تتجلي العولمةGlobalization علي الصعيد الاقتصادي في سهولة انسياب السلع والخدمات, وعناصر الإنتاج( الأفراد ورءوس الأموال), بل سرعة انتشار المعلومات بلا اعتداد يذكر بالحدود الوطنية للدول, فالعولمة- كما عرفها أحد الباحثين- مصطلح يعبر عن اتساع وعمق التدفقات الدولية في مجالات التجارة والمال والمعلومات في سوق عالمية واحدة متكاملة. لذلك تتمثل العولمة الاقتصادية- في التحليل النهائي- في عمليتين مرتبطتين معا بشكل عال وهما عمليتا التخطي الاقتصادي للحدود الوطنية, والتخطي المعلوماتي لها. هذه العمليات تأتي كمحصلة لاتساع قدرة الشركات المتعددة الجنسيات وتغلغلها في الاقتصاد العالمي. هذه الشركات تنظر إلي العالم كله كوحدة واحدة, وتقوم بعمل استثماراتها, وشراء إمداداتها, وإجراء بحوثها, وتصميم منتجاتها في المناطق المناسبة لها للاستفادة من الفرص المتاحة حول العالم, الأمر الذي جعل الاقتصادي تشارلز كندلبرجر يشير إلي أن هذه الشركات ليس لها وطن تدين له بالولاء, وأن وطنها الفعلي حيث تتحقق الأرباح. وبالتوازي مع هذا, فقد أصبحت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تمثل قوة دفع هائلة لتيارات العولمة, بما يترتب عليها من اتساع المبادلات الدولية, وتدفقات التجارة والاستثمار, بل لقد أدي النمو السريع لتكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال إلي سقوط الحواجز المعلوماتية بين المجتمعات. ناهيك عن التوسع في تطبيق سياسات التحرر الاقتصادي, وما أدي إليه قيام منظمة التجارة العالميةWTO من تحرير التجارة الدولية, الامر الذي تمخض عن التفاعل والتكامل المتزايد للأنشطة الاقتصادية علي المستوي العالمي, والتوسع في تطبيق المعايير والاسس المشتركة للمؤسسات والانشطة الاقتصادية والبيئية. وإذا نظرنا إلي العولمة كواحدة من حقائق الحياة المعاصرة التي تتداخل فيها أمور الثقافة والسياسة والاقتصاد والاجتماع, أمكننا أن نستخلص أن العولمة ليست خيارا مطروحا, بل هي أمر واقع, ويجب التعامل معها أيا كان الموقف منها, لأن تجاهلها لن ينهيها كعملية تاريخية, فضلا عن أنها أصبحت تستوعب أغلب أنشطة الاقتصاد العالمي. وإذا كانت العولمة لم تعد فكرة مطروحة للنقاش والجدل, وأن الانعزال غير وارد في عالم يزداد تشابكا وتعقيدا, وأن الانكماش والانغلاق علي الذات هو أمر مستحيل وضار باستمرارية النمو وتصاعده, لذلك فمن الحكمة أن نوظف جهودنا علما وعملا لتكييف أوضاعنا مع ما تطرحه العولمة من معطيات, وما يتجلي عنها من متغيرات, والتعامل معها ومعالجتها بما يتواءم مع مصالحنا, وأن يكون لنا دور مؤثر أو قدرة تنافسية في نظام عالمي متعدد الاوجه اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا. إن الفرص المتاحة لنا كدول نامية للاستفادة مما تتيحه العولمة من مزايا اقتصادية مرهونة بمدي المشاركة فيها, والانخراط في فعالياتها, باعتبار أن اقتصادات السوق هي نظم ديناميكية يتحقق تقدمها في أغلبه نتيجة لعمليات التأقلم والتكيف الناجح مع ما يطرأ علي الأسواق من متغيرات. هذه النتيجة تؤكدها التجربة الآسيوية التي تفيد بأن العولمة والانفتاح علي الأسواق الخارجية يحفزان النمو الاقتصادي. ومع أن العولمة تتيح فرصا للنمو والتطور, فإن نمط النمو لم يأت متكافئا لجميع البلدان. لقد تمكنت بعض الاقتصادات النامية مثل هونج كونج وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان- بتعزيز أدائها الاقتصادي- أن تجني مكاسب كبيرة, وتنتقل من مجموعة الاقتصادات النامية إلي مجموعة الاقتصادات المتطورة. وتمكنت دول أخري كماليزيا وتايلاند من إحراز نجاح كبير في الاستفادة من قوي العولمة, والاقتراب من مستويات الدخول في الدول المتقدمة, هذا في حين تراجع أداء الكثير من الدول النامية, وازداد ما تواجهه من صعوبات. القضية- إذن- تتعلق بنوعية الإدارة العامة وكفاءتها في تطبيق سياسات اقتصادية كلية للتكيف, والاستفادة من المشاركة في الترتيبات التجارية الدولية, مع التخطيط الاستراتيجي لإعادة تشكيل هياكلها الاقتصادية حتي يمكنها التعامل الإيجابي مع المتغيرات الدولية, وزيادة التكوين الرأسمالي, وتحسين كفاءة الاستثمار البشري, والتخصيص الامثل للموارد.