لابد أن تشعر الجماهير خاصة الفئات الضعيفة التى قامت الثورة لنصرتها بأن الثورة تتخذ إجراءات تتوجه لها وتستهدف مصالحها. وقد قامت ثورة 23 يوليو بعد أيام قليلة من نجاحها بإجراءات استثنائية تضمنت تخفيضات فى أسعار السلع الأساسية وبعد أقل من شهرين بإصدار قوانين الإصلاح الزراعي. صحيح أن كل زمن له ظروفه وأولوياته، لكن اختيار المجالات التى يمكن فيها تحقيق نجاحات سريعة وملموسة ومؤثرة واتخاذ إجراءات استثنائية بشأنها بما يعطى إشارة إلى توجهات وانحيازات الثورة، يساعد فى كسب تأييد قواعد جماهيرية للسلطة الجديدة خاصة تلك التى تحتوى جيوب الفقر والتشرد والبطالة. وكانت هذه الجيوب مستهدفة بالدعم والمساعدة وكذلك لتجنيد أنصار من قبل قوى الإسلام السياسى فى الماضي، وما زالت مستهدفة من قبل قوى الإرهاب والتخريب خلال السنوات الأربع الأخيرة. لا يمكن تحقيق تحول استراتيجى ثورى إلا بقيادات وعناصر تملك الكفاءة والخبرة وكذلك روح وحماس الثورة والإيمان بتوجهاتها ومبادئها وضرورات وأولويات الإصلاح والتغيير إلى الأفضل لمصلحة جموع المواطنين. لقد افقد هذا التحول الإستراتيجي في العلاقات الأوروبية الدول الإسلامية النامية الأهمية الاستراتيجية التي تمتعت بها طيلة فترة الحرب الباردة، من خلال التوجه العام لعلاقات القطبين الكبيرين مع دول العالم الثالث وكتلة دول عدم الانحياز. فقد اتسمت فترة الحرب الباردة بالسباق والمنافسة بين القطبين لاستقطاب تلك الدول. وكانت بعض الدول الإسلامية مثل مصر والجزائر والعراق وباكستان ونيجيريا, قد تميزت بعلاقات استراتيجية مع القطبين شملت المجالات السياسية والإقتصادية. وبانتهاء الحرب الباردة وتغيّر خريطة أوروبا فقدت الدول الإسلامية تلك الأهمية الاستراتيجية. وبعد التقارب بين الشرق والغرب لم تعد دول الكتلتين في حاجة إلى استقطاب دول العالم الثالث. ومن ناحية أخرى وفي إطار التعاون بين شطري أوروبا الموحدة تحول اهتمام دول أوروبا الغربية، الذي كان يمثل ثقل التعاون الاقتصادي التاريخي مع كثير من الدول الإسلامية إلى أوروبا الشرقية. ولم تعد كثير من الدول الإسلامية النامية قادرة على منافسة دول أوروبا الشرقية في جذب الاستثمارات الغربية، نسبة للفجوة الكبرى القائمة بين الإقليميين في البنيات التحتية الجاذبة للاستثمار الخاص وفى مناخ الأستقرار السياسي والفجوة الواسعة بينهما في توطين التكنولوجيا والعمالة الفنية والماهرة. لقد عمقت هذه التحولات حالة العزلة و التهميش لكثير من الدول الإسلامية غير البترولية إقتصادياً وسياسياً، بعد أن أضيفت العزلة الجغرافية والسياسية إلى العزلة الإقتصادية وفجوة التكنولوجيا، التي تميزت بها العلاقات الدولية في أعقاب أزمة الديون، وتدهور شروط تبادل التجارة الدولية والتي أوضحناها من قبل ولا يمكن قبول أن من شاركوا فى نظام الحكم ومنظومة الفساد بكل صوره وأضروا بمصالح الوطن وكانت لهم توجهات أفضت إلى ما آل إليه الوطن وقطاعات عريضة من مواطنيه واقتصاده ومؤسسات الدولة والمؤسسات السياسية من تراجع وتخلف وتبديد لفرص التقدم والتنمية، أن يكونوا هم أنفسهم قيادات الإصلاح وإعادة البناء. وفى هذا استمرار لتهميش وتجنيب عناصر وطنية كفؤة داخلية وخارجية، يحمل مخاطر جسيمة على الثورة. وخلال فترات التراجع والانهيار قد تبحث العناصر الكفؤة الطيبة عن فرص خارج الوطن ويستقر بها المقام كمغتربين فى بقاع شتي. وبعض هذه الطيور المصرية المهاجرة تملك خبرات نادرة يمكن استخدامها للإصلاح وإعادة البناء فى قطاعات عديدة. وهناك أنماط وصور شتى لجأت إليها الكثير من الدول لكيفية بناء روابط مع هذه العناصر للاستفادة منها. ناهيك عن دعوتها للعودة والمساهمة فى المسيرة الجديدة وإعادة البناء بعد الثورة. ويمثل حسن اختيار القيادات والاستعانة بالعناصر الوطنية الكفؤة فى الداخل والخارج عاملا مهماً من عوامل نجاح التحول الثوري. وتعانى مصر حاليا من اضطراب المعايير فى اختيار القيادات وذوى الخبرة (مثل الوزراء والمحافظين والقيادات العليا والخبراء فى العديد من القطاعات) وفى كيفية التعامل مع النخبة والقيادات والعناصر القديمة. ويرجع هذا لعدم وضوح الرؤية واستراتيجية التحول من جانب، وعدم بلورة استراتيجية جديدة تتناسب مع غايات وأولويات الثورة فضلا على عدم إيلاء موضوع القيادات ونخب الكفاءات العناية الكافية من جانب آخر. ولا تزال الاستثمارات الجديدة التي قام بها بعض أبرز البلدان النامية، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا والصين وماليزيا والهند، وبعض الجهات الإقليمية المؤثِّرة إلى جانب تزايد الاستثمارات الجديدة للشركات الاستثمارية الموجودة، تحث على النمو في جميع جوانب قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وبمعدلات فاقت إلى حد بعيد المعدلات التي شهدتها بلدان العالم المتقدمة النمو. وكان للشركات المحلية، التي عادة ما تُمول بفضل الازدهار المتسارع للأسواق المالية وأسواق رأس المال المحلية، شأن في تيسير نمو هذا القطاع في العديد من البلدان. وتعتبر النماذج الإدارية التى اتبعتها الدول، في أطار تفعيل دور وظائف الدولة في تحقيق الرفاهية لشعوبها من سلبيات تلك الفترة. اذ اعتمدت تلك النماذج على الضوابط الإدارية الكابحة والمقيدة للنشاط الاقتصادي التى لم تعد مواكبة لمتطلبات التطورات التكنولوجية ومقتضيات المنافسة الشرسة التى استبطنتها العولمة الاقتصادية و التجارية. وسوف نرى فيما بعد سلبيات تلك النماذج في إدارة الاقتصاد على قدرة الدول الإسلامية في التخلص منها وبالتالي أضعاف قدرتها على مواكبة التطورات الاقتصادية وعلى مواجهة تداعيات العولمة. ان التطورات السالبة لنماذج إدارة الاقتصادات قد أفضت إلى تراجع الدول عن ذلك النهج في إدارة الاقتصاد والبحث عن نماذج بديلة . وقد جاء هذا التحول في إطار الجهود التى بذلت لمعالجة الأزمات الاقتصادية التى بدأت تطل برأسها مع بروز أزمة النفط في بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي. وقد ارتبط ذلك التحول ببرامج إصلاحية استهدفت النظم الهيكلية والاقتصادية وتحقيق استقرارها. وانعكست إفرازات أزمة الديون و ذيولها – الي جانب الأعباء المالية المرتبطة بخدمة الديون- على التراجع، و ربما توقفت تدفقات القروض الخارجية الجديدة إلى الدول النامية. وقد افرز ذلك تحولاً خطيراً في قدرة الدول الإسلامية على مواصلة عمليات التنمية الإقتصادية. وتكمن أهمية أزمة الديون وافرازاتها في أنها برزت والعالم في خضم تحولات إقتصادية وسياسية وإجتماعية هائلة. ثم ان التعايش مع تلك التحولات ومواكبتها كان يحتاج إلى موارد مالية طائلة، لتتمكن الدول من إعادة هيكلة الإقتصادات القطرية لإستيعاب التكنولوجيا الحديثة، والوفاء بمتطلبات العولمة واستحقاقات التعايش مع الواقع الذي تفرضه. ويستدعي ذلك بدوره تهيئة هياكل الإقتصاد الكلي ومؤسسات الإنتاج، وإعادة تكييف أوضاع أسواق المال والتجارة لمواكبة المنافسة الحادة التي تفرضها العولمة في ظل قواعد إتفاقيات منظمة التجارة العالمية. وبتوقف التدفقات المالية الخارجية واجهت الدول الإسلامية مصير التهميش والعزلة عن التحولات الجارية في العالم من حولها، لعجزها عن إحداث تحولات إقتصادية عن طريق التوسع في الإستثمار ورفع كفاءة أداء المؤسسات الإنتاجية والخدمية، وتعظيم مساهمتها في النشاط الإقتصادي الدولي خاصة في التجارة الدولية. هذا ولم تقتصر آثار أزمة الديون وتداعياتها على إرباك حركة تدفقات القروض والمعونات إلي الدول النامية فحسب، بل تجاوزت آثارها إلى الموارد المحلية. لقد أثقلت خدمة الديون كاهل الميزانيات في الدول المثقلة بالديون، وأفرزت ضغوطاً على الموارد المخصصة للخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم. كما أدي ذلك الضمور في تدفقات القروض الناشئ عن أزمة الديون الي تراجع عمليات تراكم الأصول، خاصة في البنيات الأساسية والمؤسسات الإنتاجية، وبالتالي أفضى إلى الهبوط في معدلات النمو إلي مستوي عجزت معه دول إسلامية عديدة على المحافظة على مستويات الإستثمارات القائمة حيث شمل التدهور كفاءة معدات الإنتاج وأحجامها ، إلى جانب البنيات الأساسية الداعمة للإنتاج والإنتاجية مثل الطرق والسكك الحديدية والاتصال، وذلك لتوقف الصيانات والإصلاحات الدورية والطارئة التي اعتمدت على التدفقات الخارجية. هذا إلي جانب التراجع في الإنتاج الزراعي والصناعي للعجز في توفير المدخلات المستوردة.