عندما صدر كتاب انهيار العولمة قبل انهيار سوق المال في وول ستريت, وبداية الأزمة الاقتصادية الحادة التي اجتاحت العالم ولم يبرأ منها حتي الآن, تصور دعاة الليبرالية الجديدة وكهنة العولمة أن الفيلسوف الكندي جون رالستون سول يسعي إلي إعادة الساعة إلي الوراء, انتقد اليمين الرأسمالي رالستون, واتهموه بأنه يعيش في أوهام الاشتراكية التي ماتت تحت أنقاض سور برلين. لكن الأصوات التي ارتفعت بالهجوم علي رالستون أعادت حساباتها بعد أن اجتاحت عواصف الأزمة الاقتصادية أسواق العالم, فالعالم بعد ثلاثين عاما من العولمة لم يشهد أي سلام, وعجلة النمو توقفت, وديون العالم الثالث تضاعفت, والفقراء زادت أعدادهم ولم يعد في قدرتهم شراء الطعام والدواء اللذين ارتفعت أسعارهما, والحروب والنزاعات العرقية تشتعل, وفجوة التفاوت بين الأثرياء والمعدمين اتسعت بما يهدد أمن واستقرار عدة مجتمعات, باختصار كشف المؤلف في كتابه عن عورات العولمة التي تختبئ وراء أوراق مزيفة, وأعلن أن سقوطها الوشيك قد اقترب, فالعالم يحتاج الآن إلي نظام عالمي جديد. المؤلف يؤمن بأن الغرب في حاجة إلي نهضة جديدة تحرر الفكر من جميع قيود الأيديولوجيات والأحكام المسبقة, وتقوده إلي نظام عالمي جديد. *** تعود بدايات العولمة إلي السبعينيات, وكأنها جاءت إلينا من المجهول, أما المدافعون عنها والمؤمنون بها فيتحدثون بجرأة شديدة بأنها سوف تعيد توحيد العالم في الاتجاه الصحيح. لقد تحولت العولمة بفضل جماعة ينتمون لمدرسة من الاقتصاديين إلي سياسة وقانون يحكم العالم علي مدي ثلاثين عاما منذ بداية الثمانينيات, لكن بعد ثلاثة عقود, من الواضح أن هناك إنجازات هائلة وفشلا ذريعا, ومجموعة من التداعيات الأليمة. العولمة هي فكر اقتصادي خاضع للتجربة, في رأي المؤلف, ولكن أصحابها يقدمونها علي أنها حقيقة لا تقبل النقاش, وهم لا يريدون أن يعترفوا بأنها تجربة حاولوا من خلالها إعادة تشكيل الاقتصاد والسياسة والقضايا الاجتماعية, جانب كبير من أفكار العولمة يختفي الآن, لكن جزءا منها سوف يبقي, فالعالم يمتلئ بأفكار أخري منافسة, وأيديولوجيات ومعتقدات بعضها إيجابي والآخر كارثي, وفي هذا المناخ المضطرب لا أحد في قدرته أن يعلن ما هو الفكر الذي سوف يطغي في المستقبل بعد انهيار العولمة. أنبياء العولمة الذين طالبونا بالخصخصة يعترفون الآن بأنهم كانوا مخطئين, فالمصلحة الوطنية أكثر أهمية, والاقتصاديون منقسمون بشدة حول ما إذا كنا نفرض رقابة أو نترك الحرية للسوق, والدول التي حققت إنجازات اقتصادية مثل البرازيل تتحدي حكمة الاقتصاد العالمي, وشركات الأدوية المتعددة الجنسية تجد نفسها الآن مضطرة لأن تنحني أمام العاصفة, وتندمج مع بعضها حتي تتجنب حركات الاحتجاج ضدها. نحن في مرحلة تحول يقودنا إلي فراغ, لكنه فراغ مشوش, الغريب أن المسئولين عن هذه الحالة ينكرون خطأهم, والفوضي تخيف الذين قادوا العالم إلي هذا الاتجاه. المؤسف أن الخيارات غير واضحة. يقول المؤلف: هذا الكتاب حول قدرتنا علي الاختيار, وحول إلي أين سوف تقودنا اختياراتنا. ما هي العولمة؟ ماذا سيبقي منها؟ وأي الجوانب سيختفي؟ ليس هناك مفهوم محدد, والأفضل أن نتعرف عليها من خلال المظاهر التي تربطها أو مضمونها. ليس هناك من المفكرين أو الاقتصاديين من يستطيع أن يؤكد ماذا سيبقي منها أو يختفي, لكن المؤلف يحذر من العودة إلي حالة الانغلاق الوطني وما صاحبها من حماية كمبدأ دولي في القرن التاسع عشر. إذا نظرنا حولنا فسوف نجد نماذج ناجحة للعولمة, أهمها النمو في حركة التجارة, ولكن هناك نماذج أخري لفشلها, ويضرب المؤلف المثل بنيوزيلندا والأزمة الاقتصادية التي واجهتها, وكيفية علاجها, واضطرار حكومات عدة دول للتدخل لإعادة تنظيم عمل شركات الطيران العالمية في محاولة لإنقاذها. هناك أيضا أزمة ديون دول العالم الثالث المستمرة منذ ثلاثة عقود. نحن نعيش الآن فراغ فكر اقتصادي, وهو ما يضيف عنصرا آخر لحالة الحيرة. الاقتصاد يخضع الآن للعواطف ولعواصف المصالح, وهو مثل موضات أخري, فالحقائق تتغير بسرعة طبقا للأهواء. الحضارات والأديان واللغات والثقافات والدول قامت لتبقي قرونا, ولكن بالنسبة للاقتصاديين فربع قرن يكفي, وإذا استمرت نصف قرن فهو أمر غير طبيعي. شهد العالم في بداية القرن السادس عشر نهضة ثقافية تمثلت في حركات الإصلاح الديني في شمال أوروبا التي قادت إلي كنيسة واحدة قوية, فالتوتر الذي كان قائما بين الفيلسوف اللاهوتي إيرازموس, ولوثر أكد أن الاختيار ممكن. المؤمنون في أوركسترا العزف علي العولمة نسوا أن حرية التجارة في أوروبا في القرن التاسع عشر كانت تحركها إمبراطوريات كبيرة, وقد اعتبرت العالم وحدة واحدة, وقد أعلن الاقتصادي جون كينز عام1914 أهمية الارتباط الاقتصادي داخل القارة الأوروبية. سوق عالمية إذا أعدنا تجميع تعهدات الشركات المتعددة الجنسية, التي عرضها في السبعينيات القادة السياسيون والأكاديميون والكتاب ورجال الأعمال وبنوك المعلومات, نجد أن العولمة وعدتنا بما يلي: * تضاؤل قوة الدولة, وهذه الدول المتعارف عليها من الممكن أن تموت أو تختفي, والمستقبل يشير إلي أن القوة سوف تعتمد علي الأسواق الدولية, فالاقتصاد وليس السياسة أو القوات المسلحة هو الذي سيشكل الأحداث الإنسانية. هذه الأسواق الدولية التي سوف تتحرر من المصالح القومية الضيفة سوف تصنع بالتدريج التوازن الاقتصادي, ولأن الرخاء سوف ينتشر في العالم, فسيقوم الأنداد بتحويل الدكتاتوريات إلي أنظمة ديمقراطية, لكن هذه الديمقراطيات لن تكون لها في البداية سلطة الدولة القديمة, لذلك سنري أحداثا تطغي عليها المصلحة القومية, والعنصرية, والعنف السياسي, وعلي الجبهة الاقتصادية تتطلب السوق الجديدة شركات عملاقة, وكلما زادت قوتها قلت مخاطر إفلاسها, وهذه الشركات ستكون مصدرا آخر للرخاء الاقتصادي. التجارة في القرن ال19 لكن جذور العولمة هي في الواقع أبعد كثيرا من السبعينيات, فقد عرف العالم هوية التجارة في القرن التاسع عشر وحتي الحرب العالمية الأولي, واستطاعت أوروبا إسقاط الحواجز التجارية, ودول أوروبا انضمت مع الإمبراطورية الأمريكية الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر, ونشر هذا التجمع الجديد أساليبه في السياسة والاقتصاد والاجتماع حول العالم, وكما أشار كينز كانت المواد الأولية والصناعات والبضائع تتدفق في كل اتجاه. لكننا إذا أردنا أن نلخص الأفكار التي تناولت العولمة, نستطيع أن نقول إنها شكل من العالمية, حيث تولد الحضارات من رحم الاقتصاد, والقيادة هناك تكون للأفراد, بل لقوة اقتصاد السوق, وهناك مئات بل آلاف من التعريفات والوعود والتهديدات, لكن أكثرها دقة تشير في بساطة إلي أن خفض أسعار المواصلات والاتصالات من شأنه أن يقود إلي التكامل العالمي للإنتاج والاستهلاك, لكن الهدف أكبر من ذلك, فألفريد إيكس رئيس اللجنة الدولية الأمريكية السابق للتجارة يصف الهدف من العولمة كعملية نري فيها التكنولوجيا والاقتصاد والاستثمار والاتصالات, وحتي السياسة تقوم بإسقاط الحواجز في الأمن والمساحات التي كانت سببا في فصل المجتمعات عن بعضها. المعلق المنحاز لاقتصاد السوق دانييل برجين يقول: إن الحكومات فقدت سيطرتها علي قيادة اقتصادها الوطني, وبالتالي قدرتها علي التطور الاقتصادي, وحماية سيادتها والحفاظ علي مصالحها القومية, لكنه لا يذكر عدم قدرتها علي تشكيل وتمويل الخدمات العامة, لأنه ربما لا يؤمن بأنه طبقا لقوانين العولمة تستطيع الحكومات تمويل المشروعات التي تحتاجها الجماهير, لكن رجال الأعمال الذين ينتقدون العولمة الآن أمثال جورج سوروز, فيقولون: إن العولمة تدور حول خلق أسواق مالية عالمية غير قابلة للرقابة أو السيطرة من جانب الحكومات, والنمو الهائل للشركات المتعددة الجنسية وقوتها المتزايدة علي الاقتصاديات الوطنية. فالدول قد تحولت إلي ديناصورات تنتظر الموت, طبقا لرأي الاقتصادي الياباني كينيشي أوهماي. لكن العولمة لم تسهم في استقرار وسلامة المجتمعات, فألفريد إيكس يتذكر ما أعلنه كينز في الثلاثينيات من أن عصر الاقتصاد العالم لم يكن ناجحا في تجنب الحرب بما يعني أن التجارة إذن مع رأس المال النشيط كانت دائما تشجع علي الحروب أكثر من الحفاظ علي السلام. الحضارة الإسلامية المؤلف يرجع إلي التاريخ ليؤكد موقفه من العولمة, ففي أثينا حيث يصر الغرب علي أنها أم الحضارة, كانوا يتفهمون أهمية السوق, لكن مصلحة المواطن واحتياجاته كانت تأتي قبل مطالب السوق, والتجار لم يكونوا مواطنين برغم أنهم يدفعون الضرائب كاملة, وفي روما كان اقتصاد السوق يعتمد علي القطاع العام, أما التجارة فهي عملية للمنفعة الشخصية ولا علاقة لها بالأيديولوجية, والحضارة الإسلامية التي تمثل جانبا مهما من فكر أرسطو والإغريق والرومان وحضارة البحر المتوسط, نقلت أوروبا من عصور الظلام في أواخر الألفية الأولي. فالمسلمون أداروا بكفاءة تجارتهم وضرائبهم, لكنهم كانوا أكثر اهتماما بالتخطيط العمراني, والعلوم والرياضيات والفلسفة والآداب, وكانوا أكثر التزاما بالبعد الاجتماعي, ويذكر المؤرخ الاقتصادي ر. تاوني أنه في كل فترات العصور الوسطي كانت هناك تحذيرات من السماح للاقتصاديين بالتدخل في شئون الدولة, فالعمل كقيمة إنسانية يأتي قبل كل شيء, لكن التجارة برغم أهميتها فإنها تؤذي الروح ولا تلتزم بأي أخلاقيات. كانت هناك تحذيرات مبكرة من المخاطر المرتبطة بالمعتقدات الاقتصادية. إنهم يخدعوننا عندما يقولون أن النمو الاقتصادي الذي يشهده العالم خلال سنوات العولمة قد أدي إلي خفض معدلات الفقر, وقلل من مساحة التفاوت بين الدول وبين الأفراد, ولقد أجري أحد كبار الاقتصاديين دراسة تبين منها أن من يعيشون علي دخل يقل عن دولار واحد ودولارين يوميا قد انخفض عددهم, وهذا التقرير الذي لقي ترحيبا كبيرا من كهنة العولمة لم يذكر للأسف الحقيقة الطارئة. كان أفضل أمثلة في الدراسة, النمو الاقتصادي في الهند والصين, أما ما يتعلق بالقارة الإفريقية فيدفعك إلي الاكتئاب. لكن وللحقيقة ليس كل ما ذكره عن إفريقيا سيئا. ففي13 دولة إفريقية قل عدد الفقراء ممن يبلغ دخلهم دولار أو دولارين, لكن هناك خمس دول من بين الدول ال13 دولة إفريقية تجدها في قائمة أخري يفتك الإيدز بسكانها, وهو المرض الذي يهدم النظام الاقتصادي والاجتماعي في هذه الدول بسبب أن المصابين به هم في سن الشباب من ذوي القدرة علي العمل. لكن المثير للغرابة ما عرضته الدراسة عن بتسوانا كنموذج للرخاء. لقد خفضت بتسوانا نسبة عدد الفقراء الذين يحصلون علي دولار يوميا من35% إلي1%, وعدد من يحصلون علي دولارين من60% إلي9%, لكن بتسوانا هي الدولة رقم واحد في قائمة الدول المصابة بالإيدز, و40% من سكانها الذين أعمارهم تتراوح بين15 و49 عاما مصابون بفيروسHiv فكيف تقول الدراسة إن بتسوانا هي واحدة من نجوم العولمة من خلال الأرقام؟ الدراسة التي أجرتها سالا مارتن لم تشرح أسباب الرخاء, لكن الإجابة بسيطة, وبتسوانا لديها واحد من أكبر مناجم الألماس, وعدد قليل من السكان بفضل الإيدز الذي قتل ملايين من أبنائها والباقون يتقاسمون الثروة, يضاف إلي ذلك أنها من الدول القليلة التي يحكمها نظام غير فاسد, وهذه الأسباب لا علاقة لها بما فرضته العولمة منذ السبعينيات. جاءت أيضا رواندا في قائمة الدول الناجحة في دراسة سالا مارتن, وهي ضمن الدول الأكثر إصابة بالإيدز, وقد تعرض سكان رواندا إلي إبادة جماعية راح ضحيتها800 ألف قتيل, وانهار مجتمعها خلال الفترة التي كانت تبحث فيها دراسة سالا مارتن عن إحصائيات النجاح الاقتصادي. ماذا تعني هذه الروايات التي تعكس نجاح العولمة؟ يقول المؤلف إنها تشابه اجتياح الموت الأسود لدولة, فبينما مات عدد كبير من السكان فإن الذين قدر لهم أن يعيشوا قد اقتسموا أموال وملكيات الضحايا وتحولوا بذلك إلي أثرياء بينما أعلنت سالا مارتن في دراستها أن عدد سكان العالم ممن يحصلون علي أقل من دولار يوميا قد انخفض إلي890 مليونا في عام1998, لكن تقرير البنك الدولي في عام2005 يذكر أن1.1 بليون شخص يعيشون بأقل من دولار واحد يوميا, لقد زاد عدد الفقراء تحت مظلة العولمة طبقا لإحصائيات البنك الدولي, الآن من2.5 إلي2.7 بليون شخص. هذه الأرقام تعني أنه ليست هناك أية مؤشرات علي النمو والرخاء, باستثناء الهند والصين, ولكن هناك مشكلة التفاوت الفادح بين الفقراء والأغنياء في البلدين, وهو ما يسبب مشكلات اجتماعية وقلاقل في البلدين. *** الأزمة الاقتصادية الحادة الأخيرة التي تجتاح العالم, والرأسمالية الجشعة التي لا تخضع لأي رقابة من الدولة, والتي تسببت في هذه الأزمة, وحولت نحو عشرة ملايين عامل في الولاياتالمتحدة وأوروبا إلي صفوف البطالة هي من تداعيات هذه الأزمة. لقد قوضت العولمة سلطة الدولة, ودعت إلي خصخصة كل أدوات الإنتاج والخدمات, وأعطت الشركات العملاقة القوة والسيطرة, وحولت رجال الأعمال الذين زاد ثراؤهم الفاحش إلي حكام خاصة في دول العالم الثالث, أما ضحايا هذا الانفلات الاقتصادي فكانت الطبقات الشعبية التي ضاعفت العولمة معاناتها.