عندما استهدفت لندن بسلسلة انفجارات أودت بحياة العشرات ، لم نسمع خلال الأيام الثلاثة الأولى التي تلتها ، أن الشرطة البريطانية قامت بعمليات دهم و اعتقال الألاف ، بل تريثت و لم تأخذ الناس بالشبهة و بشكل اعتباطي ، و إنما تعاملوا بحرفية عالية و هدوء ، و عقلانية عكست تقاليدا و أعرافا حضارية متأصلة في الشعب الإنجليزي لم يدعيها ، إذ لم يتغن مثلا بأنه ابن حضارة عمرها عشرة آلاف عاما ، و وقت الاختبار الحقيقي يظهر بمظهر الهمجي الذي لا دين له و لا إرث حضاري و لا أخلاق . الشرطة البريطانية لم تعتقل أكثر من إثنين أو ثلاثة ، و توصلت في وقت قصير إلى معلومات مهمة ، بلا صلب أو تعليق أو تعذيب أو نصب سلخانات لعشرات الألاف من الشعب البريطاني . أما ما يحدث في مصر فإنه لا علاقة له بالحرفية الأمنية ، ففي سجونها خيرة شبابها ، أخذوا بالشبهة ، بعضهم مكث بالسجن ما يقرب من خمسة عشرة عاما ، بلا جريرة أو ذنب .. فقط لتبنيه أفكارا اعتبرتها الحكومة "متطرفة" ، بل إن الكيميائي المصري مجدي النشار الذي أشتبه في وجود علاقة له بإنتحاري لندن ، صدر بيان رسمي مصري ، بتبرئته من وزير الداخلية و من وزير الخارجية ، و مع ذلك لا يزال الرجل معتقلا ، و لا ندري ماذا يجري له خلف الجدران ، خاصة و أن الكل في مصر يعرف أن دخول مقار مباحث أمن الدولة ليس مثل الخروج منه . و في سيناء بعد تفجيرات طابا و شرم الشيخ تعرضت القبائل السيناوية للبهدلة و إهدار الكرامة واعتقل شيوخها و نسائها و أطفالها و احتجزوا كرهائن ، و لم يطلق صراح شبابها و كانوا بالألاف ، إلا بعد أن تظاهرت النساء و الزوجات و الأمهات أسبوعيا متحديات القمع البوليسي ، حتى باتت سيرة النظام القمعية على كل لسان . لقد ترك النظام للأمن التعامل مع القبائل و العشائر السيناوية ، فيما غاب التعاطي السياسي من قبل السلطة ، ما أدى إلى تفاقم الأزمة ، و تحولت القضية إلى قضية ثأر بين النظام من جهة و بين البدو من جهة أخرى ، و عمقت من مشاعر التهميش و الاضهاد السائد في ضمائر و وجدان الشعب السيناوي ، و نقمته على السلطة المركزية في القاهرة . لم يدرك نظامنا السياسي خطورة التعامل بهذه الطريقة مع أهل سيناء ، تلك المنطقة الحدودية الملاصقة للعدو الصهيوني ، و كيف يؤدي الغباء الحكومي في تقدير أهمية هذه المنطقة السكانية ، و الاستخفاف بمشاعرها ، و حذفها من اهتمامات الخطط التنموية ، و تحويلهم إلى مجرد خدم يقتاتون من الفتات الي تلقيها لهم الأفواج السياحية .. لم يدرك النظام أن ذلك كله يؤثر بالسلب في مسألة الولاء عندهم ، خاصة أنها منطقة قد تتنازعها الكثير من القوى و الإغراءات مستغلة الغباء السياسي لرجال الحكومة و انشغالهم بالبورصات و البنوك و الشيكات و البزنس الخاص ، لفصل هذه المنطقة وجدانيا و ولائيا عن الوادي الذي يؤذيها بشرطته و يتعالى عليها و يحرمها من خدماته . و نحن الآن في عصر بات كل شئ فيه ممكنا ، ومن أراد أن يتعظ فإن العراق و السودان يكفيانه