حين تذكر جملة (معلبات لفظية) ستتذكر على الفور تاريخ وزير خارجية مبارك عشر سنوات وأمين الجامعة العربية فى أسوأ أوقاتها عشر سنوات أخرى.. هو بالفعل تاريخ طويل من الخواء والكلام "المزفلط" على رأى أحمد فؤاد نجم فى مثل هؤلاء البشر.. لم يخطئ الراحل جمال الغيطانى حين وصفه وصفًا "جارحًا"وينقلون عن عمر سليمان، أنه قال أثناء الانتخابات الرئاسية 2012 إنه على استعداد للعمل لصالح البلد مع أى أحد إلا عمرو موسى. فى مؤتمر عقدته مكتبة الإسكندرية الأسبوع الماضى قال(إن الحديث عن أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة بات كلامًا فارغًا نحن نتحدث عن عالم عربى فيه المسلمون والمسيحيون والسنة والشيعة والعرب والأكراد والأمازيغ) وشر الكلام ما ناقض بعضه بعضًا كما يقولون فما ذكره أبو الفوارغ من تعدد هو ما يعطى هذا الجمع البشرى صفة الأمة . المؤتمر كان عنوانه (الأمن الديمقراطى فى زمن العنف والتطرف)العنوان كما ترونه شديد الهزال وجملة الأمن الديمقراطى تذكرك بالأمن الغذائى والأمن الإعلامى والأمن السياسى.. ألفاظ بلا معان.. الديمقراطية ثقافة وسلوك متنام ووعى بالحقوق والواجبات وتعدد أراء وتناوب سلطة. المؤتمر كان بالأساس هجومًا على الثوابت والقواعد الأساسية للعروبة والإسلام دعك من كلمة عنف وتطرف وإرهاب وكل هذه المصكوكات اللغوية العارية من أى مدلول يتفق الناس عليه.. وهذه سياسة مكتبة الإسكندرية على فكرة من أول يوم لها حين تأسست عام 2002 وطبعًا صاحبنا عرف أن الغناء سيكون على أى مقام سيكا أم نهاوندى أم بياتى فاختار لحنًا يناسب المقام وقال تصريحه السقيم المتناقض عن الأمة العربية الخالدة ويقال إنه ذكر من قبل أنه ليس هناك أمة عربية هناك أقطار عربية على طريقة هنرى كيسنجر مع الصراع العربى الإسرائيلى وتحويله إلى صراع فلسطينى اسرائيلى. ونحن فى النهاية أمام إنسان لا ينتمى لا للأمة ولا لثقافتها ولا لحضارتها نحن أمام إنسان ينتمى لنفسه ونفسه فقط ولا علاقة لنا بما تتداوله الأخبار عن سيرته الذاتية والعائلية وامتداداتها هنا وهناك المشكلة أنه عرض نفسه لموضوع أكبر منه ومن إدراكه المعرفى والفكرى وهو موضوع الأمة. صحيح أننا الآن فى زمن الحق الضائع حيث رؤوس الناس على جثث الحيوانات ورؤوس الحيوانات على جثث الناس كما قال الراحل صلاح عبد الصبور لكن على الأقل كان يجب على أبو الفوارغ أن يتكلم على مقاس ثقافته . والأمة كما تعرفها المعاجم هى جماعة من البشر تتوفر فيها عناصر القومية: التاريخ – اللغة – العادات – الثقافة - الدين – الجغرافية وهى ترمز إلى النواحى الثقافية والحضارية للمجموعة الإنسانية. وهى كل الأجيال السابقة والمعاصرة واللاحقة والحاضر والمستقبل وهى تسمو على الشعب الحالى للدولة ووجودها يسمو على وجوده لأنها توجد قبله ومعه وبعده أى أنها مستمرة وخالدة . سيكون علينا أن نعرف جيدًا أن الجملة التى وصفها أبو الفوارغ بأنها كلام فارغ هى من درر الكلام الذى تركه ميشيل عفلق العروبى المسيحى الأرثوذكسى (1910-1989) مؤسس حزب البعث العربى والذى جعل شعاره (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) . وقد كثر الحديث عن إسلام ميشيل عفلق فور وفاته بل ودفن ببغداد كما يصلى على المسلمين ويدفنون استجابة لوصيته . الدكتور محمد عمارة ذكر فى كتابه(التيار القومى الإسلامى)اعتناق ميشيل عفلق الإسلام وأن ذلك كان مرافقًا ومصاحبًا لتطور نوعى مهم عن مكانة الإسلام بمشروعه الحضارى إذ كانت القضية أكبر من اهتداء قائد ومفكر إلى دين الإسلام حتى غدت تحولاً فى المشروع القومى الذى صاغه هذا المفكر. فاعتناقه للإسلام تجسد فى مشروعه الفكرى الذى ولد علمانيًا لكنه تطور إلى احتضان الفكرة الدينية خصوصاً بعد عزله عن قيادة الحزب فى سوريا من طرف العناصر العسكرية التى اخترقت الحزب وانتقاله إلى العراق سنة 1975. غير أن حضور الإسلام فى مشروعه الفكرى والحضارى لم يتضمن ذلك الجانب الغيبى رغم أنه يدعو إليه ويحبذه ويراه ضروريًا كشأن إيمانى فردى يحمى الإنسان من ضياع الإلحاد لكنه تضمن ذلك الجانب الذى يعده مرجعاً فى النهضة وخصوصية يتميز فيها ويمتاز بها عن غيره إنه الإسلام: الحضارى الذى جسدته الأمة العربية عندما آمنت بدين السماء إنه الإسلام كتجربة بشرية أرضية متفاعلة ومؤمنة بدين الله ووحى السماء.. هكذا قال العلامة الكبير د. عمارة عن علاقة ميشيل عفلق بالإسلام . لكن حديث عفلق عن الإسلام والأمة الإسلامية ونبى الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم كان مبكرًا فى الحقيقة فيرصد المتابعون للحركة البعثية أنه قال خطابًا فى الجامعة السورية عام 1943 كان مليئًا بوشائج الارتباط بين الإسلام ومشروعه الإحيائى إذ قال(فعلى الرغم من عجز أى رجل مهما بلغت عظمته أن يعمل ما عمل محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يمكنه فى نفس الوقت أن يكون نموذجًا مصغراً لمحمد ما دام ينتمى إلى الأمة التى حشدت كل قواها فأنجبت محمدًا .. أو بالأحرى ما دام هذا الرجل فردًا من أفراد الأمة التى حشد محمد كل قواه فأنجبها فاليوم يجب على الأمة أن تقتفى أثر نبيها العظيم وهو ما اختزله فى عبارة جامعة بالغة التأثير يقول فيها: كان محمد كل العرب.. فليكن كل العرب اليوم محمدًا). من أجمل الكلمات التى قيلت فى هذا المؤتمر الأمنى الديمقراطى كلمة الرئيس الأسبق أمين الجميل عن الأزهر وشيخه الجليل الدكتور أحمد الطيب الذى وصفه بأنه (كان أول من أيد مفهوم الحقوق المدنية والديمقراطية من خلال مؤسسة الأزهر حيث بلور فكرة الحقوق الديمقراطية والمدنية وسعى إلى تحقيقها من خلال ميثاق الأزهر). أبو الفوارغ عجز عن أن يقول كلمه مثلها وتحسب له بعد كل الهراء والعبث الذى عاش به وله .. فضميره كما يقولون ملفوف فى قطعة قماش مكتوب عليها نفسى نفسى.