وُلِدت فكرة كتابة المذكرات، في عقل د. لوتس عبد الكريم، في مدينة مكةالمكرمة، حين كانت في رحلة إيمانية، وسيطرت عليها هواجس النهاية، وتذكرت قول أديب مقرّب إلى روحها هو ميخائيل نعيمة، وذلك حين قال: «إنني جاهز للرحلة، معي جواز السفر، وبه فيزا الدخول إلى العالم الآخر، أنا بالباب أنتظر دوري، لا أستطيع التكهن بمرحلة الترانزيت، ولكنِّي أستعد للمساءلة، وقد انتهيت تمامًا من كل عقبات الحياة وإجراءات السفر»، لكن الدكتورة لوتس عبد الكريم شعرت حينها بأنها لم تقل كل شيء، ولم تنجز ما وعدت نفسها به، فدفعتها محبتها للحياة إلى التفكير في جردة حساب لحياتها: متى وكيف ولماذا؟ وما الهدف؟ فكانت هذه السيرة التي لا تخص صاحبتها الدكتورة لوتس عبد الكريم وحدها، بل تخص جزءًا من تاريخ الأمة مصريًّا وعربيًّا، حيث كانت شاهدة على العديد من الأحداث الكبرى التي مرّت بها المنطقة وكيفية تشكّل الحياة الدبلوماسية العربية، فضلًا عن أسرار المرحلة الملكية وخفاياها وألغازها، وخالها أمين باشا عثمان، وحادث اغتياله، وقيام ثورة يوليو 1952م وجمال عبد الناصر، وعلاقتها الأسرية بعائلة الزعيم، وكيف كانت مصر في هذا الوقت والطموح على المستوى السياسي، قاسية صارمة على المستوى الإنساني، فالثورة لم تتسامح مع مَن وقف ضدها، أو مَن قامت ضدّهم، ما خلق لها أعداء كثيرين، عرفتهم الكاتبة الدكتورة لوتس عبد الكريم. لكن الاختيار، وكل اختيار، له ثمن وتقطعت السبل أحيانًا، وبرزت الصعوبات والمهالك ومواجهة العالم الذي يتشكل في النصف الثاني من القرن العشرين ليست سهلة، لكن الثقة بالنفس والإصرار على النجاح دفعا صاحبة السيرة للنجاح، حتى كانت هذه المذكرات بثورتها وتحررها ودبلوماسييها وأدبائها ومفكريها وفنانيها، وعلاقتها بالغرب والشرق، والماضي والحاضر، تطلعًا إلى المستقبل. ولدت لوتس عبد الكريم في الإسكندرية، وكان القرار الأول الصعب الذي اتخذته هو دراسة الفلسفة، وكان من بين أساتذتها في قسم الفلسفة د. أبو العلا عفيفي، ود. نجيب بلدي، يوسف كرم، ود. ثابت الفندي، ود. أحمد أبو زيد، ود. محمد زكي العشماوي. كانت الكاتبة من المعجبات بروايات يوسف السباعي، وتمنت لقاءه، وقرأت بالمصادفة نبأ حضوره إلى الإسكندرية، فأخبرت صديقاتها، وجئن مثل المجنونات إلى فندق البوريفاج حيث يقيم. هذا اللقاء أعادني إلى نفسي وكنت مشغولةً عنها بالدراسة والعمل والمشكلات التي لا تنتهي، أنا إنسانة عاطفية، أجل، لكنني صعبة المراس، رغم دموعي المنسابة بلا مبررٍ. إصرار د. لوتس عبد الكريم على النجاح ومواصلة الرحلة، دفعها إلى الصمود، ففكرت في السفر وكانت لندن وأكسفورد هما أول الطريق، لتكملة تعليمها، حيث التحقت هناك بجامعة سوانزي، وبدأت حياة جديدة، في الدراسة والحياة الأوربية، وفي الجامعة وبين الزملاء، تعددت المواقف والمحاضرات العلمية، التي تقف أمامها د. لوتس بكثير من التفصيل حول طبيعة التعليم الأوروبي، وماذا يعلمون الشباب، وكيف يقسمون وقتهم، وكيف يعاملون العربي داخل الجامعة وفي الشارع، وأنواع العمل المناسب للصناعات الحديثة. وفي فصل طويل يوضح طبيعة الحياة هناك، تسرد د. لوتس عبد الكريم مظاهر أعياد الميلاد في ويلز بإنجلترا في النصف الثاني من القرن العشرين، وليالي لندن، وسلوك العرب القادمين إليها، والمسارح والمتاحف والفنادق، وكيف يسخر الإنجليز من الأمريكيين، والتفكك الأسري في إنجلترا، وكان عليها بعد ذلك أن تودّع إنجلترا لبعض الوقت، حيث ستعود مرة أخرى لتبقى أربع سنوات في لندن، زوجة سفير، فدخلت عالم الدبلوماسية، وتنقلت في البلدان، وعرفت كبار شخصيات العالم، وكيف يتصرف الدبلوماسيون الأفارقة المحتلة بلدانهم من قبل الإنجليز بمذلة وخضوع، مع محتليهم، ومن هناك أرادت الدراسة والسفر إلى باريس، وكان لها ما أرادت، في محطة جديدة من رحلتها للبحث عن نفسها وكيانها، حيث نقضي مع المذكرات وقتًا ممتعًا مليئًا بالحيوية والتشويق عن الحياة في فرنسا. وبعد انتقال زوجها إلى العمل في اليابان، تقف الرحلة طويلًا أمام أجواء الشرق وسحره، وسلوك أهله وعلاقات الشرق بنا، وقبل اليابان كانت إسبانيا، وبعدها إيطاليا، ثم نقطة الطلاق من زوجها، والذهاب إلى مكة للاستجمام، وزواجها مرة أخرى. وفي مكة تعرفت د. لوتس عبد الكريم بمجموعة من الشخصيات المصرية، وصفت علاقتها بهم بشكل من الموضوعية والإعجاب، ودورهم في حياتهم ومنهم زينب الغزالي. فجأة دخل إلى الصالة التي نجلس بها زوار كثيرون، والتفتُّ فوجدت إحدى السيدات تناديني، وقمت بسرعة فوجدت الفنان حسين صدقي، وكان قد اتجه اتجاهًا دينيًّا عميقًا مع زوجته الحاجة سميرة، ومعهما سيدة وقور مسنة لم أتعرف إليها، وقدمتني إليها الحاجة سميرة، قائلة: أعرفك بالشيخة زينب الغزالي، زعيمة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت، وصافحتها فإذا هي تبادرني غاضبة: لماذا أنت جالسة مع آل فرعون؟ وتقصد أسرة الزعيم عبد الناصر، وأكملتْ: اجلسي هنا معنا تشملك البركة، تركتهم وجلست إلى جوارها فإذا هي تقول لي بعد أن همست في أُذن صديقتها: أريدكِ أن تبقي معي فأنا وحدي وفي حاجة إلى مرافقةٍ صغيرةٍ وقوية مثلك. وقلت لها: أين تسكنين؟ أجابت: لا تسألي، قلت لها: إن نقودي لم تصل بعد، أجابتني: لا عليكِ نتحاسب فيما بعد، وهكذا وجدتني فجأةً في مكانٍ رحبٍ فسيحٍ وغرفتين واسعتين تطلان على مقام الكعبة الشريفة، المكان جميل وأنيق أناقة فائقة. بعد قليل وصل خدمٌ كثيرون يحملون سلال الفاكهة، وصواني المأكولات الفاخرة والمشروبات، وكل ما تشتهي الأنفس في أوانٍ ذهبية، تحت أرجلنا سجاد فاخر، وتوجد مصاحف، وأردية من حرير، والقرآن يرتل ترتيلًا جميلًا، فكأنني كنت في حلم أو في الجنة. وكثيرًا ما كانت تجلس إليَّ وحدها وقت الراحة لتقص عليَّ ما فعل بها وبالإخوان المسلمين جمال عبد الناصر. بل وخلعت ملابسها أمامي لأرى آثار التعذيب على جسدها، فرأيت حروقًا وبثورًا وأخاديد سوداء وزرقاء، هي آثار التعذيب الوحشي بالسياط، وتقول إنهم كانوا بعد ضربها يدهنون تلك الأماكن بمرهم يشعلها نارًا، وذلك لمحو أثرها وإمعانًا في التعذيب. وكنت أقول لها: ربما أن جمال نفسه لا يعلم بهذه الطرق من التعذيب، فتصيح بي قائلة: إنه لا يهنأ له بال أو نوم إلَّا بعد أن يراني من خلال طاقةٍ في غرفة التعذيب، ينظر (بعيني أم رأسه) -على حد تعبيرها- ثم ينصرف ويتبعه المشير عبد الحكيم عامر يمسح نظارته ثم ينظر ليتأكد كيف يتم التعذيب. وحكت لي الكثير من صنوف العذاب التي لا أستطيع ذكرها أو كتابتها، فقد تم حبسها في غرفةٍ ضيقةٍ مع أربعة كلاب متوحشة ومدربة تدريبًا خاصًّا ضمن برنامج التعذيب. ويوم أن دخلت السجن ورآها تلاميذها من المسلمين هاجوا وماجوا فقالت لهم القول المأثور: صبرًا آل ياسر فموعدنا الجنة، وصاحوا جميعًا: صبرًا يا أماه، كقول الرسول. وقالت إنه يوم أُفرج عنها قيل لها: الشرط أن تبتعدي عن السياسة، فأجابت: الدين سياسة والقرآن سياسة، فإذا كان هذا شرطكم، فأنا ما زلت بباب السجن وعلى استعداد للعودة ثانيةً، لن أترك السياسة حتى الرمق الأخير، فهي تشريع الله سبحانه وتعالى والرسول. وبعد زينب الغزالي، تتعرف د. لوتس إلى شخصية الشيخ محمد متولي الشعراوي، وتتكرر التجربة: تركت الشيخة زينب الغزالي، وافترقنا في المدينةالمنورة، إذ كانت تود البقاء وقتًا أطول مع إخوانها وتلاميذها، وفي فندق الحرم بالمدينةالمنورة جلست استمع إلى محاضرة يلقيها الشيخ الشعراوي، وبعد الانتهاء ذهبت إليه لأسأله عن عبارات لم أفهمها، وبعد المناقشة سألني: من أنتِ؟ وما برنامجك الديني؟، ولما علم أنني سأقضي بقية رمضان في مكة أصر على دعوتي إلى منزله وقدمني لأولاده سامي وزوجته والدكتورة فاطمة، وطلب منهم دعوتي لقضاء بقية الشهر الكريم لديهم. هو يسكن في طابق فسيح في عمارة تواجه الكعبة المشرفة، استمتعت بهذه الصحبة الطيبة في رمضان، وكنت أصلي معهم ونتناول السحور على الطبلية، وأستمتع بنصائحه وعظاته ولغته العربية الفصيحة، وهو يجيبني في سماحة أهل العلم، ويشرح لي الكثير مما غمض عليَّ فهمه بطريقة تفهمه للدين. وسألته: ألم ترتكب في حياتك ذنوبًا تستغفر الله منها؟ فقال: لا لكنني أفعل الآن.. وبكى. في رحلتها مع زوجها دخلت لوتس عبد الكريم مرحلة جديدة من حياتها عرفت منها بعض أسرار العالم، وساسته وحكامه ومنهم جورج بوش الذي كان يشارك في مؤتمر اقتصادي وزوجها من ضمن المشاركين، وتحكي لوتس عن لقائها ببوش: جلست على المائدة وجلس إلى يميني الرئيس بوش وجلست زوجته على يمين مستر كيردار، فهم ضيوف الشرف، وبدأت طقوس الوليمة. وكأنه أحد أفراد الأسرة، راقبته عند الأكل، وكان يقطع الأسماك بسكين عادي غير سكين السمك، وتذكرت في هذه الآونة أن خالتي ماهوش رفضت عريسًا لابنتها، لأنه لم يفرق بين سكين الخبز وسكين اللحم واستعمل الأولى في قطع اللحم! وسألته فأجابني: لأن السمكة كانت تستعصي على السكين الخاص بها، وأكل المكرونة فعاكسته، وسقط بعض منها على أطراف الطبق، لاحظ أنني أرقبه، فأجبت تساؤلاته قائلة: إنني كنت أتوقع أن أهم شخص في العالم لا شك له طريقة غير طريقتنا في الأكل، وإنني مذهولة لأنه لا يختلف عنَّا في شيء. وضحك وهو يشد على كتفي في حنان، قائلًا: تظنين أننا نختلف عن البشر؟ قلت له: إنني لا أصدق أن رئيس أمريكا يجلس إلى جواري ويأكل نفس ما آكل بل ويتكلم معي بتلك البساطة. أجل إنني محظوظة كما يقولون، لأنني أقابل كل يوم ما لا يمكن أن يقابله الشخص العادي ربما طوال عمره. - علاقتي بإحسان عبد القدوس جعلتني كاتبة. من ضمن الشخصيات التي وقفت أمامها د. لوتس طويلًا، كان الكاتب إحسان عبد القدوس الذي التقته في منزل يوسف السباعي، ووصفت د. لوتس لقاءها بإحسان قائلة: كان أول انطباعي عنه أنه لا يكترث كثيرًا لمعرفة الناس، وعلى العكس يضيق بلقائهم ومحور اهتمامه هو الفن والأدب والسياسة، هذه السياسة هي المحور المهم، وهو خجول على عكس ما يقال عنه ولكنه حاد وجارح -إذا اقتضى الأمر- كان إحسان عبد القدوس يقول: إن العقل وحده لا يخطئ إلا نادرًا، والناس الأغبياء في نظري هم العاطفيون، وليس من السهل على كل إنسان أن يحمي عقله من عاطفته، وإن معظم مصائب الناس تقع من تأثير العاطفة على العقل، ويقول: إن كاتب القصة كالطبيب من حقه أن يعالج المجتمع ويصوره من جميع نواحيه، حتى الناحية الجنسية، دون أن يتعمد أن يكون الجنس هو الموضوع الرئيسي في القصة. كان يمكن أن تكوني أكبر أديبة في مصر. وهكذا قال لي. قضيت بينهم ليالي وأيام المصيف في بيانكي في العجمي بالإسكندرية، رأيت في الفيلا أمام البحر أمينة السعيد وأحمد بهاء الدين وزوجته للمرة الأولى، وضيوفًا كثيرين وصخبًا وضحكات وحكايات، وزائرات بالبيكيني وأثواب البحر العارية وجميلاتها، من مختلف الأعمار، دعتهن لولا لتهيِّئ الجو المثير لإحسان وهو ينظر إليهن في قرفٍ ودون اهتمامٍ وتصيح لولا: شوفي والنبي جايبه له أحسن ناس عشان يتسلَّى ويضحك أو يتكلم شوية لكنه دايمًا مبوز ومكشر مفيش حاجة عاجباه، ويرد إحسان: دول مش جايين عشاني، مش بيحبوني، دول جايين يشوفوا أبو الهول يتفرجوا عليه. وينتحي جانبًا يدخن السيجار بشراهة، واقترب منه: لماذا لا تشاركهم، فيرد بغلظةٍ: أنا حزين مكتئب، مفيش حاجة ممكن تحركني أو تثيرني، ويشرد قائلًا: عاوز حاجة تبهرني، حدث سياسي كبير، تجربة مجنونة تجنني معاها وتدوخني، ويضحك. وتأتي لولا مع صاحباتها بالمايوهات يلقين بأجسادهن في الماء، ويجلس هو تحت الشمسية بجواري، ويبدأ الحديث المحرِّض: احكي لي، عاوز أعيشك، واحدة غريبة شفتي العالم ده كله، عندك كل حاجة ومش مبسوطة، وتسمعه لولا على البُعد فتجري قائلة: ما أنت كمان يا سانو عندك كل حاجة ومش مبسوط. طفق يسألني: أنت ست متناقضة.. بك كل المتناقضات، أحيانًا سيدة أعمال وأخرى أديبة وثالثة ست صالون ورابعة واحدة إسكندرانية من بحري.. انت ستين واحدة في واحدة، كما تصرفاتك من طوكيو لابو العباس، من ألبير كامو للشيخ عبد الحليم محمود، من باريس لكوم الدكة، انت إيه، أنا لازم أكتبك، وهكذا التفت حوله قائلًا: شفتي اثنين ستات بيكلموا بعض من ساعة الظهر عندهم مشكلة، وواحدة راحت وجت كذا مرة بتفتش على شيء ضاع منها وواحد ماشي محني شايل هموم الدنيا، دول كلهم قصص كل واحد وراه قصة أنا لازم أكتبها، بهذه الطريقة كان يكتب الرواية ويفيض من خياله يتأمل المارة. هكذا كان يكتب وقتها قصة بعيدًا عن الأرض، فجأة قام يجري واختفى وسط المصيفين. وكما كانت رحلة لوتس عبد الكريم مليئة بالأحداث، كانت كذلك عامرة بالشخصيات الفنية التي ملأت زمانها، وشغلت أهلها، وكذلك الشخصيات العامة، فغير السباعي وعبد القدوس هناك صلاح طاهر، ومحمد عبد الوهاب، والملكة فريدة، وأحمد بهاء الدين، وقد كان لقاؤها الأول بعبد الوهاب في لبنان: تعارفنا وأصبح بيننا لون من الصداقة، يتيح لكلينا التعارف أكثر والمقابلات في مصر وخارج مصر وأجمل الأوقات دائمًا كانت في باريس، حيث يقضي نصف العام تقريبًا ويلتقي العرب والأجانب، والفنانين من عشاقه، بل وكنت أحضر أحيانًا بروفات موسيقى لأغنيات وردة وغيرها. إن باريس وعبد الوهاب شيء واحد رائع وعظيم خارق حين قدمت له زوجي قال له: يمامة وديعة في يد صقر جسور.. خد بالك منها. وهو يعلم أنني زوجة لأحد ألمع أقطاب المال والبترول في العالم، وعبد الوهاب يعشق المركز والمال والسطوة والجاه ككل فنان وعبقري، وهو ذواقة وقوي الملاحظة، وهو أذكى إنسان -لا أقول قابلته بل في مصر كلها- وهو يروض ذكاءه ويكرِّسه ويمارسه، وهو أمهر من عرفت في الحديث المنمق الرهيف وعاشق للثقافة والجمال. إلى جانب الفن كان لديه العقل والحكمة والاتزان والذكاء الخارق، والخلق النادر والأناقة في الكلمة والتصرُّف، وكان لديه الحدس والشفافية والفلسفة، إن حديث عبد الوهاب أجمل من شدوه وموسيقاه، بل إنني لمست في موسيقاه الحنو والرقة، بل والعبارة الدينية تمسُّ شغاف القلب وتسعد المُتْعَبين. وهكذا كلما افتقدت الفكر الصائب لجأت إلى صومعته ألتمس الحنان، ودفء النصيحة، وسداد العقل والحكمة، وبادلني ثقةً بثقةٍ فعرفت تفاصيل كثيرة عن حياته وزيجاته وأسبابها. وفي لبنان تسللت إلى حياته نهلة القدسي، فلسطينية الأب سورية الأم، وكانت زوجة لعبد المنعم الرفاعي سفير الأردن، وكان يظن أنه سيسعد في هذه الزيجة، ولكن خاب ظنه، وتحولت حياته إلى جحيم في رأي كل من اقترب منه، كان يقول لي: إنها الغيرة، ولكن إنها لا تغار عليَّ بل منِّي، تغار من فني، وكان قد تجاوز السن التي تحتمل المشكلات فتحملها مرغمًا ولم يكن سعيدًا، ولكن لنفرض أنها غيرة حقيقية عن حب، لكن أيحاسب عبد الوهاب كما يحاسب بقية الرجال؟ وأيًّا كان ما يصدر عنه فهو فنان، كان يقول: لابد للفنان من مساحةٍ تعفيه من اللوم وتبرئه أمام الله، وحين قرأ للدكتور مصطفى محمود عظماء الدنيا والآخرة بكى، وقال: عششت في مخي يا درش إنني لست من عظماء الآخرة لأني من عظماء الدنيا، ولكن عقله وحكمته في أخذ الأمور ساعداه على الاحتمال. ظل على صلةٍ متباعدةٍ مع أم أولاده وكان يقول: لها الفضل في أنها ربت لي أولادي. وعن لقائها وعلاقتها التي امتدت بالملكة فريدة وبناتها من بعدها تروي لوتس عبد الكريم أن ذلك تم بالمصادفة، أجل، إنها أيضًا المصادفة، كل حياتي أقدار، لكن ملكة مصر.. أيعقل هذا؟ ألقاها هنا في المعادي وبجوار منزلي وتحادثني وأجاملها ونتفق على موعد؟ لا بد أن شيئًا ما تخفيه المقادير ينتظرني، في اليوم التالي، العاشرة صباحًا كنت أمام شقتها أدق الباب في اضطرابٍ شديدٍ، وكأنني مقبلة على تجربة لا أدرك أبعادها، إنني أقرأ المعوذتين تمامًا كما أفعل وأنا مقدمة على أمر خطير، تفتح لي الباب سامية التي ترافقها وتقوم على مساعدتها، وهي ممن تربوا في القصر الملكي، على اليمين طاولة صغيرة عليها صورتان: للملك وحده ثم للملكة فوق رأسها التاج. الشقة الصغيرة أنيقة جدًّا ومرتبة ترتيبًا ملكيًّا، الفراندة الصغيرة جدًّا تحيطها الأزهار والورود على السور، وتجلس على كنبة صغيرة بها الوالدة التي ربما تعدت التسعين، وتأتي الملكة، قامة وقيمة، جمالًا وكبرياءً، عينان سوداوان فيهما استفسار، ويسكنهما حزن كبير. أمسكت باليد الممدودة وكأني أمسك بكنز من المعاني والثراء، جلست على عرش مصر في عصر من أمجاد مصر، لا شك أني محظوظة جدًّا، إن الله يدخر لي دائمًا المفاجآت، نادرًا ما تمنيت شيئًا لم أحصل عليه، أو تسوق لي الأقدار ما أجهله، حتى يفسر لي الزمن معنى لا يخطر على بالي. جلست وأشارت إليَّ بالجلوس، كنت مضطربة لا أستطيع البدء، عاونتني هي فبادرت بالحديث، السؤال عن المجلة كيف أسستها، ومصادر التمويل، ومن يكتب فيها من الفنانين والأدباء، وكيف الحصول على هذه الصور الرائعة من الفنون النادرة.. إلخ. تشعب بنا الحديث وعلمت أنها ترسم وأن الرسم الآن هو كل حياتها، فقد كانت في غربة وهي الآن في غربة أكثر، إذ إن معارفها محدودون ولا تحب الاختلاط، بل الهدوء والاستكانة في هذه السن وتلك الظروف. أشارت بيدها إلى لوحةٍ كبيرة رسمتها بطريقتها في التجريد «شبه وجه نسائي يتناثر شعرها وتنحدر من عينيها دموع كثيرة»، قالت: «هذه هي مصر».. خسارة أن تصبح مصر في هذه الصورة الملأى بالحزن والكآبة واليأس والحيرة. تواعدنا -حسب رغبتها- على اللقاء في اليوم التالي في منزلي بعد مكالمةٍ منها لتحديد الوقت. وذهبت بسيارتي لآخذها، أمام الفيلا التي أسكنها وقفت تتأمل البناء قبل الدخول وأنا أشرح: الطابق الأول مقر المجلة، والثاني أسكنه، والثالث كان يسكنه سفير بولندا وسافر لتوه، ويوجد بدروم أرضي مهمل. صاحت: «أنا أريد هذا البدروم معرضًا للوحاتي بعد موافقتك طبعًا».. واضطربت. - لي شرف القبول طبعًا هذه رغبة ملكية، ولكنه غير معد وغير نظيف. - لا عليكِ، أقبله كما هو، وسأتولى أنا نظافته وتجهيزه. غادرتني وهي فرحة كالأطفال. في اليوم التالي بدأنا في تجهيز المكان، وأحضرت عمالًا كثيرين للنظافة وبعض الإصلاحات. سألتني إن كان لديَّ قماش ستائر أسود، قلت لها لدى ستائر من الدمور أضعها خلف الستائر تحمي البيت من الأتربة حين سفري، أخذتها وقامت بصبغها باللون الأسود وأسدلتها فوق الشبابيك فأخفت كثيرًا من البقع والبويات القديمة، وظللت المكان، ثم بدأت في إحضار اللوحات والحوامل ورتبت بنفسها المكان حتى صار لائقًا فعلًا بإقامة المعارض، أما اللوحات فوضعتها على الحوامل دون براويز، وقالت: هكذا واللي يعجبه ياخد، فأنا لن أكلفك قرشًا واحدًا. جهز المعرض وأصبح لدينا جاليري الشموع، كنت أود تسميته ب"الملكة"، ولكنها رفضت خوفًا عليَّ من نفوذ السلطات، أصبحت قاعة معرض الشموع أول معرض فن تشكيلي خاص في مصر، ويوم الافتتاح حضره كبار رجال الصحافة والدبلوماسيون، وفي مقدمتهم مصطفى أمين وأنيس منصور، وسفيرا أمريكاوفرنسا، وكبار الفنانين والممثلات، والدكتور بطرس غالي، وتغيرت حياتنا معًا. انتهت من وضع الأساس في عرض لوحاتها في ذلك المكان المظلم، بقى أن ترسم، أين ترسم والمكان مظلم، أخذتها إلى الطابق الثالث، غرفة واسعة تدخلها الشمس وتشرف من شباكها نخلةٌ وارفةٌ كأنها تبارك الفن. أزلنا الموكيت من الأرض ثم كسوناها بمشمع ليحمي المكان من سقوط الألوان والاحتراق، وأحضرت إلى الغرفة ألوانها وأحبارها والأوراق والحوامل وكل ما تحتاج إليه في الرسم، تجاور هذه الغرفة غرفة أخرى صغيرة بها كرسي وسرير ترتاح فيها كلما تعبت، كان «نيفل» يُقَدِّم لنا كل يوم أخبار الفن والثقافة والموسيقى والأوبرا، تختار هي ما يلائمها ونذهب معًا، أفادتني ثقافيًّا وفنيًّا فامتلأت مكتبة مجلة الشموع بالكتب القيمة والموسوعات الفنية. كان مصطفى أمين يساعدنا في إرسال مقتنين من العرب لشراء اللوحات -بغرض المساعدة- وأستقبل أنا الزوار لتحديد الأسعار والأخذ والتسليم، وهي في غرفة داخلية تغلِّف اللوحة كما تود وتتسلم منِّي النقود ولا تضع إمضاءها إلا بعد البيع، وتحذرني من أن يرتفع صوتي في أثناء هذه العملية ومن سوء التصرف، وأنا لا أدري ما هو سوء أو حسن التصرف. فأقول لها ضاحكة: اعذريني فأنا لم أتعلم الإتيكيت في قصر عابدين، فتضحك جزلة مثل الأطفال وتقول: لكنكِ كنت زوجة سفير والآن وزير، وأنتِ مرهفة نقية وفنانة وإلا لما بقيت معك لحظة واحدة. لم تكن فريدة إنسانة عادية بل ممن يخلدهن التاريخ، وتُكتب سيرتهن في الأساطير، كانت فنانة في ملكها وملكة في فنها»، وكنت أقول لها: هل توجد بسهولة هذه المرأة التي تخلع بيديها التاج أيًّا كانت الأسباب؟ ألم تَعْلُ الملكية مع أي دافع بسبب الزوج؟ ألم يكن فاروق رجلًا غير عادي حتى يحاسب كبقية الرجال؟ ألا توجد مساحة في الملكية تبرر العفو والسماح؟ أيحاسب الملوك كبقية الرجال؟ صاحت وهي تخبط كتفي: ألم تتركي أنت أيضًا مملكة السفير؟ ألسنا متشابهتين في القيم والمبادئ؟ وأفقت، ثم لذت بالصمت. وكان برنامجها اليومي: تستيقظ في السابعة صباحًا، تفطر وترتدي الشورت وتأخذ عجلتها (البسكليت) وتطوف بشوارع المعادي وهي رياضتها كل صباح، بعد العودة تستمع في غرفتها للموسيقى الكلاسيكية لمدة ساعة، بعدها تحضر إلينا في المرسم. كانت تزعجها الأصوات العالية والكلمات النابية، والموسيقى الرخيصة والأغنيات القبيحة والألوان الصاخبة، تحب الظلام والدقة إلى حد الوسوسة، تحب الموسيقى الكلاسيك والألوان الهادئة والأدب والاحتشام، ذات حس مرهف وذوق رفيع وثقافة وذكاء حاد وشفافية وحدس لا يخيب، بل لديها موهبة الكشف، وهو معنى أعمق من الشفافية بلغة الصوفية، فهي ذات نزعة صوفية عميقة وزهد وتجرد وإيمان راسخ بالله خالق المعجزات، تحيط بيتها وكتبها وملابسها وحقائبها بالمصاحف والأدعية والتعاويذ، كانت أيضًا إلى جانب القرآن تحتفظ بالإنجيل وتحفظ كثيرًا من كلماته، رسمت لفظ الجلالة في لوحاتها وكانت تقول: أنا أول من رسم لفظ الجلالة وبعدها قلدني كثيرون. بل كانت تؤمن بأن الدين قيم ونظافة وسلوكيات أكثر منه طقوسًا، وكانت تقرأ كثيرًا في كتب الروحانيات، وكثيرًا ما كانت تطلب مني أن أقرأ لها في كتب التفسير. كانت ترعبها الألوان الصارخة والأذواق الهابطة، ولا تطيق أن أشتري لخادمتها ثوبًا غير متناسق الألوان، كانت تقول: هي لن تراه ولكن ما ذنبي أنا حتى تعذبيني بهذا الذوق. كانت تقول: إن مصر هي النيل، هي الريف، الصعيد، الفلاحون، الجرة، القلة، الزير. وكانت تحزن لكل ما يصيب النيل من تلوث أبنية قبيحة تحجب جماله وتلح على الكتَّاب أن يكتبوا لإنقاذ النيل؛ لأنه حياة المصريين، وتقول: هناك مؤامرة أكيدة لتشويه جمال النيل. وهذا فنان كبير آخر عرفته لوتس عبد الكريم وخبرت فنه وحياته إنه صلاح طاهر الذي تقول عنه لوتس: منذ معرفتي بالفنان الكبير صلاح طاهر وضعتُ ضمن برنامجي اليومي زيارته حتى لو بضع دقائق يوميًّا، أصبح طعامي وشرابي وشاغلي. إنه مبدع وفنان ليس كأي مبدع أو فنان آخر، إنه عالم من الإبداع والخلق غير العادي، كنت أجلس إليه أحيانًا بالساعات وأتتبَّع ريشته العبقرية تنسج الجمال وتشرد بالألوان على اللوحة فتنطق بما يعجز عن تعبيره الشعر، وأتتبع نظراته وهي تحدق بالألوان فتحيلها إشراقات ومعالم تكاد تنطق بمكنوناتها. كانت ريشته مثقفةً عميقةَ المعاني تؤدي إلى عوالم لا نهائية، من الفن الأصيل والذوق الراقي، إنه الفنان صاحب الإبداع الرائع والألوان الدافئة التي تصلك بعالمٍ فسيحٍ من العلم والإحساس والذوق الأصيل، إن ريشة الفنان وألوانه لا تقل عبقريةً عن نوتة الموسيقى أو كلمات الشاعر وإيقاعه. فالفن التشكيلي والموسيقي والشعر هي منظومة الحياة المفعمة بالحب. دخل الفن التشكيلي حياتي وأصبحت أطلع على الموسوعات الضخمة والكتب العظيمة لهذا الفن. وجاءت الملكة فريدة وملأت حياتي بالفن، ثم بدأ الفنان صلاح طاهر معارضه الفنية بالقاعة التي امتلأت بالزائرين والعاشقين لهذا الفن، وتتابع الفنانون في عروضهم لدينا: صبري راغب وأحمد صبري وجاذبية سري وتحية حليم وحسين بيكار، ثم الفنانون الفطريون الذين قدمتهم لي الملكة فريدة وكانت تعشق فنهم مثل رمضان سويلم وحسن الشرق وكانت تختار لي ما أقتنيه. أمَّا آخر الشخصيات العظيمة التي عرفتها لوتس وأسهم معها في مجلة الشموع فهو أحمد بهاء الدين. الذي كان له الفضل الكبير في تأسيس ورئاسة تحرير مجلة الشموع في أعدادها الثلاثة الأولى، وهو الذي قال: بدلًا من أن تلعن الظلام أضئ شمعة، وهي: من أجل قيمة الجمال في الأدب والفن والحياة. وكان يقول إنها مجلة ليست للانتشار ولا الاتجار، وكانت فعلًا كذلك، إنها كما شاء لها أن تكون لم تنتشر ولم تكسب ولكن كان لها جمهور، خاص مثقف نادر، يبحث عن الجمال وسط أكوام من القبح والركاكة، هذا الجمهور كان يسهم في إنارة المزيد من الشموع بفضلك يا بهاء. إن مذكرات د. لوتس، باتساعها وعمقها، وكم الشخصيات التي وردت فيها، والأحداث السياسية، كتب لها المقدمة الشاعر أحمد الشهاوي، يقول عنها: هي امرأة قلقة في استقرارها، كأن الريح تحتها، كما قال المتنبي، والقلق سمة الفنان الذي يخلق، وهذه السيرة هي سيرة القلق الفكري والثقافي والشخصي. إنها امرأة من برج ناري هو برج الحمل، سطع نجمها في سنوات قليلة بفضل جهودها في مجال الكتابة والفن التشكيلي، إنها د. لوتس عبد الكريم، صاحبة ومؤسِّسة قاعة الشموع، وهي أول جاليري خاص للفن التشكيلي في مصر، ثم مجلة الشُّموع الثقافية الفصلية التي رأس تحريرها الكاتب أحمد بهاء الدين ووضع لها شعارًا: من أجل قيمة الجمال في الأدب والفن والحياة، وجعل لها معنى: بدلًا من أن تلعن الظلام أَضِئ شمعةً فكانت شموعًا للفنون بأنواعها والسير الذاتية لكبار الكتَّاب والفنَّانين. الكتاب صادر عن الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع.