رغم أن العولمة أصبحت الآن بمثابة إعصار يكتسح أمامه كل معارضيه و حتي من يترددون في الخضوع لجبروته و سطوته، إلا أن الكثيرين في هذا العالم ما زالوا يحاولون المقاومة و يحذرون من الآثار السلبية الرهيبة التي ترتبت و سوف تترتب علي الخضوع لأفكار و مباديء و قوانين العولمة التي يتهمونها بأنها تسعي لتغيير العالم من أجل مصالح الكبار و علي حساب دول العالم الفقيرة و النامية. و المعارضة للعولمة لا تنطلق في الأساس من مفاهيم أيديولوجية بقدر ما تبني علي حسابات دقيقة تحاول استشراف ملامح المستقبل و دق ناقوس الخطر لتحذير البشرية مما تصفه بالعواقب المدمرة للعولمة. و إذا كانت مخاوف دول العالم الفقيرة من العولمة لها مبررها الواضح و الحاسم باعتبارها أول من سيدفع الثمن، إلا أن بعض الدول المتقدمة و خاصة فرنسا، كانت لها مخاوفها أيضاً ربما لأسباب أخري. و هذه النقطة بالتحديد هي التي يناقشها كتاب الباحث الفرنسي الشهير جان لوي فيراندري حول قضية الرؤية الفرنسية للعولمة أبعادها و دوافعها و مبرارتها. و الكتاب من إصدارات المعهد العالي الفرنسي للدراسات الاقتصادية و التجارية و يعد بالفعل أطروحة علمية و سياسية في قضية فرنسا و العولمة. و الحقيقة أن الموقف الفرنسي من العولمة هو موقف مميز، ويستحق الوقوف عنده مطوّلاً. فالعولمة تهدّد المصالح الفرنسية وتربكها ولكنها لا توقعها في وضع كارثي كما هي حال الدول المتخلّفة. ففي أثناء الحرب الباردة كان علي هذه الدول أن تتجاوز تخلّفها عن طريق التنمية، وتكفي مراجعة شروط البنك الدولي حتي نعرف أسباب سوء السمعة الملازم لمصطلح التنمية. وبعد نهاية الحرب الباردة بات علي هذه الدول (المتخلّفة)، أن تتخلّي عن خصوصياتها وعن هويتها وأن تستسلم كلّياً للنصائح التي كان لها حق قبولها أو رفضها. فقد تحوّلت هذه النصائح إلي قوانين نافذة هي قوانين السوق (الليبرالية الاقتصادية المطلقة). من هنا القول بأن فرنسا، وهي من دول العالم الأول، تستطيع أن تتعامل مع هذه العولمة بثبات وبثقة أكبر وأيضاً بموضوعية أكثر بروداً، وهي في الوقت ذاته معنية بالتصدي لبعض مظاهر هذه العولمة وانعكاساتها علي المصالح الفرنسية. ولكن هل تضمن هذا الكتاب كل المعطيات التي تهم المرشحين للوقوع ضحايا هذه العولمة؟. الجواب هو: لا قاطعة، فالكتاب يرصد مراحل تحّول القوة وصولاً لإقراره بحتمية التحول الاقتصادي نحو العولمة، كنتيجة طبيعية لتتابع التطورات الاقتصادية العالمية. وهو يكاد يتجاهل تماماً موقف فرنسا من العولمة ومخاطرها علي مصالحها، وأيضاً المواقف المتتابعة التي اتخذتها فرنسا في وجه العولمة، وذلك وفق استراتيجية، كان من أهم خطواتها المؤتمر الأخير للفرانكوفونية. فماذا يبقي إذاً من الكتاب؟. تبقي قراءته الأكاديمية الهادئة للتطورات الاقتصادية التي أفضت إلي طرح العولمة كخيار حتمي يصعب إيجاد البديل له. ومن خلال الكتاب علي القارئ أن يلاحظ أن فرنسا تحاول إيجاد هذا البديل، وتحاول تحريك وتشجيع التكتلات المعارضة له، فهي الأكثر تضرّراً من "تحول السلطة" الذي سيرافق هذه العولمة. سيلاحظ القارئ أن العامل اللغوي هو المؤشر الذي لفت أنظار الفرنسيين إلي الخسائر المحتملة التي تحملها إليهم العولمة، فاللغة الفرنسية هي اللغة الثانية عالمياً، وهي تتنازع مع الإنجليزية، وتكافح لمنافستها في الانتشار العالمي. والعولمة كخطوة أولي تكرّس اللغة الإنجليزية كلغة تخاطب عالمية (خصوصاً علي صعيد الاتصالات وعلي صعيد الليبرالية الاقتصادية بمؤسساتها وبشركاتها العابرة للحدود) بما يستتبعه ذلك من وضع استسلامي للغة الفرنسية، ومن هنا قوة ردة الفعل الفرنسية، ليس فقط علي صعيد اللغة بل أيضاً علي الصعيد العسكري، فقد أصرّت فرنسا في عهد الرئيس شيراك علي التفجيرات النووية لتثبت أنها طرف لا يمكن تجاهله في معادلة العولمة. واستناداً إلي مجمل هذه التفاعلات فإن فرنسا تخوض اليوم معارضة واسعة لمنطلقات العولمة، وليس للعولمة بحد ذاتها، فهذا الكتاب مثلاً يؤكد أن العولمة باتت واقعاً تقنياً. وإذا لم يكن بالإمكان تجاوز الواقع فإن بالإمكان تحسين ظروفه، وهذا ما يسعي له الفرنسيون، وخصوصاً لجهة الارتباط بين العولمة والأمركة. ومن القنوات التي تعمل فرنسا من خلالها علي توضيح مساوئ هذه المعادلة هناك الإعلام بشكل عام، والصحافة بشكل خاص (تخصص صحيفة لوموند صفحات كاملة لمناقشة العولمة)، والإعلام وأخيراً المؤتمرات الفرانكوفونية ومؤتمرات متخصّصة بالعولمة. ويمكن تحديد وجهة النظر الفرنسية تجاه العولمة كما تجسدت علي لسان عدد من مفكريها ومسئوليها الذين شاركوا في مؤتمر "اقتصاديات القرن الحادي والعشرين العولمة والاقلمة تجديد منظور التطور" الذي استضافته كندا في مجموعة من النقاط هي: تسمية دول العالم الثالث ظهرت أثناء الحرب الباردة للتعبير عن الدول غير التابعة لأحد القطبين، وهي التي تجمع قسماً منها تحت تسمية "دول عدم الانحياز" أما صفة التخلف التي التصقت بهذه الدول صاحبة هذا الاسم فهي تهمة وطعم أمريكي يهدف إلي حث هذه الدول علي تقليد الدول المتطورة، دون مراعاة لأخطار هذا التقليد الذي أوقع هذه الدول في فخ الديون. * ويري الأكاديمي الفرنسي "فرنسوا بيرد"، أن تحقيق زيادة في معدل النمو (كهدف للتنمية) يغرق المخططين والمسئولين الاقتصاديين في دول العالم الثالث بالرموز المصطنعة، التي تفقدهم الرؤية السليمة. * إن أية محاولة للتطوير يجب أن ترتكز علي بنية اقتصادية _ سياسية موثوقة، فإذا كان هنالك نقص في هذه البنية، لم يعد بالإمكان تحديد المستفيدين من هذا النمو وغرق البلد في مديونيات ثقيلة. * إن العولمة تعني تركيز الثروات وتعريضها لأخطار المضاربات الموجهة من الدول الغنية والواقعة تحت سيطرتها. * إن تجارب الدول التي انقادت لنظام السوق ليست بالتجارب المشجّعة. و تتوزّع محتويات الكتاب علي أقسام ثلاثة: في القسم الأول متابعة لتاريخ "الشمولية" الاقتصادية، وفيه سرد للثورات الحاصلة في مجال الاتصالات والمواصلات والمعلوماتية، ونظريات الليبراليةالاقتصادية ومقدمات وأسباب ظهور النظام الاقتصادي العالمي، والتكتلات الاقتصادية الاقليمية. أما الجزء الثاني فيخصّصه المؤلف لمناقشة التوجه العالمي في التجارة وتبادل السلع والخدمات منذ أواسط القرن التاسع عشر ولغاية ثمانينيات هذا القرن. ويأتي في القسم الأخير إلي مناقشة التوجه نحو عالم بدون حدود اقتصادية، وهو التوجه الذي أرساه نشاط الشركات متعدّدة الجنسية منذ ظهورها ولغاية اليوم. وفي النهاية يعتبر المؤلف أن التطور الطبيعي والمنطقي للأنماط الراهنة من العلاقات بين الدول والشعوب هو تثبيت النظام العالمي الاقتصادي الجديد بكل ملامحه الراهنة. بالانتقال إلي بعض التفاصيل فإن انطلاقة تيار العولمة تبدأ مع سقوط الاتحاد السوفييتي، والتغيرات الجغرافية والسياسية والعسكرية التي تفرعت عنه. فقد شهدت نهاية الحرب الباردة تغييراً جذرياً في خريطة مواطن القوة. وكان ذلك إيذاناً بإعلان القطب الواحد عن زعامته الجديدة، التي بدأت بعولمة مفهوم الليبرالية الاقتصادية المطلقة، التي انطلقت من توجهات ريجان الاقتصادية، والتي تناغمت معها توجهات مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا في عهد رونالد ريجان وأتت متمّمة لها. وباختصار فإن القوة الوحيدة فرضت فكرها الاقتصادي الملخّص بجملة واحدة: "السوق تتحكم بالاقتصاد" وهذا التحكم يستوجب تذليل الحدود وإلغاء الجمارك (أو تجاوزها علي الأقل باتفاقيات) في كل ما يتعلّق بالاقتصاد وبالتكنولوجيا وتوسيع النشاطات الاقتصادية الرأسمالية إلي أي مكان تراه المجموعة الاقتصادية (الشركات) مناسباً لها، وذلك دون قيود. وهنا يقف المؤلف للتذكير بأن تطور المواصلات والاتصالات والتكنولوجيات منذ نهاية القرن الماضي، هو الذي مهد الطريق للتفكير بتجاوز الحدود الاقتصادية. فحتي التوسّعات الاستعمارية فإنما كانت تهدف إلي ضمان الهيمنة والتفوّق الاقتصاديين. لكن الاقتصاديات الاستعمارية كانت تخص كل مستعمر في المنطقة المستعمرة، مما كان يحول دون ظهور تمازج اقتصادي، وبالتالي لم يسمح الاقتصاد الاستعماري بوجود مجال اقتصادي متداخل. ويعود المؤلف ليذكر بأثر الحربين العالميتين في إتاحة الفرصة للولايات المتحدة كي تتطور اقتصادياً وتكنولوجياً، علي حساب أوروبا. هذا التطور الذي أسس لأمركة العولمة، التي كانت آتية بفعل التطور، ولكن أمركتها ارتبطت بهذه الفرصة ومن ثم بسقوط الاتحاد السوفييتي. ويسرد المؤلف ملامح ومحطّات تطور الاتصالات فيذكّر بظهور التلغراف الكهربائي العام 1837، ثم أول الخطوط العابرة للمحيط العام 1866 ثم الاستعمال المباشر للهاتف سنة 1876 ثم ظهور المواصلات اللاسلكية التي اخترعها ماركوني في نهاية القرن وبداية استعمالها العام 1901. وهذه كانت المقدمات لانطلاق الثورة الإلكترونية حيث ظهر التليفزيون، الذي نزل إلي الأسواق قبيل الحرب العالمية الثانية، ثم ظهور الكومبيوتر العام 1946، والترانزيستور العام 1947، الذي يعتبر الانطلاقة الحقيقية للتكنولوجيات الدقيقة. وارتبطت ريادة أمريكا لهذه الثورة استناداً إلي زيادة الاعتماد الأوروبي عليها. وأيضاً إلي الفكر الاقتصادي الأمريكي. فالبراغماتية الأمريكية هي التي أوصلت الولاياتالمتحدة إلي هذه الهيمنة. فالمسألة إذاً لا تعود إلي توجهات ريجان بل هي تعود إلي القرن الثامن عشر حيث كتب "آدم سميث" في كتابه "ثورة الأمم": "إن رب الأسرة العاقل لا يصنع بنفسه شيئاً يمكن شراؤه بثمن أرخص" والأمر ذاته يندرج علي المجموعات الأوسع من الأسرة. وإلي هذه الخلفية الفكرية أضاف "ديفيد ريكاردو" مؤلف كتاب "مبادئ في الاقتصاد السياسي والضرائب" (1817)، المبادئ المكملة لما تتطور لاحقاً نحو الليبرالية الاقتصادية وسياسة المنفعة. لكن الفرصة التي أتاحها انهيار الاتحاد السوفييتي جعلت الأمور تتجه نحو الشمولية. إذ ظهرت أسواق وفرص استثمار جديدة مكملة ما كان متاحاً منها سابقاً. وهذا التكميل هو الذي دفع الأمر نحو الشمولية. لكن نصيحة مؤلف كتاب "ظهور استراتيجية عالمية للمقاولات" (1985) هي ضرورة التواجد في الأقطاب الثلاثة للاقتصاد العالمي، التي تمثلها عمليا : الولاياتالمتحدةاليابان الاتحاد الأوروبي. ولكن ما هو رأي المؤلف بهذه الشركات المنتشرة في الأقطاب الثلاثة (والعابرة للقارات) هل هو يري فيها نفعاً شمولياً أو محدوداً؟.. إن المؤلف يقرر أن هذه الشركات تقودها أرباحها وهي تصب هذه الأرباح في اقتصاديات أحد هذه الأقطاب. وبالتالي فإن الجهتين رابحتان في هذه الاستراتيجية. ولكن هل تخرج منها الدول النامية رابحة؟.. يقول المؤلف أن هذه الشركات قد تؤمن فرص عمل إضافية في هذه الدول ولكنها تزيد التضخّم فيها بما ينعكس سلباً علي اقتصاديات هذه الدول. والواقع أننا لسنا بحاجة إلي الأمثلة علي هذا الانعكاس السلبي إذ تكفي مراجعة قوائم الدول التي تتواجد فيها الشركات عابرة القارات ورصد الأزمات الاقتصادية التي تتعرض لها هذه الدول.