يمكن القول إن المستوي الهزيل،الذي خرج به بيان اجتماع وزراء خارجية الناتو ببروكسيل،إنما يبرز بجلاء أن حجم الخلافات داخل حظيرة الناتو ذاتها إنما تفوق في وطأتها تلك القائمة بين الحلف وروسيا في مسعي منها لحشد التأييد والدعم الدوليين لإتخاذ إجراءات عقابية تصعيدية ضد روسيا،حددتها وزيرة الخارجية الأمريكية في تجديد التأكيد علي إمكانية انضمام جورجيا وأوكرانيا إلي الحلف لمنع موسكو من تحقيق "هدفها الإستراتيجي" المتمثل في تسديد ضربة لتوسيعه،والحيلولة دون إحراز موسكو لنصر في جورجيا يخولها زعزعة الوضع في أوروبا وإقامة "ستار حديدي" جديد،فضلا عن إعادة النظر في علاقة الناتو الإستراتيجية مع روسيا والنظر في استبعادها من مجموعة "الثمانية الكبار"،وذلك ردا علي سعيها الدءوب لمناطحة الطموحات الأمريكية وعرقلة مشاريع واشنطن الإستراتيجية في أوربا وآسيا من خلال غزوها لجورجيا،والذي إعتبرته واشنطن إنتهاكا لسيادة وإستقلال الدول وإجهاضا لتجارب الديمقراطية الناهضة حول العالم،إلي جانب تعويقها لتوسيع الحلف الأطلسي ونشر محطات للدرع الصاروخي الأمريكي في بولندا والتشيك وبعض دول شرق ووسط أوربا، دعت واشنطن الدول الست والعشرين الأعضاء في حلف شمال الأطلسي إلي إجتماع عاجل وإستثنائي في مقر الحلف ببروكسيل علي مستوي وزراء الخارجية،للبحث في سبل التعاطي مع ما إعتبرته واشنطن "صلفا روسيا وخروجا علي الشرعية الدولية"،علاوة علي تأكيد موافقة الدول الأعضاء علي قبول عضوية كل من جورجيا وأوكرانيا في الحلف وتقديم كل صور الدعم الممكنة لجورجيا كيما تتجاوز آثار العدوان الروسي . وفيما أكدت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس عقب الإجتماع علي أن واشنطن حصلت علي ما تريده من وراء عقده، حينما إنتزعت دعم دول الحلف للديمقراطية الجورجية ونالت تأييدهم في رسالة شديدة اللهجة إلي روسيا كي تلتزم بتعهداتها فيما يخص سحب قواتها من جورجيا والتخلي عن مسعاها لرسم خط أحمر جديد بأوروبا،لم يخرج الإجتماع الإستثنائي للناتو بأي جديد ذي ثقل. ففيما يخص إنضمام أوكرانيا وجورجيا للحلف، إكتفي بيانه الختامي بتشكيل لجنة تشاورية مع جورجيا تمهيدا لضمها للحلف وإرسال 15 خبيرا لتقييم الأضرار الناجمة عن الحرب هناك،والبحث في صور الدعم الممكن تقديمها لها للتعافي من تلك الأضرار،هذا في حين أن قمة الحلف السابقة في أبريل الماضي ببوخارست كانت قد أكدت علي أن أوكرانيا وجورجيا ستصبحان عضوين في الناتو إذا رغبا بذلك،كما كان السكرتير العام للناتو ياب دي هوب قد صرح في ختام القمة بأن قادة بلدان الناتو يؤيدون إدراج البلدين في خطة العمل لنيل العضوية،مشيرا إلي أنه يتعين علي وزراء دفاع الحلف البت في هذه القضية في ديسمبر 2008. ومن جانبهم،التزم قادة الحلف الاطلسي في بوخارست قبول انضمام جورجيا وأوكرانيا الي الحلف، لكنهم رفضوا في حينها منحهما صفة المرشح الرسمي، بحسب ما أعلن الأمين العام للحلف،الذي سيواصل حوارا مكثفا مع كييف وتبليسي لمتابعة تطور الإصلاحات الداخلية في كل منهما حتي نهاية العام الجاري. ومن ثم، لا تزال أوكرانيا وجورجيا بعيدتين عن تحقيق هدف الانضمام رغم مطالبتا بتضمينهما في خطة العمل من أجل الانضمام "ماب"،والتي تمهد لانضمام الدول المرشحة، لكنها لا تعطي أي ضمانات بشأن موعد ذلك الإنضمام. ولا يزال الإنقسام الأمريكي الأوربي قائما حول هذه القضية،ففيما تعتقد الولاياتالمتحدة وبريطانيا ضرورة ضم جورجيا وأوكرانيا إلي صفوف الناتو توخيا لمقاصد إستراتيجية مهمة يتطلع إليها الحلف مستقبلا، ترتئي دول أوربية أخري مثل ألمانياوفرنسا وإيطاليا ضرورة التريث في هذا الخصوص إستنادا إلي عوامل عديدة،أهمها عدم جاهزية البلدين سياسيا وأمنيا بعد للإنضمام للحلف في الوقت الذي تنظم المادة العاشرة من معاهدة واشنطن عمليات التوسيع وتنص علي "أن أبواب الحلف مفتوحة أمام أي دولة ديموقراطية أوروبية ترغب في الإنضمام إليه وتتوافر فيها المعايير المطلوبة."هذا إلي جانب تأخر حدوث إجماع شعبي في أوكرانيا علي ذلك الإنضمام، وحتي في حالة نجاح بوش في إنتزاع إجماع الحلف علي قبول عضويتهما،فإن انضمام تبليسي فعليا إلي الحلف قد يتحقق بعد خمس سنوات وأكثر وليس بعد سنتين أو ثلاث، أما كييف، فما زال شعبها يعارض الإنضمام للناتو،كما لا تستطيع عمليا الحصول علي عضوية الحلف قبل عام 2017، طالما كانت المعاهدة الروسية الأوكرانية حول قاعدة أسطول البحر الأسود الروسي في سيفاستوبول سارية المفعول، ومن المعروف أن الناتو لا يقبل في عضويته دولا توجد في أراضيها قواعد لا تعود للناتو. ولما كان نظام الحلف يقضي بأن تؤخذ القرارات بالإجماع، مما يعطي صورة واضحة لحجم المشكلات التي قد تواجهها واشنطن في تمرير هذه الفكرة. وإضافة لذلك،تعتبر دول ما يسمي "أوربا القديمة" أن توسيع الناتو شرقا ليضم دولا مثل جورجيا وأوكرانيا بعد إنضمام سبع دول شيوعية سابقة هي بلغاريا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا ضمن آخر وأوسع عملية توسيع للحلف في عام 2004،إنما يمثل إستفزازا شديدا لروسيا وينمي حقدها علي الغرب علي النحو الذي يدفعها إلي المزيد من التمرد والبحث عن سبل لإستعادة مكانتها العالمية بأي ثمن،الأمر الذي يخل بتوازن القوي في أوربا والعالم ويهدد إستقرار أوراسيا،ومن ثم تجد أوربا نفسها متورطة في دفع القسط الأكبر من فاتورة ذلك القلق. كذلك،تحرص أوربا القديمة علي الإحتفاظ بعلاقات تعاونية مع روسيا،التي تعد المصدر الأساسي لتأمين إحتياجات الدول الصناعية الأوربية المتزايدة من النفط والغاز ومصادر الطاقة. وعلاوة علي ما سبق، مازالت أوربا القديمة تتمسك بوجهة نظرها الخاصة بضرورة عدم الضغط علي روسيا أو الإمعان في إذلالها كي لا تتحول إلي خصم عنيد يستنزف الغرب من خلال مهاترات وتوترات لا تنتهي، خصوصا بعد أن أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أمام مجلس الدوما (البرلمان) الروسي إبان قمة بوخارست أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي أمام قرار توسيع الناتو ليشمل أوكرانيا وجورجيا،وسيكون لها رد قاسي علي شكل تنمية للقدرات الاقتصادية والدفاعية الروسية إلي جانب الاعتراف باستقلال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللذين انشقا عن جورجيا بعد حرب التسعينيات من القرن الماضي.كما أن تظن أوربا القديمة أن إنضمام جورجيا للحلف كان من الممكن أن يورط دوله في مغامرة عسكرية كتلك التي قام بها الرئيس الجورجي غير الناضج في أوسيتيا الجنوبية يوم الثامن من الشهر الجاري،رغم تحذيرات واشنطن له بتلافي السقوط في الفخ الروسي،لولا أن الناتو لم يستجب لدعوات ساكاشفيلي له والأمم المتحدة إلي التدخل لوقف العدوان الروسي، حيث أكد مسؤولوه أن الحلف ليس لديه تفويض للعب دور مباشر في القوقاز. وبدورها،إنحازت دول أوروبا الشرقية لمعسكر أوربا الجديدة،الموالي لواشنطن مطالبة إياه باتخاذ إجراءات مشددة ضد موسكو لتقليص نزعاتها العدوانية لا سيما بعد أن أسفر الهجوم الروسي علي جورجيا عن تنامي مخاوف تلك البلدان من روسيا وتفاقم سخطها عليها،حيث أظهرت استطلاعات للرأي أجريت مؤخرا في وارسو انخفاضا ملحوظا في نسبة المعارضة البولندية بنسبة 30% في الأسبوع الذي أعقب التحرك العسكري الروسي في جورجيا، لاستضافة عشر محطات للدرع الصاروخي الأمريكي،هذا في الوقت الذي تتطلع كل من بولندا وأوكرانيا لإستضافة محطات أخري مماثلة من أجل ردع تطلعات روسيا التوسعية حيال الدول الإشتراكية السابقة. أما علي صعيد العلاقة مع روسيا،فلم يتمخض إجتماع وزراء خارجية الناتو في بروكسيل عن أية إجراءات تصعيدية عقابية من قبل الحلف ضد موسكو مثلما كانت تتطلع كل من واشنطن ولندن ودول شرق أوربا،إذ إكتفي البيان الختامي للإجتماع بالإشارة إلي أن عدوان روسيا غير المقبول علي جورجيا قد أضر كثيرا بعلاقات دول الحلف مع موسكو،مؤكدا أن تلك العلاقات لا يمكن أن تعود إلي طبيعتها قبل الانسحاب الكامل من أراضي جورجيا. ويمكن إرجاع ذلك التراخي من قبل الناتو حيال روسيا لأسباب عديدة يتجلي أهمها في الإنقسام الذي خيم علي موقف دول الحلف في هذا الصدد إستنادا إلي تباين مصالحها ،حيث يبرز موقف التحالف الغربي الأطلسي من التعاطي مع روسيا عقب إنهيار الإتحاد السوفياتي السابق،كأحد أهم نقاط الخلاف بين أوربا والولاياتالمتحدة. ففيما تصر الأخيرة علي عزل روسيا إستراتيجيا وإستبعادها من أية ترتيبات أمنية إقليمية أو دولية،إلي جانب تطويقها عسكريا من خلال توسيع الناتو بإتجاه الشرق ونشر قواعد للدرع الصاروخي الأمريكي في وسط وشرق أوربا،ترتأي أصوات أوربية تعلو في فرنساوألمانيا ويمتد صداها إلي دول أوربية عديدة،ضرورة إشراك روسيا في أية ترتيبات أمنية إستراتيجية أوربية أو دولية،إذ تتحسس تلك الدول في موسكو شريكا إقليميا ودوليا مهما لا يجب إستبعاده أو تهميشه،ربما لأسباب لوجيستية وإعتبارات جيوإستراتيجية قد لا تشكل نفس القدر من الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة،إلي جانب إعتبارات إقتصادية أخري مهمة تتصل بإمدادات النفط والغاز الروسية لدول أوربا . وفي مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية الدولية في فبراير 2001 وصل الخلاف الأمريكي - الأوروبي حول مستقبل السياسة الأمنية وموقع روسيا فيها إلي أفق أرحب،حيث بدأ يركّز الأوروبيون علي تأكيد رغبتهم في خارطة أمنية مستقبلية لأوروبا بمشاركة موسكو وليس في مواجهتها أو ضدّها، وتضمّن ذلك الاعتراض عددا من المواقف الأمريكية الاستعراضية التي يمكن أن تثير انزعاج موسكو، بما في ذلك إستراتيجية التعامل مع أحداث كوسوفا،والدرع الصاروخي،وتوسيع الناتو شرقا. وهذا إن دل فإنما يدل علي سعي أوروبا إلي تبديد عنصر المواجهة مع روسيا وإفشال المخطط الأمريكي لإستعدائها وإذلالها .وتأكيدا لهذا المسعي،أقدمت فرنسا علي خطوة جريئة خلال قمة حلف الأطلسي التي عقدت في ريجا عاصمة لاتفيا نهاية شهر نوفمبر 2006،حيث دعا الرئيس شيراك نظيره الروسي فلاديمير بوتين للقاء عشاء ثنائي غير رسمي بينهما حرصا من فرنسا علي ألا يبدو حلف الأطلسي وكأنه منظمة معادية لروسيا ،وألا تكون روسيا معزولة عنه , وسعيا من شيراك لتفعيل المشاركة القائمة بين الأطلسي وروسيا . وفي مايو 2008،اتفق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي علي إطلاق المفاوضات الأوروبية الروسية رسمياً، بهدف التوصل إلي اتفاق شراكة يغطي مختلف مجالات التعاون بين الجانبين،خصوصا الطاقة، التي تمد بها روسيا كثيرا من دول الاتحاد الأوروبي،الذي يسعي لإبرام اتفاق تجارة حرة مع روسيا حين تنضم لمنظمة التجارة العالمية. وقد تم الاتفاق علي ذلك التفويض بعد أن إتخذت خطوات من قبل موسكو والجانب الأوربي لتسوية خلافات قديمة علي مختلف الأصعدة،حيث أضيف ملحق يتناول مخاوف ليتوانيا بشأن ما أسمته "نزاعات مجمدة" خاصة بحدود روسيا مع مولدوفا وجورجيا. فلقد أبرزت الخلافات حول منح هذا التفويض مجددا الانقسام بين عواصم أوروبا الغربية،التي تؤكد علي الحاجة لعلاقات قوية مع روسيا،من جانب ودول شرق أوروبا ومعظمها شيوعية سابقة تريد أن يتخذ الاتحاد الأوروبي موقفا أكثر صرامة في تعامله مع موسكو،من جانب آخر. وبناء علي ما سبق،يمكن القول إن المستوي الهزيل،الذي خرج به بيان إجتماع وزراء خارجية الناتو ببروكسيل،إنما يبرز بجلاء أن حجم الخلافات داخل حظيرة الناتو ذاتها إنما تفوق في وطأتها تلك القائمة بين الحلف وروسيا .ذلك أن تباين وجهات النظر الإستراتيجية بين واشنطن وبعض حلفائها الأطلسيين الأوربيين ربما يضاهي نظيراتها بين روسيا والحلف،كما يشكل إختلاف الرؤي بين دول شرق أوربا وغربها في التعاطي مع روسيا معوقا مهما أمام جهود التقارب الأوربي في هذا المضمار،في حين يبدو أن ما يجمع روسيا من مصالح مع الدول الفاعلة في الناتو لا يقل عما يفرقهما،الأمر الذي يحض كل طرف علي تلافي التصعيد ضد الآخر قدر الإمكان علي نحو ما تجلي في مهادنة بيان بروكسيل الأخير ورد روسيا عليه بتأكيد حرصها علي التعاون مع الحلف، داعية إياه إلي عدم التراجع عن الشراكة الإستراتيجية معها.