أوباما وميدفيديف وتحالف لإنقاذ الغرب جاءت قمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو) ال61 في لشبونة الشهر الماضي كإعلان للحلفاء عن نهاية المغامرة العسكرية التي استمرت تسع سنوات علي الأرض الأفغانية بالفشل والبحث عن وسائل الخروج ووقف نزيف الخسائر ومن أبرزها الالتجاء للعدو القديم زعيم حلف وارسو ووريث الغازي السابق لأفغانستان والمهزوم أيضا روسيا في تحول استراتيجي بارز يؤكد علي عمق مأزق الحلفاء هناك ولذا عقدوا قمة خاصة مع روسيا طرحت خلالها شروطها للشراكة مع الحلف المتصدع ومنها أن تكون شريكا كاملا بالحلف وفي منظومة الدرع الصاروخية في أوروبا علي أن تفتح روسيا حدودها لنقل الإمدادات لقواعد الحلف في أفغانستان وتسهيل عمليات الانسحاب بعيدا عن أعين ونيران مقاتلي طالبان .. صفقة أجبر عليها الناتو لأنه غرق في المستنقع الأفغاني وبات وجوده مستحيلا لأن موارد دوله ال28 باتت عاجزة عن الوفاء باحتياجات القوات في ظل الأزمة المالية العالمية التي مازالت تعصف باقتصاديات الغرب رغم كل محاولات الانقاذ وهكذا تتواصل مآزق الغرب من فشل مغامراته العسكرية إلي أزماته المالية كما تجمع هذه الأزمات بين أعداء الأمس لاستمرار سيطرتهم علي العالم ومنع ظهورأي قوي جديدة !! دخل السوفييت أفغانستان في أواخر السبعينيات من القرن الماضي بأسباب مختلفة عن الأمريكيين ولكن الأهداف الاستعمارية واحدة وأمضوا هناك عشر سنوات في مواجهة المجاهدين الأفغان الذين حظوا بدعم كبير من أمريكا وبريطانيا والصين وبعض البلدان العربية والإسلامية لكنهم اضطروا في النهاية للرحيل وكانت المعارضة الأكبر من جانب واشنطن (في عهد كارتر) حيث فرض حظر اقتصادي علي السوفييت ومقاطعة أوليمبياد موسكو وتم تزويد المجاهدين بأحدث الأسلحة ومن بينها صواريخ (ستينجر) المضادة للطائرات أحد أهم أسباب تفوق الأفغان وكانت هذه الحرب وتداعياتها عاملا مهما في انهيار الاتحاد السوفييتي بعد عامين من نهايتها ومع تفككه انهار حلف وارسو وهو منظمة كانت تضم دول شرق ووسط أوروبا الشيوعية تشكلت في منتصف الخمسينيات في مواجهة حلف شمال الأطلنطي في إطار الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين (أمريكا والاتحاد السوفيتي) ويبدو أن نفس السيناريو يتكرر ولكن علي الجانب الآخر فالطرف الذي كان يدعم الأفغان في حربهم مع السوفييت (أمريكا) تحول لمحتل جديد لنفس الأرض بعد أحداث سبتمبر 2001مباشرة بعد عشر سنوات من سقوط الاتحاد السوفيتي وكأن أفغانستان تحولت لحقل تجارب للغزوات الاستعمارية من الشرق والغرب ويمضي السيناريو نحو نفس المصير المحتوم وهو أن المحتل الثاني سيرحل في نفس الزمن تقريبا الذي أمضاه الأول ليؤكد أن إرادة الشعوب لاتقهر وأن الأرض الأفغانية تثبت في كل مرة أنها مقبرة الغزاة عبرالتاريخ بفضل مايتمتع به هذا الشعب من ارتباط قوي بالإسلام عبرالقرون وراية الجهاد التي يرفعونها في مواجهة أي قوي تسعي للبقاء علي أرضهم . تغيير المعادلات بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه إلي عدة جمهوريات عاني الوريث الأكبر للمساحة والموارد (روسيا) من أزمات طاحنة اقتصاديا ولجأ خلال سنوات مابعد التفكك إلي طلب المعونة من المؤسسات الدولية العالمية لتحديث أدوات الانتاج مما أتاح للغرب الذي يسيطرعلي هذه المؤسسات أن يمارس الضغوط علي روسيا للتخلي عن طموحاتها العسكرية والنووية خاصة مع مد واشنطن لمنطقة نفوذها قريبا من الحدود الروسية وعقدها لاتفاقيات اقتصادية وأمنية مع العديد من الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق وشهدت فترة التسعينات مواجهات بين الطرفين في أكثر من بلد ومنطقة كالبلقان وأوكرانيا ثم جورجيا لكن في إطار خفض التوتر في المجال النووي تم توقيع اتفاقية (ستارت 1 ) التي وقعها كل من جورج بوش (الأب) وجورباتشوف صيف عام 1991 وبدأ سريانها بعد ثلاث سنوات وانتهي مفعولها عام 2009 وتم التوقيع علي اتفاقية جديدة (ستارت 2) بين أوباما والرئيس الروسي ميدفيديف في أبريل الماضي لتقليص الأسلحة الاستراتيجية والهجومية لدي الجانبين بنسبة %30 خلال سبع سنوات ولم يتم التصديق عليها من الكونجرس الأمريكي حتي الآن وفي العام 2008 تجمدت العلاقات بين حلف الأطلنطي وروسيا بسبب الحرب التي شنتها الاخيرة علي جورجيا ثم عاد الطرفان للتنسيق فيما بينهما العام الماضي خاصة أن موسكو أدركت جيدا أهمية هذا التنسيق للحد من تمدد النفوذ الغربي بالقرب من حدودها مع ظهور فكرة نشر منظومة الدرع الصاروخية في أوروبا وكانت قد هددت بنشر منظومة مضادة للتشويش عليها، ولكن منذ تولي أوباما مقاليد الأمور في واشنطن حرص علي تهدئة التوتر في عدة ملفات كإيران وكوريا الشمالية وروسيا حيث عمل علي تلطيف الأجواء مع موسكو علي عكس سلفه بوش مما أسهم في توقيع معاهدة ستارت الجديدة ودفع موسكو للمزيد من التعاون مع حلف الناتو وصولا للتفاهم من خلال قمة الناتو روسيا في لشبونة والتي تعد إنطلاقة كبيرة للعلاقات بين روسيا والغرب. المهمة فشلت من أهم ماصدر عن هذه القمة الاتفاق بين الحلفاء علي استراتيجية الخروج من أفغانستان وهو مايمكن ببساطة ترجمته بأنه إعلان هزيمة المشروع الغربي في أفغانستان بعد تسع سنوات فعظم الحلفاء الرئيسيين لواشنطن سوف يسحبون قواتهم العام القادم وتحدد عام 2014 كموعد أخير لإنهاء الوجود العسكري في البلاد وتسليم المهام للحكومة والجيش الأفغاني ومن أهم أسباب الفشل الخسائر الضخمة في الأرواح في قوات الحلف التي بلغت حسب التقديرات الرسمية أكثر من ألفي قتيل وعشرات الآلاف من الجرحي والمادية تجاوزت التريليون دولار ( ألف مليار) وتصاعد المعارضة في الشارع الأوروبي والأمريكي لاستمرار الحرب إضافة للمشاكل الاقتصادية التي تواجهها معظم بلدان الغرب بسبب الأزمة المالية العالمية كما فشل الناتو في تحقيق أهم أهداف مشروعه العسكري وهي القضاء علي حركة طالبان وتنظيم القاعدة إضافة لفشل المصالحة بين حكومة كرزاي وحركة طالبان التي تصر علي أنه لاتفاوض قبل الانسحاب مما عجل بطرح الاستراتيجية الأخيرة للحلف وسرعة الموافقة عليها والبدء في تنفيذها حيث تبنت القمة وثيقة المفهوم الاستراتيجي التي تركز علي علي دور الحلف في مكافحة الإرهاب وكان الحلف قد صاغ عام 1999 علي استراتيجية مواجهة الإرهاب الإسلامي وضرورة إقامة منظومة الدرع الصاروخية ومواجهة تهديد الفضاء الإلكتروني لكن الوثيقة لم تشر للشرق الاوسط من قريب أو بعيد حيث لم تذكر الوثيقة الدول أو المناطق المستهدفة بالدرع الصاروخية كما أقرت تدخل قوات الحلف في مناطق خارج حدود الدول الأعضاء والاتفاق مع موسكوعلي نشرالدرع بعد تأكدها أنه ليس موجها لها أما أفغانستان فقد قررالحلف سحب مائة ألف جندي ربيع العام القادم ليتبقي خمسين ألفا حتي نهاية عام 2014 وحركة طالبان من جانبها أعلنت أن قرارات الحلف واستراتيجيته الجديدة بمثابة هزيمة له، أما موسكو فقد وجدت ضالتها في القمة الأخيرة والثانية لها مع الحلف فهي حصلت علي صفقة جيدة مع الغرب حيث سيحقق تعاونها مع الناتو في نقل المعدات والمساعدات اللوجستية من أراضيها انتعاشا اقتصاديا كما ستقوم بتوريد معدات روسية الصنع لأفغانستان إضافة لدعم عمليات انسحاب قوات الحلف عبر حدودها لكنها لن تتخطي ذلك إلي أي نوع من المشاركة في أي عمليات للحلف داخل أفغانستان وإن كانت قد شاركت مؤخرا في عملية مشتركة مع قوات أمريكية للتصدي لتهريب المخدرات علي الحدود الأفغانية نظرا لآثارها علي الاقتصاد والمجتمع الروسي بشكل عام كما وافقت موسكو علي التعاون في مشروع الدرع الصاروخية شريطة أن تكون مشاركة كاملة وأن يكون لها حق الإشراف علي الدرع في أراضيها. وثمة أسباب عديدة وراء تعاون موسكو مع الحلف وتخفيف لهجتها المتشددة تجاه الدرع الصاروخية إلي تعاون مع المشروع منها مخاوفها من التغلغل الإيراني في دول آسيا الوسطي والخشية من ظهور طهران كقوة نووية مستقبلا وإدراك موسكو أن نظام كرزاي سوف يسقط عند خروج القوات الأجنبية من البلاد وتخشي من أن انتصار طالبان سوف يشجع الحركات الإسلامية في دول آسيا الوسطي علي التمرد كما تريد أن تستثمر ورطة الحلف بسبب المصاعب التي يواجهها اقتصادها وحاجتها للتعاون مع أمريكا ومجموعة دول العشرين كما تخشي من تنامي قوة الصين كعملاق اقتصادي ونووي وامتداد نفوذها في جنوب شرقي آسيا لكن موسكو ترفض اعتبار إيران تهديدا مباشرا للمصالح الغربية وللناتو وقد وعد قادة الحلف بدراسة الأمر . وهكذا يتحول أعداء الأمس إلي أصدقاء وحلفاء اليوم علي قاعدة المصالح المشتركة وعلي أساس الأهداف المشتركة للحلف ومن أهمها الإرهاب الإسلامي وحماية إسرائيل التي كالعادة تظهر في خلفية المشهد لكنها حاضرة وبقوة في صلب أهداف الحلف ومناطق حمايته فإذا كانت منظومة الدرع الصاروخية لن توجه نحو روسيا أوالصين فإلي من ستوجه خاصة أن من مرتكزات واستراتيجيات الحلف مكافحة الإرهاب الإسلامي الذي تصيغ دول الحلف مفهومه وعلي من ينطبق .. لكن الحلف رغم ذلك يشهد في هذه المرحلة تصدعا علي كافة الأصعدة بعد هزائمه المتوالية والسؤال المهم هنا متي يتعلم العرب والمسلمون أن تكون لهم استراتيجيات لمواجهة مثل تلك التحالفات التي لاتعترف بالعداوات الدائمة ولكن بالمصالح الدائمة !!