خضرة محمد خضر، واحدة من العلامات الأصيلة في تاريخ الغناء الشعبي المصري، ليس فقط باعتبارها مطربة قدمت عددا من الأغاني المعروفة، بل بوصفها حالة فنية خاصة، فحضور صوتها في أرشيف الإذاعة المصرية واستمرار تداول تسجيلاتها في المناسبات الشعبية حتى اليوم يعكس مدى عظمة تجربتها، ويؤكد أن انتشارها جاء من القبول الطبيعي لدى الجمهور لا من حملات ترويج أو صناعة نجومية بالمعنى المتعارف عليه، فعلى الرغم من سنوات على وفاتها، إلا أن صوتها ظل حاضرا وتم الاستعانة به في 2023 بأغنيتها الشهيرة «متى اشوفك يا قلبي مبسوط»، للترويج للسياحة في مصر. في ذكري وفاتها.. قررت «أخبار النجوم» الاحتفاء بها وذلك من خلال أبرز الموسيقيين ممن يدركوا قيمتها الفنية لبيان محطاتها الفنية؟ وأعمالها؟ وتأثيرها في الأغنية الشعبية؟.. في البداية يقول الموسيقار صلاح الشرنوبي أن مشوار خضرة محمد خضر الفني يمكن اعتباره نموذجا نادر لنشأة المطربة الشعبية في صورتها الأولى فبدايتها كانت من قلب البيئة الشعبية حيث الغناء جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية في الأفراح والسهرات الريفية والاحتفالات العائلية، قبل أن تنتقل إلى عالم التسجيلات الرسمية، وهذه النشأة المبكرة انعكست بوضوح على خامة صوتها وطريقة أدائها، إذ لم تكن تعتمد على الاستعراض أو إبراز القوة الصوتية بقدر ما كانت تركز على توصيل الإحساس، فخضرة لم تحاول يوما تقليد أصوات سابقة أو مجاراة اتجاهات سائدة، بل حافظت على أسلوبها كما تشكل طبيعيا في بيئتها الأولى. ويضيف الشرنوبي، أن خضرة كانت من أشهر فنانات الفولكلور والمديح الشعبي في بدايات القرن العشرين في البحيرة، وعرفت في تلك الفترة بحب النبي وآل البيت، فكان والدها مغني في الموالد الشعبية والأفراح، وكان دافع لها في عشق الأغاني الشعبية، واستطاعت تشكيل فرقة شعبية خاصة بها بعد فترة صغيرة من عملها بالإنشاد الديني والمديح، بعدما حفظت الكثير من القصص الدينية، وفي عام 1955 كان الملحن زكريا الحجاوي له دورا كبيرا في اكتشاف موهبتها، وشاركت في عدد من مسرحياته، وكان يختار كلمات أغانيها، وقاموا سويا بتكوين فرقة «النيل» التي اشتهرت بتقديم عروضها في المسارح والموالد، ثم جاء انتقالها إلى الإذاعة والذي لم يكن نقطة تحول بمعنى التغيير، بل كان خطوة توثيقية، فدخلت الاستوديو بنفس الروح التي غنت بها في الأفراح، دون أن تفقد تلقائيتها أو صدقها، وهذه الاستمرارية بين الغناء الحي والتسجيل هي أحد أهم أسباب بقاء أغانيها في الذاكرة. وعن أعمالها يشير الشرنوبي إلى أن خضرة قدمت مجموعة من الأغاني الشعبية التي ارتبطت بمناسبات الفرح والاحتفال، وأصبحت جزءا من الطقس الشعبي في بعض المناطق، ومن أبرز أغانيها موال «الدنيا كل يوم علي حال» و»يا سيده» و»يا ولدي» وغيرها.. هذه الأغاني لم تعتمد على تعقيد موسيقي، بل على جملة لحنية مباشرة وكلمة مفهومة، وهو ما منحها قدرة على الانتشار والاستمرار. كما يبرز الشرنوبي عن تعاونها مع الشعراء والملحنين معتبرا أن هذه العلاقة كانت قائمة على التفاهم الفني، فكانت تختار من يكتب ويلحن لها بما يناسب صوتها وشخصيتها، لا بما يضيف أسماء لامعة إلى رصيدها، وهذا الوعي الفني ساهم في تقديم أغنيات متجانسة حافظت على روح الغناء الشعبي دون تشويه، ومن أبرز الأغاني تعاونها في تقديم قصة غنائية هي «أيوب وناعسة» من تأليف زكريا الحجاوي وبالاشتراك مع الفنانة فاطمة عيد. في حين يعتبر الموسيقار منير الوسيمي أن مسيرة خضرة محمد خضر تمثل ذاكرة سمعية واجتماعية لمرحلة كاملة، فصوتها لم يكن معزولا عن الحياة الاجتماعية التي خرجت منها، بل كان إمتداد له بكافة تفاصيل الحياة اليومية، كما هي دون تزييف أو اضافات مصطنعة. ويوضح الوسيمي أن مشوار خضرة اتسم بالهدوء والاستمرارية، وهو ما منحها ثقة الجمهور فلم تكن حاضرة بشكل صاخب في الإعلام، لكنها كانت حاضرة بقوة في الوجدان الشعبي، وهذا النوع من الحضور غالبا ما يكون أكثر رسوخا من الانتشار السريع.. كما أن أغانيها دارت في معظمها حول موضوعات قريبة من الناس، ومنها الفرح الشعبي والغزل البسيط والعلاقات الإنسانية والمواقف اليومية.. هذه الموضوعات حين خرجت بصوت خضرة اكتسبت بعد وجداني خاص، لأنها جاءت من تجربة معيشة وليس من الخيال، مؤكدا أن خضرة لعبت دورا مهما في نقل الأغنية الشعبية من الحياة المحلية المحدودة إلى مساحة أوسع دون أن تفقد خصوصيتها، فكانت أغانيها مفهومة في أي مكان، لأن لغتها لغة الناس وإيقاعها إيقاع حياتهم. ويرى الوسيمي أن إضافة خضرة للأغنية الشعبية تكمن في الابقاء على فكرة المشاركة، حيث يشعر المستمع أنه جزء من الأغنية، وقادر على ترديدها أو التفاعل معها بسهولة، وهذا يعتبر أحد أهم عناصر بقاء الأغنية الشعبية عبر الزمن. أما الشاعر عوض بدوي فيقول إن الأثر الفني الذي تركته خضرة محمد خضر سيظل خالدا، معتبرا أن تقييم تجربتها لا ينبغي أن يكون بعدد الأغاني أو كثافة الإنتاج، فخضرة تنتمي إلى فئة الأصوات التي تقاس بقيمة ما قدمته لا بحجمه، موضحا أن خضرة اعتمدت في أدائها على الصدق كعنصر أساسي، وهو ما جعل صوتها قادر على الوصول إلى المستمع دون وسيط فلم تكن بحاجة إلى توزيع موسيقي معقد أو بناء لحني طويل لأن صوتها وحده كان يحمل المعنى والإحساس. ويشير عوض إلى أن هذا الأسلوب منح أغانيها قدرة على العيش خارج زمن إنتاجها، لأنها لا ترتبط بموضة موسيقية معينة، معتبرا أن هذه السمة جعلت صوت خضرة مرجع غير مباشر لبعض المطربين الشعبيين الذين جاءوا بعدها سواء في طريقة الأداء أو في احترام الكلمة. ويرى عوض أن الإضافة الأهم التي قدمتها خضرة للأغنية الشعبية هي حفاظها على هويتها الأصلية في مرحلة بدأت تشهد تغيرات في هذا اللون الغنائي، فخضرة تمثل صوتا يذكر الجمهور والجمهور الجديد بشكل الأغنية الشعبية قبل أن تدخل حسابات السوق والتجريب العشوائي، مؤكدا أن خضرة كانت نجمة، لكن ليس بالمعنى التقليدي، لكنها كانت قيمة فنية حقيقية، فصوتها ظل حاضرا لأنه عبر بصدق عن بيئة كاملة وعن شريحة واسعة من الناس، وهو ما يجعل استعادتها في ذكرى رحيلها فعل تقدير مستحق لتجربة تركت أثرا عميقا في تاريخ الغناء الشعبي المصري. ويستكمل عوض حديثه عن خضرة مؤكدا أن أحد أهم أبعاد تجربتها يتمثل في قدرتها على التعبير عن المرأة الشعبية دون افتعال أو صورة نمطية، فصوتها لم يكن يؤدي دور تمثيلي بل كان تعبيرا عن حياة عاشتها، وهو ما منح أدائها مصداقية خاصة، فهي قدمت نموذج للمطربة التي تغني من واقع التجربة ليس من خارجها، وهو ما جعل حضورها مختلف عن كثير من الأصوات المعاصرة لها، فهي امتلكت حس فطري في التعامل مع الإيقاع، إذ كانت قادرة على ضبط الأداء بما يتناسب مع طبيعة المناسبة سواء في الفرح الشعبي أو في التسجيل دون أن تفقد توازنها أو تخرج عن روح الأغنية، وهذا الوعي كان واحد من أسرار قوتها الفنية، لأنها كانت تشعر بالإيقاع قبل أن تعبر عنه، فهي ساهمت في الحفاظ على التواجد ومساحة للغناء النسائي داخل الأغنية الشعبية، في وقت كانت فيه هذه المساحة محدودة، فحضورها لم يكن صدامي بل كان طبيعي، مؤكدا أن الصوت النسائي يمكن أن يكون جزءا أصيل من هذا اللون الغنائي دون أن يفقد هويته أو وقاره. ويختتم عوض بدوي حديثه بالتأكيد على أن تجربة خضرة ستظل مرجع مهم لكل من يحاول فهم الغناء الشعبي الحقيقي باعتباره فنا حيا مرتبطا بالناس لا مجرد قالب موسيقي، لذلك فإن استعادة اسم خضرة في ذكرى رحيلها ليست مجرد احتفاء بمطربة بل تذكير بقيمة فنية أصيلة مازالت قادرة على إلهام السامعين والمهتمين بالموسيقى، خاصة اللون الشعبي إلى اليوم. اقرأ أيضا: في ذكرى ميلاده.. «محمد طه» أيقونة الغناء الشعبي وصاحب ال 10 آلاف موال