ينبيء حادث القتل البشع الذي ارتكبه مخبرو شرطة سيدي جابر وراح ضحيته الشاب خالد محمد سعيد وحوادث القتل المماثلة التي ارتكبتها الشرطة ضد مئات الضحايا في مناطق متفرقة من محافظات مصر منذ عدة عقود أن هناك خمسة ملاحظ تنبيء عن تطورات غاية في الأهمية ولذلك فإن كلا منها يحتاج إلى قراءة متأنية لما بين السطور الآتية : إن تعذيب الأبرياء إلى درجة القتل صار منهجا شرطيا بامتياز وتسعى القيادات الأمنية إلى تحقيق أقصى المكاسب المادية والمعنوية الكبرى ( مثل العلاوات والمكافآت والترقيات ) التي تقدمها وزارة الداخلية أو مؤسسة الشرطة نظير قيامهم بهذه المهمة اللاإنسانية من أموال دافعي الضرائب وعرق المجني عليهم وهو الشعب. إن التعذيب قد انتقل في ظل تفكك مفاصل الدولة وانهيار مؤسساتها من الخفاء إلى العلن أي من السجون ومقار أمن الدولة وأقسام الشرطة إلى الشوارع والأماكن العامة وبيوت المجني عليهم واكتسب بذلك أرضا جديدة تنتهك فيها عرض الوطن والمواطن. إن عددا كبيرا من المؤسسات والهيئات المكلفة بتحقيق العدالة قد تحولت إلى هيئات تابعة لمؤسسة الأمن وصارت جزءا لا يتجزأ من منظومة التلفيق والتستر على عتاة الإجرام وأرباب السوابق رغم أن الدور الوحيد لهذه المؤسسات والهيئات في الدستور هو حماية أرواح المواطنين وتحقيق العدالة بين أبناء الشعب كبيرهم وصغيرهم، ومثالا لذلك لم تعد مصلحة الطب الشرعي وغيرها من جهات التحقيق غير عنوان كبير وغطاء ترتكب في كنفه عمليات اغتيال الحقيقة وإجهاض العدالة. إن هيئات الشرطة والطب الشرعي النيابة تقف على خط واحد ومسافة ضيقة تكاد تلتصق بالسلطة التنفيذية التصاق الجنين بأمه، ولا يفصل بينها سوى خيط وهمي رفيع من الخداع. إن نظام الحكم قد انحدر مستواه وتدنى من الدفاع الناعم عن الضباط ذوي الرتب الأمنية العالية في قضايا القتل والتعذيب ( تبرئة 44 ضابطا في قشايا التعذيب ) إلى الدفاع والتستر باستماتة فاضحة وفجة عن المخبرين وأرباب السوابق باعتبارهم حائط الصد الأخير من غضبة الشعب وهم الرصيد المتبقي له بعد الطلاق البائن والقطيعة الأبدية بينه وبين الشعب في تلك المرحلة السوداء من تاريخ مصر. تعمد إخفاء القضية الرئيسية وهي فساد وتربح رجال الشرطة من مضبوطات الجهاز عن الجهات الرقابية لحماية المجرمين من قصاص العدالة، وإلا لماذا تجاهلت الجهات الرقابية ذلك الكليب الذي يكشف تورط ضباط وأمناء ومخبري قسم شرطة في إخفاء حصيلة الضبطية الأمنية وتوزيع الأموال والمخدرات فيما بينهم ؟ وما دور هذا الكليب في ارتكاب جريمة القتل ضد خالد سعيد ؟ وما هو رد فعل النائب العام على ترك الجناة ومن وراءهم طلقاء يهددون أبناء الحي ويرهبونهم لكتم شهادتهم في جريمة التعذيب والقتل ؟ تكشف هذه الملاحظ الستة والتساؤلات التالية لها عن سقوط السلم الاجتماعي وتؤذن بالزوال المحتم للسلطة القائمة على الظلم والفساد اعتمادا على القاعدة القانونية " إن العدل أساس الملك". وتشير تلك الملاحظات إلى ما يمكن تسميته بظواهر الانفلات الأخلاقي واطراد السلوك العدواني المرضي، وفي مقدمة تلك الظواهر ظاهرة شهود الزور التي تحولت من سلوك فردي إلى مهنة بديلة لشريحة معتبرة في مجتمع تتعاظم فيه ظاهرة البطالة والعصيان الوظيفي، وقد امتهن هذه المهنة البغيضة التي حذرت منها كل الديانات السماوية فئة لم تفقد دينها وضميرها فحسب، بل فسدت فطرتها وآدميتها، وتحدى مرتكبوها تحذيرات رب العزة في قوله تعالى ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور )الحج 30 . والأمر المخيف بحق أن تلك المهنة المجرَّمة لم تعد قاصرة على العاطلين وحدهم، بل شملت أصحاب مناصب ومهن كانت مهنا شريفة وإنسانية إلى وقت قريب، ثم تحول أصحابها- في معظم الأحيان-إلى عبيد يعملون كأجراء لدي مؤسسات السلطة التنفيذية. أما الظاهرة الثانية فهي تكاثر مؤسسات التخطيط والتحريض على القتل والتعذيب كالفطر في مؤسسات النظام التابعة للقيادة السياسية، وما نائب الرصاص الشهير إلا صبي ( بلية صغير ) يعبر عن طبقة عريضة نمت وترعرعت في مؤسسات الدولة الأمنية والإعلامية ودهاليز الحزب الحاكم، ويوكل إليها اليوم تخطيط وتنفيذ العمليات القذرة بداية من صناعة الحوادث إلى تلفيق القضايا والتشهير بالشرفاء وانتهاء بالتعذيب والإخفاء القسري والقتل. وهل يمكن لأي عاقل أن يصدق وقوع حوادث التعذيب والقتل خارج القانون بلا تخطيط أو تحريض ؟ وهل قتل خالد والمئات الذين سبقوه تم بالمصادفة، أو بمبادرة فردية من مخبرين جهلة !!! إن دلالة قتل خالد محمد سعيد شهيد الطواريء تكتسب كل يوم أبعادا جديدة بافتضاح نظام حكم متعصب ظل يمارس التعذيب والقتل والإخفاء القسري منذ عشرات السنين تحت ستار الطواريء حتى وصل إلى نهايته الحتمية باغتيال مرافق العدالة وتأميمها لصالح السلطة التنفيذية، ومن المرجح وفق منطق الأشياء وقانون الفعل ورد الفعل- إن لم يلطف الله بنا-أن تفتح تداعيات هذه الجريمة أبواب جهنم على مصراعيها للقصاص والانتقام المضاد خارج القانون الذي دفن آخر سطر منه في القبر بجوار الشهيد خالد سعيد. ورغم كل ما تقدم ما زالت التساؤلات تترى، عن القاتل الفعلي وفق نظرية المسئولية التي عبر عنها الخليفة عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) بقوله " لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله تعالى عنها : لِمَ لم تمهد لها الطريق يا عمر).ومن هم القتلة والمجرمون الكبار الذين يوزعون الأدوار بين صغار شياطينهم للتخيطيط والتنفيذ ونحر كل خالد سعيد في هذا البلد ثم يخفوا معالم جرائمهم بتشويه الضحية بالافتراء والتزوير بعد أن يتواروا خلف ستار غليظ من التعتيم والتضليل لارتداء قناع البراءة المزيفة ؟!!!