عندما قامت قوات الاحتلال الأمريكى بتدمير قبر ميشيل عفل فى بغداد 2003 ، فإنها لم تكن تستهدف الرجل بل الفكرة والمعنى التى بث فيها صاحب القبر الروح وغرسها غرسا متينا فصارت كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء، أرادت قوات برابرة العصر محو قومية العرب، كما قامت من قبل بمحو قومية الهنود الحمر فى حرب إبادة استخدمت فيها كل ألوان القذارة الإمبريالية والتى وصلت حد إهداء بعض القبائل بطاطبن ملوثة بالفيروسات لتتولى هى مهمة الموت البطيء ليفنى أصحاب الأرض ويبقى المحتلون. كان لعفلق الفضل والسبق فى بلورة فكرة القومية العربية فى إطار شمولى درس ثوابت التاريخ والجغرافيا، فلم يصطنع خصومة بين العروبة والإسلام بل ألف بينهما وهو يؤكد أن القومية العربية تختلف عن كل قوميات العالم فى مرجعيتها الدينية، وحذر من الرجعية الدينية بوصفها أخطر ما يكون على الدين. ولد ميشيل عفلق فى دمشق لعائلة متوسطة تدين بالأرثوذكسية، ونشأ فى حى الميدان، حيث كل شىء أعده القدر ليبث فى نفسه الفكرة، صورة اعتقال والده على يد السلطة العثمانية، أجواء الثورة السورية على الاحتلال الفرنسي، وتعلم أبجدية الوطنية والانتماء من خلال والده يوسف عفلق الذى كان أحد الوطنيين السوريين الذين شكلوا حزب الكتلة الوطنية لوضع دستور لسوريا 1928 . ونما عنده إحساسه بالقومية العربية من خلال قراءاته فى آداب العرب وتاريخهم، خصوصا وأنه قد درس التاريخ فى جامعة السوربون. وفى باريس كان يلتقى الطلاب العرب ويحاورهم حول مصير الأمة فكان يقينه يملى عليه أن الوحدة العربية هى البديل عن التشرذم والحرية هى البديل عن الاستعمار الأجنبى والاستبداد الداخلي، وأن الاشتراكية هى السيف الذى يشهر فى مواجهة الإقطاع. تجاوب معه العديد من الطلاب، خصوصا صديقه صلاح البيطار وتعاهدا على العمل من أجل هذه القضية وأن يهبا حياتهما لها عندما يعودان إلى الوطن. وإلى سوريا عاد عفلق والبيطار عام 1933 ليقوما بالتدريس فى أكبر مدارس دمشق، وبعد فترة تفرغ عفلق للكتابات السياسية والفكرية لنشر فكره القومى وانضم إلى الجمعية العربية السورية التى تطالب بالاستقلال والدفاع عن قضية فلسطين والوحدة العربية الشاملة، كما انضم إلى الجمعية الثقافية العربية التى تعنى بآداب العرب ونتاجهم الفكري. وفى مطلع الأربعينيات قام الأستاذ ورفيقه بتكوين أول جماعة سياسية منظمة باسم «الإحياء العربي» وصدر البيان الأول عنها عام 1941، وقامت هذه المنظمة بدعم انتفاضة العراق وتشكيل كتائب نصرة العراق، وقاد عفلق المقاومة ضد الفرنسيين حين قصفوا دمشق عام 1945، وقاد المتطوعون فى فلسطين 1948، وفى 1947 أقام عفلق المؤتمر التأسيسى الأول للحزب، حيث أقر دستور الحزب ونظامه الداخلى وانتخب عفلق عميدا للحزب. وقد تعرض داخل سوريا للكثير من الاضطهاد وحكم عليه بالسجن لمدة 6 أشهر وهو عائد من ساحات القتال فى فلسطين ولوحق كثيرا فغادر سوريا إلى لبنان ومع نشوب الحرب الأهلية بها تركها إلى العراق حيث استقر بها حتى وفاته. فى عام 1952 تم دمج حزب البعث مع الحزب الاشتراكى تحت اسم البعث العربى الاشتراكى وانتشرت فروعه فى كل الدول العربية. الإسلام والعروبة فى فكر عفلق تأسس هذا الحزب رسميا عام 1947 على يد كل من ميشيل عفلق وصلاح البيطار اللذين أنهيا دراستهما فى السوربون وعادا إلى سوريا عام 1933. فعملا بادىء الأمر على تأسيس حركة الإحياء العربى التى أصدرت بيانها الأول 1941. ثم تم تأسيس الحزب بانعقاد مؤتمره الأول فى دمشق 7 إبريل 1947 وانتخب ميشيل عفلق عميدا له. وتأسس الحزب تحت شعار " أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ". وتجلت أهداف الحزب فى مجابهة الإمبريالية وإقامة النظام الاشتراكى العربى. وقد عمل الحزب منذ تأسيسه على إنشاء فروع له فى مختلف الدول العربية. فى عام 1952 اندمج حزب البعث العربى مع الحزب العربى الاشتراكى الذى كان يرأسه أكرم الحورانى فى حزب واحد أصبح اسمه حزب البعث العربى الاشتراكى وعقد أول مؤتمر للحزب 1954. خلال الفترة من 1955 - 1958 كان حزب البعث من أبرز الداعين إلى وحدة سوريا ومصر. وقد تولى البعث حكم سوريا منذ عام 1963 وحتى الآن بينما تولى الحكم فى العراق من يوليو 1968 وحتى سقوط نظام صدام حسين فى 9 إبريل 2003. كان عفلق معارضا لفكرة الشيوعية، حيث قال: «لقد رأت أنه طالما استخدم الدين خلال التاريخ لإبقاء الاستغلال ودعمه.. رأت الماركسية أن تنسفه نسفا.. لقد رفض عفلق الإلحاد، وكان يرى أن الإلحاد ظاهرة مرضية أسبابها الفساد الاجتماعى والظلم، لذا استشهد بقول النبى الكريم «كاد الفقر أن يكون كفرا» وكان يرى أن الدين فى صميم القضية العربية والمواطن العربى الذى نعمل لتكوينه كما رفض عفلق الرجعية الدينية ووصفها أنها أكبر خطر على الدين . كان عفلق ومنذ الوهلة الأولى يدرك أن الإسلام جزء أصيل من مشروعه القومي، وهذا ما أكده فى تلك المحاضرة التى ألقاها فى المدرج السورى فى 5 من أبريل 1943». الإسلام أعطى للأمة العربية مسئولية الدور الإنسانى العظيم، وأعطى العرب مذاق الخلود وطعم الحياة الحقيقية، التى هى جهاد قبل كل شىء، وفكرة ومبدأ وعقيدة، ولا خوف على العروبة مادامت مقترنة بالإسلام. إن الإسلام هو الذى حفظ العروبة وشخصية الأمة فى وقت التمزق والضياع وتشتت الدولة العربية إلى طوائف وإلى ممالك ودويلات عدة متناحرة، وكان مرادفا للوطنية وللدفاع عن الأرض والسيادة والداعى إلى الجهاد أمام العدوان والغزو الأجنبي. وسيبقى دوما قوة أساسية محركة للنضال الوطنى والقومي، وهو الذى خرجت من صلبه، ومن حركة التطور التاريخى فكرة القومية العربية، بمفهومها الإنسانى السمح، وهو الذى يحيط الأمة العربية بسياج من الشعوب المتعاطفة معها. ما حقيقة إسلام عفلق؟ توفى عفلق فى يونيو 1989 لتظهر مفاجأة حاول إنكارها البعض وهى إسلام عفلق ، لكن أسرته قطعت الشك باليقن عندما انبرى ابنه إياد مؤكدا عثوره على رسالة خطية بيد والده كانت موجودة فى مصحف ومؤرخة ب 12 -7 – 1980 وكان والده قد كتبها أثناء وجوده على متن طائرة تعرضت لعطل فنى فى الجو، قال فيها «إذا حصل لى حادث فإنى أموت على دين الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»، ووقع على الرسالة باسم أحمد ميشيل عفلق. عفلق يتنبأ بالثورة على نظام الأسد فى 7 من أبريل 1988 وبمناسبة الذكرى الحادية والأربعين لتأسيس حزب البعث العربى الاشتراكي، ألقى عفلق خطابا تنبأ خلاله بضرورة ثورة الشعب السورى على نظام الأسد، وفيما يلى نص الخطاب: «إن للأوضاع العربية السلبية ركائز تجسدها. وقدكان نظام حافظ الأسد على امتداد العشرين سنة الأخيرة، يمثل ذروة السلبية فى هذه الأوضاع، وكان دوره بالنسبة إلى القضية الفلسطينية وموقفه من العراق فى مواجهته للعدوان الإيراني، مشابها لدوره داخل سوريا وفى لبنان. أنه الدور الشعوبى والانتهازي، الذى بدأقبل كل شىء بالردة على البعث والتنكيل بمناضليه وبشعب سوريا وذبح الألوف من أبنائه. والسؤال الكبير الذى يطرح اليوم: كيف يتمكن هذا الشعب المناضل حتى الآن من إسقاط هذا النظام المتسلط عليه؟ إن هذا النظام الذى عطل دور سوريا القومي، يستمد بقاءه من خدمة مخططات الأعداء، سواء بالتآمر على الثورة الفلسطينية ومحاولة شق منظمة التحرير ومحاصرة المخيمات فى لبنان، أو بالعمل على عرقلة مهامه القومية بالانحياز إلى إيران المعتدية، أو بالتفنن فى الإلهاء عن المعركة مع العدو بصراعات داخلية مع العرب، أو بتوظيف نفسه للدفاع عن الكيانات والمصالح التى تعيش على ضعف الأمة وعلى حالة التخلف والتشرذم والتجزئة. لكن ثقتنا بشعب سوريا وبأصالته الوطنية والعربية، إضافة إلى حالات النهوض القومى فى العراقوفلسطين التى تؤشر بداية النهاية لعهدالتردى وأن هذا البلدالذى كان رائد القومية العربية منذ بداية القرن، والذى ضرب الأمثلة فى مقاومة الاستعمار الأجنبى هذا الشعب الأبى لا يمكن أن يتنكر لطبيعته وقدره ولدوره فى نهضة الأمة. ولن يتأخر اليوم الذى ينهض فيه ليمحو العار الذى ألحقه بسوريا حافظ الأسد ونظامه، ليفتح عهدا جديداً أو انطلاقة وطنية تعوض عن الفترة الطويلة التى غيب فيها شعب سوريا عن مسرح العمل القومى.