"العولمة" ظاهرة فرضت نفسها حتى على من يرفضها، من ناقدي العولمة ورافضي مدلولاتها والذين لا زالوا يتشبثون بمفاهيم التعدد وسيادة البعد الإنساني في العلاقات الدولية؛ والرافضين لهيمنة الرأسمالية المتوحشة التي دهشت تحت عجلات قطارها الغشوم كل الطبقات الفقيرة ومتوسطة الحال ممن تأبى حالهم على التكيف؛ ولم تسعفهم ظروفهم على التأقلم؛ فيما قد يستحيل التأقلم معه. ومن يتفكر في حال أهل بر مصر يدرك كم أصبحت حتى متطلبات الحياة الأساسية عسيرة حتى على مستوري الحال ممن يتمتعون بسعة نسبية في أمور المعاش. فكيف بحال من ضاقت عليهم معايشهم؛ ومن سُدت في وجوههم أبواب الرزق الكريم تحت مطارق الاستبداد ومصارع العباد بأثر من تزاوج المال والسلطة وذلك حينما احتضن النظام الحاكم فئة السماسرة الذين يُطلق عليهم رجال الأعمال؛ وما هم برجال أعمال بل هم رجال أموال القروض الضائعة من البنوك التي من المفترض أنها تحفظ مدخرات جموع الناس؛ فإذا عمليات نهب منظم وتخريب متعمد لمقومات البلد ومقدراتها. الخطوة الأولى في التعامل مع أي ظاهرة خاصة إذا كانت ظاهرة بالغة التعقيد مثل ظاهرة العولمة؛ هي فهمها فهما جيدا وفهم أساليب وآليات عملها ونقاط القوة والضعف فيها وشبكات الاتصال بين مفاهيم ومفردات تلك الظاهرة ثم أخيرًا دراسة عناصر التوافق والتناقض بين مكونات تلك الظاهرة؛ واستخلاص أهم دروسها ونتائجها. لقد انتشر استخدام مصطلح العولمة في كتابات سياسية واقتصادية عديدة (بعيدة عن الإنتاج الفكري العلمي الأكاديمي في البداية) في الربع قرن الأخير، وذلك قبل أن يكتسب المصطلح دلالات إستراتيجية وثقافية مهمة من خلال تطورات واقعية عديدة في العالم منذ أوائل التسعينات. وتنبع خطورة مفهوم العولمة وأهميته من أنه تحوّل كلية إلى سياسات وإجراءات عملية ملموسة في كل المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأضحى عملية تطرح في جوهرها هيكلاً للقيم ورؤية للإنسان والكون والحياة تتفاعل كثير من الاتجاهات والاستراتيجيات في الغرب على فرضها وتثبيتها، وقسر مختلف شعوب المعمورة - وخاصة المسلمين - على تبنّي تلك القيم وهيكلها ورؤيتها الكلية للإنسان والكون والحياة. يُستخدَم مفهوم "العولمة" لوصف كل العمليات التي بها تكتسب العلاقات الاجتماعية نوعًا من عدم الفصل (سقوط الحدود) وتلاشي المسافات؛ حيث تجري الحياة في العالم كمكان واحد - قرية واحدة صغيرة؛ بل أصغر كثيرا من قرية- ومن ثم فالعلاقات الاجتماعية (التي لا تحصى عددًا) أصبحت أكثر اتصالاً وأكثر تنظيمًا على وحدة الكوكب؛ لذا عرّف البعض العولمة بأنها "الاتجاه المتنامي الذي يصبح به العالم نسبيا كرة اجتماعية بلا حدود" وعرفها آخرون على أنها "تكثيف العلاقات الاجتماعية عبر العالم حيث ترتبط الأحداث المحلية بطريقة كما لو كانت تتم في مجتمع واحد". ويظل التعريف الشامل للعولمة أصحّ التعريفات وأدقها وأكثرها قبولا ومنطقية حيث استقرت دلالة مفهوم العولمة على أنها: "ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والسلوك؛ بحيث يكون الانتماء فيها للعالم كله عبر الحدود السياسية الدولية وتحدث فيها تحولات على مختلف الصُعد تؤثر على حياة الإنسان في كوكب الأرض أينما كان". وعلى الرغم من انتشار مفهوم العولمة، فإن العالم يفتقر إلى وجود وعي عالمي أي إدراك الأفراد لهويتهم الكونية أكثر من الهويات المحلية؛ فواقعيًا، لا زالت الهويات المحلية تتصارع مع تلك الهوية العالمية التي تهيمن عليها القوى الكبرى اقتصاديًّا ونموذجا حياتيًّا (الأمركة)، فعلى سبيل المثال بينما تتحد الدول في وحدات إقليمية كبيرة فإن التواصل بينها مفتقد، وبينما تتسارع العولمة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية سعيًا وراء تقليل فوارق المسافة، تخلق سياسات الهيمنة العديد من الفجوات بين الدول. وتعبر هذه السلوكيات عن جدلية إدراك الإنسان لدوره ككائن اجتماعي من ناحية، وكفرد يتصارع عالميًا سعيًا وراء مكانة خاصة. ويرى بعض الباحثين أن الإشكالية في العلاقة بين العالمي والمحلي تتفاقم حين تحاول القوى العالمية الكبرى مثل: الولاياتالمتحدة أن تُعطي الطابع العالمي لما هو محلي لديها من أجل تحقيق مصالحها الخاصة. ويرجع انتشار هذا النموذج الأمريكي إلى امتلاك الولاياتالمتحدة لمنافذ إعلامية عديدة وعالمية ويطلق الباحثون على تلك العملية، "عولمة المصالح المحلية". مفهوم العولمة من المفاهيم الغازية لثقافة أمتنا ويستبطن قدرا هائلا من محاولات فرض منظومة مفاهيم الحضارة الغربية وخاصة الأمريكية عليها؛ وهو بحاجة إلى فهم دلالاته ومقتضياته حتى نستطيع أن ندفع قدر العولمة بقدر العالمية. والله غالب على أمره.