درست في كلية العلوم بعضاً من (العلوم الأساسية)، كالكيمياء، وعلم النبات، وعلم الحيوان، وكنت - في أوقات كثيرة، أجد من يسألني عن جدوي هذه العلوم، التي لا فائدة مباشرة محسوسة لها، كالهندسة والصيدلة والطب، وكان من الصعب إقناع معظم السائلين بأن هذه العلوم هي أساس النهضة العلمية والتكنولوجية في حضارة البشر الحديثة. ولم أكن أضيف أنها تشكل عقليات دارسيها، وتعينهم علي النظر بموضوعية وشمولية إلي الحياة. وأنا أجدُ من المفيد، في أحيان كثيرة، أن أستعين بأدوات العلوم لأتأمل أحوالاً وظواهر اجتماعية وسياسية، يغرق من يتناولونها في تفاصيل جدلية مستهلكة للوقت مهلكة للجهد، وحين أقترب إليها من منظور علمي أحصل علي درجة أكبر من وضوح الرؤية، وتتخلص الحقائق من زوائد راكمها فوقها المتجادلون بخلافاتهم العقيم ورغبتهم في احتكار الحقيقة وهم لا يمتلكون، أصلاً، مفاتيح الولوج إليها. وقد أخضعتُ، مثلاً، ظاهرة الفساد للتأمل العلمي، واستخلصت علاقة بين هذه الظاهرة المقيتة المدمرة، وظاهرة طبيعية تعرفها علوم البحار، هي الطوف الجليدي، أو جبل الجليد العائم. فكلا الظاهرتين مدمر، ولا يظهر منه إلاَّ جزء لا يعبر عن حجمه الحقيقي، ويتحكم في حجم الجزء الظاهر من جبل الجليد عوامل كيميائية وفيزيقية، من درجة ملوحة، ودرجة حرارة، وكثافة نسبية، تتفاعل جميعها لتحدد في النهاية حجم الجبل ككل، والجزء الأصغر الذي يبدو للعيان، بينما الأضخم يتخفي في ظلام الأعماق. وحاول صديقي القارئ تأمل ظاهرة فساد الجهاز الحكومي مثلاً في ضوء هذا التشابه، تجد أن الظاهر منه لا يتعدي الخُمس، وهي الحالات (المفضوحة) أو التي فاحت روائحها غير السارة، أما أربعة أخماسه فمستتر، متماسك، راسخ، يصعب القضاء عليه، لأن له تقاليده وثقافته التي تحفظ له وجوده منتشرا بين قاعدة عريضة جداً، من وظائف القيادات الوسطي وصغار الموظفين المتعاملين مع الشأن اليومي لخلق الله. وألجأ أيضاً، إلي علوم الحياة، كعلم النبات، مثلاً، وأُروح اتأمل ما حولي كأنني أتفحص قطاعاً عرضياً في ساق نبات تحت المجهر. وأعتقد أن جانباً كبيرا من أزمتنا الحالية راجع إلي اجتزاء الرؤية للحوادث والتداعيات والموجودات التي تشكل المشهد الاجتماعي والسياسي العام، فكل من يتعرض لهذه الأزمة يعالجها وهو لا يري إلا جانبا محدودا منها، وقد يكون ذلك عن قصد، ولكن - إن أحسنا الظن - هو عن عجز، أو جهل، وكلا الحالين سيئ مخجل. ويندر أن تعثر علي من يعالج الأمور ولديه منظور متكامل، يشبه القطاع العرضي في ساق النبات، حيث يمكنك أن تكشف كل أنواع (الأنسجة) المكونة للساق النباتية، ويتحدد أمامك (حجم) كل نسيج، ومدي حيويته، فتطمئن، أو لا تطمئن، إلي أن (فسيولوجيا) النبات سليمة، فالأنسجة الجيدة تؤدي وظائفها علي وجه مُرْضٍ. فإن أردتَ التركيز علي نسيج بعينه في الساق، من أجل نظرة مدققة واقتراب أشد، فعليك بالقطاع الطولي، الذي يستغني عن إظهار تفاصيل كل الأنسجة، مركزاً علي نسيج أو اثنين، متتبعا أحوالهما علي مدي أكبر. وفي أحيان كثيرة تهديني ذاكرتي المتهالكة أشياءً اختزنتها سنوات طويلة، تلتمع فجأة من تحت أتربة الزمن وطيات النسيان، وأحدث هذه الهدايا النادرة فكرة (الخطوة المحددة لسرعة التفاعل) أو rate-determining step، التي يعرفها دارسو فرع من الكيمياء، هو الكيمياء الطبيعية، وهي تحاول تفسير مجريات أحداث تفاعلات مركّبة. فقد كنت غارقا - كحال الغالبية العظمي من المصريين - في حيرة شديدة إزاء ما يجري في الوطن من أحداث بعد ثورة يناير 2011، فانتشلتني هذه الفكرة من حيرتي، فالخطوة المحددة لسرعة التفاعل الكيميائي ترتبط بتفاعلات معقدة، يشترك بها ويتداخل فيها عدد كبير من جزيئات المركبات الكيميائية. وهنا وجه شبه بتفاعلات مجتمعنا المعقدة، التي يتفاعل، أو (يتناحر) فيها عدد كبير من المركبات، آخذ في التنامي (لاحظ، مثلاً، أن عدد ائتلافات شباب الثورة تجاوز المائة والعشرين ائتلافاً !). وتختلف جزيئات المركبات الكيميائية فيما بينها من حيث (ميولها) للارتباط أو التفاعل، بعضها ببعض، فإن اجتمع في وسط التفاعل أكثر من مركب، تدخلت الميول الشخصية للمركبات في تحديد (من) من المركبات يبدأ بالتفاعل مع (من)، ويصعب شرح طبيعة هذه الميول، ولكنها ترتبط بتوزيع الإلكترونات في المدارات الخارجية لذرات المركبات المختلفة، وبالتالي بقوة وطبيعة الشحنة الكهربية التي تحملها، وهو ما يمكن أن يقابله في عالم التفاعلات، أو الصراعات، المجتمعية البشرية اختلافات النزعات والتوجهات. فإن كان لدينا في وسط التفاعل خمسة مركبات، مثلاً، وافترضنا أن تلك الميول حددت أن يبدأ المركب رقم (1) بالتفاعل مع المركب رقم (5)، فإن التفاعل يحدث، ويتخلف عنه : مركب جديد، أو أكثر، كما ينتج عنه كمية من الطاقة تقدح زناد تفاعل تالٍ، بين المركب (2) و (4)، مثلاً، بنواتج مماثلة، وقد يزيد فيعطي - إضافة إلي الطاقة - أصوات فرقعة، أو فوراناً، أو دخاناً خانقاً، أو لساناً من لهب. ولا يجد المركب رقم (3) نفسه إلا متفاعلا مع ناتج تفاعل (2) و(4)، وهكذا .. تستمر السلسلة إلي أن ينتهي التفاعل، ويخمد كل ما تولد عنه من ظواهر استثنائية، ويتبدي، بين الرماد، الناتج المرتجي، ينتظر يداً تمتد إليه لتزيح عنه رماد التفاعلات، لتتجلي حقيقته للناظرين. لكن ذلك قد يطول زمناً أكثر من الزمن الذي تستغرقه التفاعلات الاعتيادية، ويعتمد هذا الزمن علي طول خطوة، هي كلمة السر .. إنها الخطوة المحددة لسرعة التفاعل. فإن آمنَّا بما تقوله الكيمياء الطبيعية، فإن تفاعلنا المتسلسل المعقد تدور رحاه الآن، وإن الخطوة المحددة لسرعته قادمة، لا محالة، فقط .. علينا أن ننتظرها، صابرين آملين.