يلتقي بوش مع بوتين في أعقاب مؤتمر بوخارست يسبقه شعار "روسيا لم تعد العدو"، وهذا يعني من الناحية العسكرية أن الخطط الأمريكية وحلف الناتو لا تعتبر روسيا عدوا محتملا اجتمعت قمة حلف الناتو العشرين في بوخارست- رومانيا من 2-4 إبريل 2008 في ظل عدد من المتغيرات أهمها عزم التحالف الغربي بكل أطيافه علي التمدد شرقا واستكمال مشروعه الاستراتيجي والحضاري في استيعاب بقايا "الكتلة الشرقية" وضمها إلي حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. ومازال هناك بين الدول الأوروبية الكبري من يري أن هضم هذا التوسع يحتاج إلي وقت، وأن التمدد السريع يمكن أن يؤدي إلي مشاكل في المستقبل خاصة مع روسيا التي تشعر بالقلق من تآكل مجالها الحيوي كما تراه هي حولها، مع وجود بدائل يمكن طرحها علي الأطراف المختلفة لحل هذه المعضلة الشائكة. وتعتبر مشاركة الرئيس بوش في قمة بوخارست المشاركة الأخيرة قبل انتهاء فترة رئاسته، ويرغب الرجل قبل أن يغادر ضم باقي دول "أوروبا الجديدة" إلي حلف الناتو، ومن المتوقع أن يبحث ذلك خلال لقائه مع الرئيس بوتين في منتجع سوتشي الروسي بعد القمة مباشرة، بالإضافة إلي أمور متصلة بنشر النظام الدفاعي الأمريكي المضاد للصواريخ في أوروبا. تختلف طبيعة مؤتمرات قمة حلف الناتو من مؤتمر إلي آخر. فهناك مؤتمرات تُركز علي مشاكل فنية مثل توزيع مراكز القيادات، أو النظر في تطوير قُدرات عسكرية معينة، أو دعم مهام أو عمليات عسكرية جارية. وهناك مؤتمرات أخري يكون تركيزها الأساسي علي "الصورة الاستراتيجية الكبيرة" ، حيث الجغرافية السياسية تكون الحاكمة في اتخاذ القرارات ووضع السياسات الاستراتيجية العظمي بعيدة المدي. ومثال ذلك مؤتمر واشنطن أبريل 1999 الذي تقرر فيه توسيع مسئولية الحلف خارج أوروبا في اتجاه الشرق والجنوب، ومؤتمر اسطنبول يونيو 2004 والتركيز علي مد حوار الناتو وشراكته إلي دول الخليج. ويمكن القول إنه برغم الأحداث الكبري التي مرت بالعالم منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي وحتي الآن - مثل حرب كوسوفو وحرب الخليج 1991 وأحداث 11 سبتمبر وحرب أفغانستان 2001 وحرب العراق 2003 - إلا أننا مازلنا نعيش من منظور الصورة الاستراتيجية الكبري للعالم في إطار حقبة ما بعد الحرب الباردة. فقد بقيت أمريكا حتي الآن الدولة العظمي الوحيدة واختفي غريمها الاتحاد السوفييتي، واستمر الناتو وتوسع وتلاشي خصمه حلف وارسو، وانتشر الفكر الاقتصادي الليبرالي والسياسي الديمقراطي واندثر في المقابل الفكر الاشتراكي والشيوعي في معظم دول العالم. ولقد دارت معظم الحروب والمعارك منذ سقوط حائط برلين وحتي الآن داخل هذا الإطار الاستراتيجي، إما لدعم وتوسيع المكاسب الأولية الناتجة من انتهاء الحرب الباردة لصالح الغرب، أو للدفاع ضد تهديدات لم تكن متوقعة ظهرت فجأة بدون أن تمس الصورة الكبري إلا بخدوش بسيطة أو قليلة العمق. وهذا لا يمنع من أن كل حرب من الحروب السابقة يمكن تبريرها لمن يريد بأسباب محلية متصلة بالدين أو العرق أو الثروات الطبيعية، أو بأسباب شخصية لها علاقة بتفكير القادة واختلاف السياسات، إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة هيمنة نتائج الحرب الباردة علي مسار الأحداث مهما شردت بعض التفاصيل إلي مسارات فرعية مؤقتة. تأتي قمة بوخارست ليراجع فيها الغرب "الصورة الكبيرة"، ويقيم المكاسب، ويحدد مواطن التراجع وأسبابها. المكاسب الكبري بلا جدال نجدها بين دول أوروبا الشرقية والدول التي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي وانسلخت عنه بعد انهياره. وكان للناتو في هذا الشأن دور كبير، فقد ساعد علي توحيد ألمانيا بدون قلاقل علي المسرح الأوروبي، وحارب في البلقان، وضمد جراح الحرب بعدها، واشترك في عملية التحول السياسي والاقتصادي إلي النمط الرأسمالي الغربي. ومن الناحية الهيكلية انضم إلي الناتو والاتحاد الأوروبي معظم هذه الدول ولم يتبق منهم إلا عدد محدود جاء عليه دور الانضمام إلي الحلف لكن تواجهه بعض المشاكل الذاتية أو بسبب معارضة روسية لذرائع تتصل بما تعتقده تهديدا لها أو مساسا بمجالها الحيوي. وتري روسيا أن توسع الناتو بهذه الصورة يتعارض مع اتفاق تم بين ميخائيل جورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي وجورج بوش الأب في مقابل تمرير صفقة توحيد ألمانيا. ولقد وصل عدد أعضاء حلف الناتو الآن إلي 26 دولة من 16 في 1983 ارتفع إلي 19 بانضمام جمهورية التشيك والمجر وبولندا في مارس 1999 ثم وصل إلي 26 بانضمام بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفانيا وسلوفاكيا. وسوف يفتح الحلف الطريق في مؤتمر بوخارست لألبانيا وكرواتيا للانضمام. ومن الأمور التي تبعث علي التأمل أن في 2006 عُقدت قمة للحلف في "ريجا" عاصمة لاتفيا، وهي أول قمة تُعقد في دولة كانت من قبل جزءا من الاتحاد السوفييتي. ومن المعروف أن أوكرانيا وجورجيا كانتا لبعض الوقت خطوطا حمراء بالنسبة إلي روسيا. لكن الحلف أجري حوارا معمقا مع الدولتين وأصبحتا الآن جاهزتين للانتقال إلي مرحلة أخري للتحضير النهائي للانضمام. وهناك من بين دول الحلف من يري إرجاء هذه الخطوة لبعض الوقت لتجنب إثارة روسيا، ويري آخرون أن إعطاء الروس حق الموافقة من عدمه يقلل من مصداقية الناتو والولاياتالمتحدة أمام شعوب وحكومات راغبة بشدة في الانضمام. ومن حسن الحظ والترتيب أن هناك مجلسا مشتركا للحوار بين روسيا والناتو، ويمكن من خلاله مناقشة هذا الموضوع بدون أن يعطي ذلك لروسيا حقا قانونيا أو سياسيا في الاعتراض. وداخل نفس الإطار يشجع حلف الناتو العلاقات بينه وبين الجبل الأسود والبوسنة وصربيا. وهناك أيضا دولة مقدونيا ورغبتها في الانضمام للناتو ضد مشيئة اليونان التي تطالبها بتغيير اسمها لأنه يتداخل مع اسم إحدي المقاطعات اليونانية. وتميزت قمة بوخارست بإعلان فرنسا عن نيتها العودة إلي القيادة العسكرية للحلف خلال سنة 2009 وكانت قد انسحبت منها في عصر الجنرال ديجول نظرا للحساسية التقليدية بين باريس وواشنطن. وبرغم أن فرنسا كانت حاضرة بقوة في أروقة الحلف إلا أن سياسات ساركوزي الأخيرة واقترابه الشديد من السياسة الأمريكية يمثل "توسعا" جديدا للحلف ولكن إلي الداخل وفي قلب "أوروبا القديمة" نفسها. وتعتبر هذه النتيجة من أخطر ما سوف تُسفر عنه قمة بوخارست حيث لأول مرة يتحقق هذا التجانس في الرؤية الاستراتيجية بين الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وعادة ما كان هذا التجانس قاصرا علي دولتين فقط عبر الأطلنطي. وفي مقابل ذلك سوف يقوم الحلف والولاياتالمتحدة بدعم خطط الاتحاد الأوروبي في تطوير سياسته الدفاعية بالتنسيق مع الناتو وواشنطن. هذا التطور سوف يعطي زخما غير مسبوق لسياسات التحالف الغربي وكيفية تعاملها مع التحديات التي تواجه الصورة الكبيرة مثل حالة العراق وأفغانستانوإيران. وبرغم أن فرنسا لها 1600 جندي في أفغانستان إلا أن ساركوزي قد قرر أخيرا إرسال مدد آخر يصل إلي 800 جندي إضافي. وفي الحقيقة لم يقتصر نشاط ساركوزي علي أفغانستان بل زار الخليج في نفس فترة زيارة الرئيس بوش للمنطقة ووقع اتفاقية دفاعية مع الإمارات، وكان له موقف واضح من إيران يقترب من الموقف الأمريكي، بل كان له تعليق حاضر علي موقف كل من مصر والسعودية بخفض مستوي تمثيل الدولتين في مؤتمر القمة العربي الأخير. يتبقي بعد ذلك كله موقف روسيا من الحلف وسياسات الولاياتالمتحدة وخاصة بعد أن أظهرت روسيا رغبة في التحدي والرفض لسياسات الحلف في التوسع ولسياسات الولاياتالمتحدة في نشر نظم دفاعية بالقرب من الحدود الروسية. ومن البداية لم تٌعامل روسيا بعد انهيار حائط برلين بوصفها دولة مهزومة ولكن بوصفها دولة في حاجة إلي العون وتم ضمها للتجمعات الدولية الكبري مثل منتدي الدول الصناعية الكبري (الجي 8)، وأنشأ الناتو مجلسا خاصا للحوار معها، وحجز لها مكانا في عملية السلام في الشرق الأوسط. ولا ننسي أن الاتحاد السوفييتي كان في "عِِز" الحرب الباردة عضوا في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي الذي ساعد كثيرا في تبادل الأفكار بين أوروبا الشرقية والغربية. وهناك شخصيات أوروبية مثل سيلفيو برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا الأسبق يرون أن مستقبل روسيا في انضمامها للاتحاد الأوروبي برغم العوائق السياسية والفنية والتاريخية الهائلة. وقد كانت أوروبا واعية بأهمية الجوار الحسن مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، وشاركته في مبادرات مهمة في مجال الفضاء، وأنجزت معه أول خط عملاق لمد أوروبا بالغاز الطبيعي في ظل رفض من الولاياتالمتحدة. وحاليا هناك أفكار لتوسيع مجالات التعاون في الاقتصاد والتعليم والبحث العلمي. سوف يلتقي بوش مع بوتين في أعقاب مؤتمر بوخارست يسبقه شعار "روسيا لم تعد العدو"، وهذا يعني من الناحية العسكرية أن الخطط الأمريكية وحلف الناتو لا تعتبر روسيا عدوا محتملا، ولا تجمع معلومات حساسة عنه بدرجة كبيرة، ولا تتدرب للهجوم عليه. وما يقلق روسيا الآن إدراكها بأن التحالف الغربي المنتصر في الحرب الباردة يأخذ نصيبه من النصر علي حسابها من خلال ضم الدول إلي الاتحاد الأوروبي والناتو، ومن خلال نشر نظم دفاعية علي الأرض القريبة منها. ومن المتوقع أن يقوم الرئيس بوش بتقديم عرض يمكن من خلاله طمأنة روسيا ودعوتها للمشاركة في نظام الدفاع الصاروخي وعملية إدارته، وربما إبطاء عملية ضم دول معينة إلي حلف الناتو لبعض الوقت، وتقليل التدخل في شئونها الداخلية فيما يخص الديمقراطية وحقوق الإنسان. والخيارات صعبة أمام الطرفين، وتحتاج إلي شجاعة وخيال للوصول إلي حلول عملية، خاصة عندما يكون الشأن قريبا من حدود الصورة الكبيرة للمكان والزمان.