عرفت مصر نظم الإدارة المحلية منذ نشأتها مروراً بالفتح الاسلامى 641 م الذى قسمها الى ريف وحضر، ثم الحملة الفرنسية التى وضعت الأساس التنظيمى الأول للإدارة المحلية بتقسيم البلاد إلي 16 مديرية، ثم محمد علي الذى جعلها 14 مديرية قسم كل منها إلي عدة مراكز، ثم الخديو توفيق الذى وُضِعَ فى عهده أول نظام قانونى للإدارة المحلية في مايو 1883، أنشئت على أساسه مجالس المديريات كفروع للإدارة المركزية وان كانت اختصاصاتها استشارية. ثم وفى عهد الخديو توفيق أيضاً، عرفت مصر نظام المجالس البلدية لأول مرة بتأسيس بلدية الإسكندرية في 5 يناير 1890، ثم جاء دستور 1923 ليضع، ولأول مرة، نظاماً ديمقراطياً مدعِماً للمحليات في مادتيه 132 و 133 أقر تشكيل المجالس المحلية بدرجاتها المختلفة بالانتخاب المباشر، ومنحها اختصاصات واسعة لتنفيذ سياسة الدولة العامة محلياً, كما ألزمها بنشر ميزانياتها المالية وفتح جلساتها للمواطنين . ثم جاء دستور 1971 ليقسم البلاد إلي وحدات إدارية أو 26 محافظة تضم كل منها عدداً من المراكز والمدن والتوابع، ومنح الوحدات حق إنشاء وإدارة جميع المرافق العامة واستصلاح الأراضى الواقعة في دائرتها في ضوء الخطة العامة للدولة، وجعل تشكيل المجالس الشعبية المحلية بدرجاتها عن طريق الانتخاب المباشر، إلا أنه إلتف حول تلك الأهداف النبيلة ولم يمنح تلك المجالس سلطة المحاسبة، ولم يؤسس لوجوب انتخاب المحافظ أو رؤساء الادارات المحلية ! وبالتالى فقدت المجالس المحلية فلسفة وجودها كحكومات لا مركزية تعبر عن رغبات الأقاليم التى تمثلها، وأصبحت مجرد كيانات شكلية تدور فى فلك الحزب الحاكم الذى يعين رؤساء إدارتها بمعرفته، فباتت "جراج" أو ترضية أو مكافئة لبعض فئات موظفى الدولة المحالة للتقاعد، حيث من البديهى أن معايير الاختيار وضعت لتأتى بأكثرهم ثقة وولاءً للنظام أثناء الخدمة ليكون هو صاحب الفرصة الأكبر فى شغل المنصب الجديد ! بمعنى "زراعة" الفساد مع بدايات السلم الوظيفى عند أصحاب الطموح .. إلا من رحم ربى. بذلك أصبح المحافظ ومن دونه مناجزين للشعب بعد أن شغلوا مناصبهم بصفقة متبادلة مع النظام بدأت بالولاء وانتهت بمقابل تعيين أحدهم وإطلاق يده لتنفيذ رؤيته لا رؤية المجالس الشعبية، فتفرغ لإبتكار الحيل وإصدار فرمانات تفريغ جيوب المواطنين بأى وسيلة، وتناسى هؤلاء أنهم ولاة لا جباة ، وأن التنمية هى مهمتهم الأولى وليس "تقليب" المواطن لصالح صناديق خاصة خارج الميزانية العامة للدولة، كصناديق الخدمات والنظافة والأبنية التعليمية وتجميل المدينة وغيرها من تبرعات إجبارية هى الباب الملكى للفساد والإفساد، فأموالها تحصل وتنفق بأمر المحافظ وحده دون محاسبة حكومية ودون رقابة فعلية من المجالس الشعبية المحلية المنتخبة التى لا تملك حق مساءلة أو استجواب المحافظ، ولا حتى رئيس القرية، طبقاً للقانون المعيب ! وإن لمَّح أحدها بذلك، ولو من قبيل الهزار، فسيصدر فرمان "مستحفظانى" بتجميده أو حله فوراً ! وكأننا نهيئ الفرصة لمزيد من الفساد ونحميه بدلا من ملاحقته لصالح الشعب والدولة ! لذلك، ومع التطورات المتلاحقة والتغيرات السياسية التي شهدتها مصر، وبعد إلغاء دستور 71، أصبح من الضرورى سن تشريعات جديدة تكفل حق المواطن فى انتخاب المحافظ ورؤساء الإدارات المحلية طالما أصبح من حقه انتخاب رئيس الدولة بكل ما للمنصب من علو وإجلال ومهابة تعلو بقية المناصب الإدارية، تشريعات تمنح المجالس المحلية الشعبية المنتخبة حق المحاسبة والاستجواب بدلاً من حصر دورها، وفقاً للقانون الحالى، على الاقتراح والإشراف وإصدار التوصيات دون أن يكون لها سلطة اتخاذ القرار النهائى، وعندها لن يجرؤ محافظ أو رئيس قرية تابعة منتخب على إتخاذ قرارات مزاجية دون إستطلاع رأى ناخبيه، ذلك مفهوم الديمقراطية الشعبية الذى يجب، على حد تصورى، أن تعمل الادارة المصرية الحالية على تأسيسه وتفعيله، وبقرار سيادى من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، يطرح التجربة ويستبق التشريع، فيكتب له بماء الذهب فى قلوب المصريين، ويذكره التاريخ كأحد أهم قراراته المصيرية التى وافقت مطالب الشعب وغيرت أسلوب ممارسة الحياة السياسية المصرية بعد 25 يناير. ضمير مستتر: مرّ بِي تِذكارُ شيءٍ لا يُحَدّْ بعضُ شيءٍ ما له قبلٌ وبعدّْ ربّما كان خيالاً صَاغَهُ فِكري وليلِى وتلفتّ ولكن ... لم أقابلْ غيرَ ظِلّى ! "نازك الملائكة" [email protected]