القرن العشرين والمسرح الرئيسي للحربين العالميتين والحرب الباردة، فإن القارة على الغالب الأعظم تعيش في الوقت الراهن بسلام. وأوضح أن الصدع الفرنسي الألماني السابق قد حل محله اندماج واسع لدول القارة عبر منظومة الاتحاد الأوروبي، وأن فرنسا وألمانيا باتتا محور ذلك الاتحاد، وأن أوروبا أصبحت تبدو حرة وموحدة إلى حد كبير. لكن في المقابل، قال هاس إن أوروبا بدأت تفشل وتفقد دورها المركزي وإن المشروع الأوروبي بدأ بالتعثر، في ظل بروز الأزمة اليونانية التي قال إن البلاد جلبتها على نفسها من خلال التبذير والتهور في الإنفاق وفي ظل ضعف قيادة الاتحاد المتمثل في السماح لليونان بالعيش فوق إمكاناتها، مما شكل انتهاكا للأسس التي بني عليها اليورو.
التردد الألماني وأضاف الكاتب أن تفاقم الأزمة اليونانية أكثر فأكثر إثر التردد الألماني وتخوف المؤسسات والحكومات الأوروبية في اتخاد القرار، أنذر بانهيار اليورو وأسهم في انتقال العدوى إلى الدول الأوروبية الأخرى التي تعاني جراء العجز والإفلاس وقلة الحيلة إزاء معالجة ذلك في ظل سياساتها الداخلية. ومضى هاس إلى أن حزمة الأسبوع الجاري لإنقاذ اليونان من أزمتها والمتمثلة في تقديم 750 مليار يورو أو ما يزيد على 940 مليار دولار لا تزيد عن كونها حلا مؤقتا لا يفي بالغرض أو يعالج جوهر المشكلة. وأضاف أن اقتصاد أوروبا يعاني مما وصفه بالأنيميا أو فقر الدم برغم كونه الاقتصاد الأكبر في العالم في الوقت الراهن وأكبر قليلا في حجمه مقارنة بالاقتصاد الأميركي، منذرا بانهياره. من جانب آخر، قال الكاتب وهو مؤلف كتاب "حرب الضرورة، حرب الاختيار" الذي تناول فيه الحربين على العراق 1991 و2003، إن أوروبا قبل أزمة اليونان الاقتصادية كانت عانت أيضا جراء أزمة سياسية.
القيادات الباهتة وأوضح أنه بينما انشغلت أوروبا بمراجعة وإصلاح مؤسسات الاتحاد، فإن الرفض المتكرر لاتفاقية لشبونة أظهر أن فكرة قيام أوروبا موحدة لم تعد تداعب مخيلة الكثير من مواطنيها، منحيا باللائمة على ما وصفها بالقيادات الباهتة للمؤسسات الأوروبية والتي قال إنها قد تكمن وراء الفشل في تحقق الوحدة. وقال هاس إن ثمة حقيقة أخرى بارزة تتمثل في عدم التزام الأوروبيين بفكرة أوروبا الموحدة وسط النزعة القومية المستمرة، مضيفا أنه لو كان الأوروبيون جادين في سعيهم ليكونوا قوة عظمى لعملوا على التخلي عن المقعدين الفرنسي والبريطاني في مجلس الأمن الدولي لصالح مقعد واحد هو المقعد الأوروبي، مشيرا إلى أن ذلك لن يحصل. كما انتقد رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية أوروبا في الشأن العسكري، حيث قال إن قلة من دول الاتحاد ترغب في تقديم حتى ما قدره 2% من ميزانياتها لصالح الدفاع الأوروبي، وإن ما تنفقه دول الاتحاد متفرقة يأتي استجابة لسياساتها المحلية، وإنها لا تستثمر سوى القليل في المكان المناسب أو حيث تقتضي الحاجة.
التفكك العسكري كما تعرض الكاتب بالنقد للدور العسكري الأوروبي في الحرب على أفغانستان، وبرغم وصفه إياه بالحيوي، لكنه قال إن حجم القوات العسكرية غير متوازن من حيث مساهمة الدول، موضحا أن بريطانيا وحدها أرسلت إلى أفغانستان قرابة الثلث من القوات العسكرية الأوروبية التي تزيد عن ثلاثين ألفا. وتساءل عن دور بقية دول الاتحاد بشأن أفغانستان، وقال إن بعض دول الاتحاد تتجنب ما وصفها بالتضحية في ميادين المعارك وسط ذرائع متعددة، مما ينذر بتفكك المؤسسات العسكرية للاتحاد، موضحا أن ذلك يحد من دور حلف شمال الأطلسي كقوة تدخل سريع في عالم يتصف بعدم الاستقرار. وقال إن المجتمع الأوروبي الذي جاوز خمسمائة مليون نسمة مهدد بالشيخوخة بشكل سريع من حيث الفئات العمرية، حيث يتوقع أن يتضاعف عدد من هم فوق 65 عاما من العمر مع منتصف القرن الحالي، بحيث لا يبقى من الأوروبيين الكثير ممن هم في سن الخدمة العسكرية، وحيث سيقوم عدد أقل بخدمة المتقاعدين.
دور التاريخ كما قال إن للتاريخ دوره في ضعف العلاقات الأميركية الأوروبية وضعف الناتو مع انتهاء الحرب الباردة، مشيرا إلى أن التحالفات ازدهرت في فترتي ما بعد الحرب الباردة وما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أكثر مما هي عليه الآن. ومضى الكاتب إلى أن العوامل المتمثلة في خلل البنية الاقتصادية وما وصفه بضيق الأفق السياسي والمحدودية العسكرية كلها تسهم في تسريع توسع الصدع عبر الأطلسي. وقال إن حلف شمال الأطلسي لن يبقى محتفظا بدوره كشريك أساسي في رسم السياسة الأميركية الخارجية، وإن الولاياتالمتحدة ستبحث عن شركاء يكونون على قدر مواجهة التحديات، وإن بعض تلك التحالفات قد تضم بعض دول أوروبا، ولكن الولاياتالمتحدة ربما لن تنظر إلى كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي كوحدة كاملة. واختتم هاس بالقول إنه يبدو أن فكرة قيام أوروبا كقوة عظمى في القرن الحادي والعشرين ماتت في مهدها أو إنها آخذة في التلاشي.