ليس ثمة شك فى أن الخطاب الإسلامى الحركى والتأسيسى منذ القدم يتجاهل حقيقة لا مندوحة عنها، وهي: كيف يمكن أن نصل إلى الأممية؛ الأممية الإسلامية – ولو من خلال التدرج البطيء – ونحن غارقون فى إطار وأفكار وأوحال "الدولة الحديثة" لا نسعى للخلاص منها ولو حتى على المستوى البعيد والبعيد للغاية؟! وهو سؤال لم ينتبه له إلا قليل للغاية من المفكرين الإسلاميين فى خلال السنوات القليلة الماضية وحتى منذ الثورة وإلى الآن. إن "الدولة الحديثة" مصطلح تناوله كثير من المفكرين الغربيين بالشرح والفحص والتأمل، ويعنى بصورة موجزة سيطرة الدولة من خلال جهازها البيروقراطى على المجتمع، وفى رؤية آخرين احتكار الدولة للسلاح! وهذا المفهوم لبنية الدولة يفارق بنية الدولة فى الحضارة والنسق الإسلامي، المحصورة غالبًا فى "حماية الدين وحراسة الدنيا" غير متغولة على المجتمع، ولذلك ظلت الأمة فوق الدولة وإن صُوّر لنا التاريخ السياسى للدولة الإسلامية بصورة المؤامرات والدسائس والتى قد تنعكس بطبيعة الحال على وضع المجتمع الإسلامى وهو ما يخالف الحقيقة جملة وتفصيلاً. على أية حال هذا المقال الموجز لا يتناول الفرق الأكاديمى أو المعرفى بين القديم والجديد، بقدر ما يقارن – من الرؤية الاقتصادية – بصورة موجزة بين النظامين، ويفتح التساؤل الأكبر: هل الإسلاميون يملكون القدرة على تشريح بنية الدولة الحديثة؟ وهل يعرفون أن هذه الدولة تفارق نموذج الدولة فى النسق الإسلامي؟! هل يدركون معنى الأمة والدولة المسلمة المنشودة؟! *** كتب الدكتور جلال أمين كتابه المهم "قصة الاقتصاد المصري" منذ محمد على إلى عصر حسنى مبارك، وقد اعتمد فى هذا الكتاب على عدة مصادر قيّمة، ومن هذه الكتب وقعت يدى على كتاب "بنوك وبشوات" لدافيد لاندرز ثم الكتاب المهم "حكم الخبراء" لتيموثى ميتشل وكلها يتناول تاريخ الاقتصاد الحديث سواء من خلال تشريحه أو بصورة موجزة أو من خلال موضوعات. هذه الكتب وغيرها من الدراسات التى تؤرخ لمصر الحديثة اعتمادًا واسترشادًا على "الاقتصاد" أو التاريخ الاقتصادي، ذكرتنى ببعض الجدة والعمق فى دراسات الدكتور عبد العزيز الدورى مؤرخ العراق الكبير وأسبقيته فى حديثه الماتع من خلال دراسات عدة عن "التاريخ الاقتصادي" للدولة العباسية. إن مقارنة بسيطة بين الوضع الاقتصادى للدولة الإسلامية فى عصرها العباسى "كمثال" ومقدمات الدولة الحديثة فى مصر محمد على وأبنائه تبين لنا على مستوى الدولة الإسلامية ونظامها ما يلي: 1- أن الدولة الإسلامية ظلت حتى القرن التاسع عشر محتفظة بنظامها الاقتصادى المستقل غير متأثرة بالقوة الرأسمالية التى تصاعدت منذ بروز شركات الهند الشرقية الهولندية والبريطانية فى القرن السابع عشر والثامن عشر، وعمليات التجارة والاستعمار الاقتصادى للبرتغال وإسبانيا فى نفس التوقيت تقريبا من خلال تطويق العالم الإسلامى من إندونيسيا شرقا وحتى المغرب وأفريقيا الغربية الإسلامية غربا. 2- إن الدولة الإسلامية غلب فيها النظام الاقتصادى المجتمعى فظلت الأمة من خلال سيطرتها على التجارة عاقدة العزم على احترام القاعدة الاقتصادية الأشهر الطلب يخلق العرض. 3- إن النظام الأخلاقى الإسلامى والقواعد المعاملاتية النبوية والفقهية ومنظومات القضاء الشرعى كانت الكفيل باستمرار هذا النمط من الاقتصاد وفض منازعاته والاجتهاد فى سد ثغرات نوازله ومن ثم تطوره وتشعبه وازدهاره من خلال سهولة الحركة فى إطار "الأمة الواحدة" التى لا يفصل بينها فاصل. 4- إن الدور الاقتصادى للدولة الإسلامية لم يتعد - غالبًا - حماية المنشآت والأفراد وطرق التجارة، وصيانة الأوقاف، والإشراف على مصارف الزكاة وطرائق إنفاقها واستثمارها. 5- إن هذا النمط قد أثمر ينعه وحصاده على المستوى التقنى والحضارى فى الدولة العباسية فرأينا التنوع والتقدم بمعناه المادى الضيق الآن فضلاً عن الأخلاقى والإنساني. 6- لم تقم الحروب فى الدولة الإسلامية من أجل السيطرة على مقدرات الأمم، والهيمنة عليها - سواء كانت الحرب بالمعنى الاقتصادى الضيق أو بالمعنى العسكرى المصاحب - بل استغل أهل كل إقليم ثرواتهم وكانت العلاقات التبادلية هى الأصل فى رواج الاقتصاد ومن ثم الحضارة. أما على مستوى الدولة الحديثة فكانت أبرز النتائج ما يلي: 1- كانت القاعدة هى العكس، فبدلاً من أن الطلب يخلق العرض، فقد كان ولا يزال العرضُ يخلق الطلب. وهذه القاعدة التى قام باختراعها الرأسماليون "المستثمرون" الفرنسيون والإنجليز كانت السبب فى إقناعنا بشق قناة السويس وتدمير أهم عناصر الاقتصاد المصرى بجلب الفلاحين للقناة وتدهور الزراعة وعلى رأسها القطن ثم الاحتلال ثم احتكار القطن وصناعته ثم تطلب الأمر استخدام التقنيات الحديثة فكانت الديون خلف الديون خلف الديون منذ عباس الأول وسعيد وإلى الآن! 2- لتدمير مقومات إمارة مصر كان عليها أن تنسلخ من الخلافة العثمانية فتضعف الاقتصاد العثمانى وتقع فريسة للمرابين، فكانت القاعدة الثانية الانفصام عن الأمة فى إطار "المجتمع المتخيل" أو الدولة القومية بمعناها الرومانسى - أشار د. خالد فهمى فى كتابه "كل رجال الباشا" إلى دراسة بندكت أندرسون "مجتمعات متخيّلة" وأثر هذه النظرية على مجموعة من البشر فى إطار جغرافى ما وإقناعهم أنهم شعب واحد لهم صفات معينة وتاريخ معين! 3- كان تمزيق جسد الدولة الإسلامية بعد إنشاء ما يسمى "بالمجتمعات المتخيلة" من خلال اتفاقية "سايكس - بيكو" هى القاصمة فى تدمير الاقتصاد المصرى ومن ثم الإسلامي. 4- كانت سيطرة الدولة أو ثلة ما على اقتصاد هذا المجتمع المتخيّل/مصر منذ الاحتلال والطبقة الليبرالية الإقطاعية فى ظلاله وهم "البشوات" ثم العسكرية العسكر وإن تغلّفت بالناصرية وهيمنة الدولة الطاغوت، ثم على ما يبدو "الإسلاميون الحداثيون" وتقديم فروض الولاء والتبعية للمؤسسات المرابية الحديثة التى اتخذت من البنك الدولى وصندوق النقد وما شابه مسميات حديثة لمنظومة "الإمبراطورية الرأسمالية الشركاتية" هى قمة اللحظة النماذجية التى تماهت فيها منظومة الاقتصاد "الإسلامي" - إن ظل لها أثر! - فى إطار المنظومة العالمية التى لا تختلف كثيرًا عن "شركة الهند الشرقية الإنجليزية" فى القرن السابع عشر! 5- ستستمر سيطرة المرابين على العالم بهذا النمط من "الرأسمالية المتوحشة" - لا يردعه ولا يوقفه إلا أمر واحد فقط ثبت نجاحه هى الحرب والقوة العسكرية، وكل ما يقال عن بناء الأمة فى إطار النظام العالمى المتمركز والمنطلق من المرابين وأشياعهم فى الغرب هو كلام تافه لا يثبت أمام الحقائق التاريخية والمقارنة بين "الاقتصاد فى إطار التجربة الإسلامية" و"الاقتصاد فى إطار النظام الرأسمالى الغربي" ودور كل منهما فى تشكيل الغايات الكبرى للأمة المسلمة. 6- الديون والقبول بها والسعى لها إنما هو اعتراف حقيقى وضمنى بقبولنا واستمرارنا فى المنظومة العلمانية التى يتحكم بها الغرب والغرب وحده. الخلاصة: ظل الخطاب الإسلامى الحديث متمركزًا ومتمحورًا حول السياسى بمعناه الأداتى والإجرائى الضيق ولا يزال وهو يحسب أنه يُحسن صنعًا، ونسى أو لعله تناسى منظومة الاقتصاد ودورها الأصيل فى بنية الدولة الحديثة، وفى إطار السياسة والاقتصاد بمعناهم ومبناهم الحداثى فلا يمكن أن تقوم دولة/أمة إسلامية فى الإطار التغريبى الاستعماري. [email protected]