ما حدث في قمة حلف الناتو في بوخارست منذ أيام يشكل صدمة ودرساً مهماً للدول الصغيرة التي تعتقد أنظمتها الحاكمة أنها تستطيع أن تلعب مع الكبار لعبة المساومات والضغوط وتغليب المصالح الخاصة علي مصالح الشعوب، هذه الأنظمة التي تأتي أحياناً في غفلة من الزمن ورغم إرادة شعوبها مستعينة بقوي خارجية تحت شعارات وهمية وشارات ملونة بألوان وردية وبرتقالية وبحجج واهية لا تطعم الشعوب ولا تغنيها ولا تحقق لها الحد الأدني من مصالحها. بل علي العكس تجعلها أشبه بحقول تجارب الحيوانات الصغيرة التي يضحي بها من أجل أهداف معينة. لقد ذهب قائدا الثورتين المخملية في جورجيا والبرتقالية في أوكرانيا إلي قمة الناتو في بوخارست وكلهما ثقة بأنهما سيعودان لبلادهما ومعهما صكوك العضوية في حلف شمال الأطلسي، ولم يفكر أحدهما في موازين القوي الدولية التي يتحكم فيها الكبار فقط، وتصورا أن الوعود الأمريكية التي وعدهما بها الرئيس بوش ستكون بمثابة أوامر للدول الأخري، ومنها روسيا، لكنهما وجدا عكس ذلك تماما وعادا لبلادهما غاضبين ونادمين. فقد رفض الكبار في الحلف جميعهم عضوية الدولتين، ولم يتحرج بعض هؤلاء الكبار في التصريح علنا بأن مصالح أوروبا والحلف مع روسيا أهم بكثير من ضم جورجيا وأوكرانيا للحلف، وأن رفض روسيا غير العضو في الحلف لقبول هاتين الدولتين في الحلف أقوي بكثير حتي من حق الفيتو لدي بعض الدول الأعضاء في الحلف، كيف لا والحلف الآن يستنجد بروسيا لتنقذه من أزمته الكبيرة في أفغانستان، وكيف لا وأوروبا الآن أصبحت مرهونة لمصادر الطاقة الروسية لا تستطيع الاستغناء عنها، كيف لا ودول أوروبا الكبيرة مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا وغيرها يعترفون علنا بأنه لا أمن لأوروبا دون روسيا، إذا من سيفكر في الصغار. الدول لا تقاس في الواقع بحجمها الجغرافي ولا بتعداد سكانها، لكنها تقاس بمدي فاعليتها وتفاعلها مع المجتمع الدولي ومع جيرانها الإقليميين وأيضا مدي استجابة أنظمتها الحاكمة لمصالح شعوبها، ولكن للأسف هناك دول قد تكون كبيرة في حجمها وفي تعداد سكانها لكنها صغيرة بالأنظمة التي تحكمها إذا كانت هذه الأنظمة لا تعي جيدا مصالح شعوبها وتبحث فقط عن مصالحها الخاصة. لقد خرج كل من الرئيسين الجورجي ميخائيل سكاشفيلي والأوكراني فيكتور يوشينكو من بلديهما متوجهين إلي قمة الناتو في بوخارست تاركين وراءهما في بلديهما مظاهرات جماهيرية ترفض الانضمام لحلف الناتو وترفض وجود قوات أجنبية علي أراضي بلادها، وترفض أيضا مضايقة وإغضاب جارتهما الكبيرة روسيا، ولم يستطع أي من الرئيسين أن يقدم لشعبه مبررات منطقية للانضمام للحلف، هذه الشعوب المجاورة لروسيا والمرتبطة بها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا لعقود طويلة مضت لا تري أي مبرر للتوجه ناحية الغرب عن طريق العسكرة وزرع الجيوش الأجنبية علي أراضيها، وسمعنا في هذين البلدين خبراء الاقتصاد والتجارة يقولون "إذا كانت واشنطن تريدنا أن ننضم للغرب وندخل في تحالفاته العسكرية فلتفتح لنا أولا أسواق هذا الغرب ليقبل اقتصادياتنا وإنتاجنا". ولكن الواقع أن الغرب لا يقبل ذلك ولا يريدهم حتي كعمال بالأجرة في بلاده خشية أن يؤثروا علي أوضاع العمالة الغربية، والغرب لا يريد الدول الفقيرة لأنه سيتحمل مسئوليتها أكثر بكثير مما سيستفيد منها، كما أن الغرب لم تعد تهمه القضايا الأمنية والعسكرية التي فرضتها عليه واشنطن طيلة سنوات الحرب الباردة ولم يعد لها ضرورة الآن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. المشكلة أن بعض قادة جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق والمعسكر الاشتراكي السابق يحاولون أن يوهموا شعوبهم بأن روسيا هي السبب في تخلفهم عن الغرب المتقدم عنهم بسنوات طويلة، وهذه الخدعة نجحت بعض الشيء في سنوات التسعينيات من القرن الماضي، لكنها تراجعت ولم تعد الشعوب تعيرها اهتماما الآن، خاصة وأنهم يشاهدون روسيا نفسها تتطور وتتقدم في ظل نظامها الاقتصادي الجديد المنفتح علي العالم، ويشاهدون الدول الأوروبية الكبيرة وأيضا الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها يهرولون نحو روسيا يطلبون منها المساعدات ليس فقط في مجال الطاقة والاقتصاد بل حتي في مجال الأمن. لقد جلس الرئيسان الجورجي ساكاشفيلي والأوكراني يوشينكو مع قادة الدول الأعضاء في حلف الناتو يستمعون معهم لكلمات الرئيس الروسي بوتين القوية والحادة والتي تنم عن ثقة متناهية عندما قال لهم جميعا "إنكم لا تستطيعون أن تفعلوا أي شيء بدون روسيا، ولا تستطيعوا أن تكافحوا الإرهاب ولا أن تضمنوا أمن أوروبا بدون روسيا "، نعم هذه هي روسيا التي يهرب منها الصغار من دول المعسكر الاشتراكي السابق مهرولين نحو الغرب، هي أيضا روسيا التي يجلس الكبار يستمعون لها بإنصات وبدون أي اعتراض معترفين بأنهم بدونها لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً.