عندما نشرت رؤية د. عبد الله النفسي في "المصريون" يوم 13 فبراير عام 2007، بشأن ما إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين ضرورة تاريخية.. أم يمكن حلها وتحويلها إلى تيار اجتماعي.. جاءني هذا التعقيب من قارئ:"الإخوان فريضة وضرورة"! هذا الرأي أعتقد أنه لا يخص صديقنا المعقب وحده، بل هي حالة سائدة في قطاع ليس بالقليل من الوسط الإخواني عامة، فضلًا عن أنها انعكاس حقيقي لظاهرة "شخصنة السياسة" أو "شخصنة الدين"، والتي تمتد لتشمل القطاعات والفئات التي ترتبط بعلاقات "منفعة" أو "أيديولوجية" بمؤسسات الدولة الكبرى التي تتنافس على ولاء الجماهير والشرعية السياسية والدينية، مثل: "أنا المسيحية" عند الكنيسة المصرية في عهد البابا الراحل شنودة و"أنا الإسلام" عند جماعة الإخوان المسلمين! الظاهرة خير شاهد على أننا مازلنا نقف عند منعطف ما قبل "الدولة الحديثة"، حيث ينتصر الرأي العام للعصبيات بأشكالها المختلفة، فيما يتراجع الولاء للدولة لصالح الولاء للأشخاص أو الجماعات السياسية والدينية! ما يفرز ظاهرة "تعدد السلطات" الموازية للسلطة الشرعية للدولة. ولا أريد أن يستغرقني هذا الاستهلال أو يشغلني عن القضية التي أثارها النفيسي في افتتاحية مجلة "المنار الجديد"، في شتاء 2007والتي أثارت سجالًا "احتجاجيًا" على ما قدمه الباحث الكبير بين يدي الرأي العام. د. عبد الله النفيسي مفكر محسوب على التيار المتماس مع الحالة الإسلامية بنسختها "الإخوانية"، بل كان واحدًا من كوادرهم الشبابية قبل أن يقرر الاستقلال عن الجماعة، وهو حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة تشرشل البريطانية عام 1972، وعمل أستاذًا للعلوم السياسية في جامعة "أكسترا" البريطانية وبمعهد "هوفر" للعلوم السياسية في جامعة "هارفارد" ، ثم أستاذًا بجامعتي بكين وموسكو. النفيسي باعتباره محللًا سياسيًا من جهة، وعايش الإخوان ككادر من كوادرها من جهة ثانية، وعايش التجربة السياسية الغربية متأملًا تطورها وتحولاتها ومن داخلها من جهة ثالثة، فهو بذلك يمثل مرجعية ثرية ومهمة، ينبغي التعرف عليها والاستفادة منها، ومن بين ما أشار إليه تراجع فكرة "الحزب" في الغرب لصالح فكرة "التيار"، والأخيرة أعتقد أنها هي الأكثر قربًا من التجربة الفقهية والقانونية والدستورية في التاريخ الإسلامي. أئمة الفقه والقانون والدستور الكبار مثل: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله جميعًا لم يؤسسوا تنظيمًا سياسيًا، بل "مرجعيات" فقهية ترتكز على "المصداقية" في التأثير واستقطاب واصطفاف الرأي العام، وتحولوا جميعًا بمضي الوقت إلى "تيارات" في الأمة، وتم تصنيف الناس استنادًا إليهم إلى حنفية وشافعية ومالكية وحنابلة، ولا يزال حضورهم "الفقهي" رغم تراجع تأثيرهم السياسي في الحاضر يؤثر في الجميع حتى الآن، فيما شاهدت بعض فترات حياتهم عمليات صدام عنيفة مع السلطة، ليس بسبب حشد الأتباع والتلاميذ من خلال "تنظيم" يتبع سبيل نقل الأوامر من الكوادر العليا إلى الأتباع بصرامة، تحيله بمضي الوقت إلى حالة من العسكرة كما يجري الآن لدى بعض الحركات الإسلامية، بل والأحزاب السياسية أيضًا وإنما كان الصدام بسبب منزلتهم "المرجعية" وليست التنظيمية التي كان بإمكانها أن تحرك الثورات وحركات التمرد على السلطة المركزية في "بغداد" أثناء الحكم العباسي. لقد اختفى "المنصور" الذي أهان "مالكًا" وعذبه، وحبس أبا حنيفة إلى أن مات الأخير رحمه الله في السجن، وظل الإمامان الكبيران في وجدان الأمة حاضرين ك"تيار" فقهي كبير يشارك حتى الآن في صوغ الرؤى الدينية والسياسية. لقد اختفى هارون الرشيد وبقي الشافعي، وكذلك اختفى المأمون والمعتصم والواثق وبقي أحمد ابن حنبل وغيرهم.. بقوا كتيارات تؤسس لبناء فكري وثقافي وسياسي وفلسفي عظيم أبقى على هذه الأمة حية عصية على كل محاولات إخماد روح الجهاد بكل درجاته فيها. ربما تأتي أهمية دراسة النفيسي من كون ظاهرة "التيار" التي كانت موجودة قد اختفت وتراجعت كثيرًا مع ظهور فكرة تأسيس الأحزاب السياسية في بدايات القرن الماضي، فلربما أجهضت "الحزبية" مشاريع مرجعية كبيرة كانت الأمة ثرية بها، مثل محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا والكواكبي وحسن البنا وسيد قطب وغيرهم.. إذ كانوا جميعًا "مشاريع" لتأسيس تيارات كبيرة لم تكتمل، ربما بسبب الافتنان بفكرة الأحزاب كبديل لفكرة "المرجعية" الفقهية.. ولذا أعتقد أن الفكرة تحتاج فعلًا إلى مراجعة وإلى تساؤلات، ولعل اجتهاد النفيسي يكون بداية هذه الرحلة الشاقة والمضنية.. فلماذا لا نتساءل بتجرد.. ولماذا لا نجرب؟!.