انطلاق برنامج لقاء الجمعة للأطفال بالمساجد الكبرى الجمعة    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    محمود عاشور: لم أكن أعلم بقرار إيقافي عن التحكيم.. وسأشارك بأولمبياد باريس    الإفتاء تحسم الجدل بشأن الاحتفال ب شم النسيم    ننشر جدول أعمال جلسات مجلس النواب الأسبوع المقبل    تخفيض سعر الخبز السياحي بجنوب سيناء    ننشر أول جدول أعمال لمجلس النواب بمقره بالعاصمة الإدارية    غرفة الحبوب: مفيش مخبز في مصر هيبيع بأكثر من 1.5 جنيه يوم الأحد.. الغلق للمخالفين    وزير المالية يلقى البيان المالى لموازنة 24/25 أمام مجلس النواب الاثنين    د.حماد عبدالله يكتب: صندوق موازنة للأسعار !!    صندوق النقد: تحرير سعر الصرف عزز تدفق رؤوس الأموال للاقتصاد المصري    5 أيام راحة.. شم النسيم وعيد العمال إجازة واحدة في مصر    الرئاسة الفلسطينية: الفيتو الأمريكي ضد مشروع عضويتنا بالأمم المتحدة "غير أخلاقي"    أول تعليق من حماس على الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة    وزير الخارجية الأسبق يكشف عن نقاط مهمة لحل القضية الفلسطينية    خبير عسكري: هجوم إسرائيل على إيران في لبنان أو العراق لا يعتبر ردًا على طهران    سكرتير المنيا يشارك في مراسم تجليس الأنبا توماس أسقفا لدير البهنسا ببني مزار    "ليس لدي أي تأثير عليه".. كلوب يتحدث عن إهدار صلاح للفرص في الفترة الأخيرة    "عملية جراحية خلال أيام".. إصابة لاعب سيراميكا بقطع في الرباط الصليبي    فيوتشر يرتقي للمركز الثامن في الدوري بالفوز على فاركو    الدوري الأوروبي – فريمبونج ينقذ سلسلة ليفركوزن.. ومارسيليا يقصي بنفيكا بركلات الترجيح    "دوري مصري ومنافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    بسبب "عباس الرئيس الفعلي".. عضو مجلس إدارة الزمالك يهاجم مشجع (صورة)    إصابة 4 أشخاص فى انقلاب سيارة على الطريق الإقليمى بالمنوفية    ظهور أسماك حية في مياه السيول بشوارع دبي (فيديو)    انهيار منزل من طابقين بمدينة قنا    مصرع شخص وإصابة 8 آخرين إثر حادث تصادم بطريق المريوطية فى العياط    "تعليم الجيزة" تكشف نسب حضور الطلاب للمدارس وأسباب تواجدهم هذه الفترة    برج الدلو.. حظك اليوم الجمعة 19 أبريل 2024 : يساء فهمك    أحمد الطاهري يروي كواليس لقاءه مع عبد الله كمال في مؤسسة روز اليوسف    فيفي عبده ضيفة ياسمين عز في برنامج "كلام الناس".. غدًا    فيلم مشرف .. إلهام شاهين تشيد بفيلم الرحلة 404    هدى المفتي جريئة وفيفي عبده كلاسيك.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء للمريض في ساعة استجابة يوم الجمعة.. من أفضل الأوقات    النشرة الدينية.. هل يجوز تفويت صلاة الجمعة بسبب التعب؟.. وما هي أدعية شهر شوال المستحبة؟    طريقة عمل الدجاج سويت اند ساور    طريقة عمل الكب كيك بالريد فيلفت، حلوى لذيذة لأطفالك بأقل التكاليف    مات حزنا على فراقه، مؤذن يلحق بابنه الإمام بعد أسبوع من وفاته بالغربية    محافظ الإسكندرية يفتتح أعمال تطوير "حديقة مسجد سيدى بشر"    سيد عيد يدخل تاريخ الدورى المصرى.. 4 قصص صعود للممتاز مع 3 أندية مختلفة    نبيل فهمي يكشف كيف تتعامل مصر مع دول الجوار    يقفز بقيمة 120 جنيهًا.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 19 أبريل «بيع وشراء» في مصر (التفاصيل)    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. الاتحاد الأوروبى يشيد بدور مصر فى تحقيق السلام المستدام بالمنطقة.. ونتنياهو يطلب تدخل بريطانيا وألمانيا لمنع إصدار أوامر اعتقال ضده من الجنائية الدولية    شعبة الخضر والفاكهة: إتاحة المنتجات بالأسواق ساهمت في تخفيض الأسعار    متحدث التعليم: لا صحة لدخول طلاب الثانوية العامة لجان الامتحانات بكتب الوزارة    القوات الجوية الروسية تقصف مواقع للمسلحين فى سوريا    بسبب أزمة نفسية.. فتاة تنهي حياتها بالحبة السامة بأوسيم    المشدد 5 سنوات لشقيقين ضربا آخرين بعصا حديدية بالبساتين    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    لإقامتها دعوى خلع.. المشدد 15 عامًا لمتهم شرع في قتل زوجته بالمرج    تحذير شديد بشأن الطقس اليوم الجمعة : تجنبوا السفر لمدة 4 ساعات (بيان مهم)    البيت الأبيض: واشنطن وتل أبيب تتفقان على الهدف المشترك بهزيمة حماس في رفح    أخبار 24 ساعة.. مساعد وزير التموين: الفترة القادمة ستشهد استقرارا فى الأسعار    فحص 1332 مواطنا في قافلة طبية بقرية أبو سعادة الكبرى بدمياط    جامعة برج العرب التكنولوجية تختتم اليوم مشاركتها في مؤتمر «EDU-TECH»    وكيل الأزهر يتفقد التصفيات النهائية لمشروع تحدى القراءة في موسمه الثامن    ردد الآن.. دعاء الشفاء لنفسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إحسان عبد القدوس.. كاهن معبد الحب
نشر في البوابة يوم 31 - 12 - 2013

في ليلة رأس العام سنة 1919 ولد الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس، ليجد الملعقة الذهب في انتظاره، لم يتكاسل ويتكئ على منجزات أسرته البرجوازية التي كانت كفيلة بأن تضمن له حياة كريمة طوال حياته دون متاعب، وإنما جدّ واجتهد وتعب وأنتج أعمالاً أدبية نجحت في تخليد اسمه في سماء المبدعين إلى الأبد، سواء على مستوى الكم أو الكيف.
جاء ذلك على جميع الأصعدة سواء في الرومانسية أو السياسة أو الصحافة، وسواء كنا نتحدث عن الرواية أو القصص القصيرة أو الأفلام السينمائية أو غيرها من أشكال السرد المختلفة والقوالب التي تقدم فيها.
نعرج من خلال هذا الملف الذي يتواكب نشره مع ذكرى ميلاد الراحل الكبير إحسان عبدالقدوس، على أهم المحطات والمواقف في حياته.
"بروفايل" إحسان عبدالقدوس.. كاهن معبد الحب
تنظر الناس إلى الممثلين والنجوم باعتبارهم صناع الحب والعواطف والجمال في هذه الحياة الدنيا، ويتخذون منهم فارس الأحلام، وصور العشاق، ويعلقون صورهم على الجدران بغرف النوم، والبوسترات في الشوارع، دون ان يعلموا أن وراء كل نجم كاتب أبدع فيما كتب فأدى الممثل ما جادت به قريحته دون أن يتدخل فيه بالزيادة أو النقصان.
حيث أبدع الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس في كتاباته وفي تصوراته وتشبيهاته وأشخاصه على الورق وفي السيناريوهات والروايات التى خطتها يداه، فجاءت أبرز المشاهد والأفلام الرومانسية التى لا تنسى وكانت قوة مصر الناعمة في وقت ازدهرت فيه مصر وكانت قاطرة العالم العربي إلى الحضارة الحديثة.
"نشأ في بيت جده لوالده الشيخ رضوان والذي تعود جذوره إلى قرية الصالحية محافظة الشرقية وكان من خريجي الجامع الأزهر ويعمل رئيس كتاب بالمحاكم الشرعية وهو بحكم ثقافته وتعليمه متدين جدًا وكان يفرض على جميع العائلة الالتزام والتمسك بأوامر الدين وأداء فروضه والمحافظة على التقاليد، بحيث كان يُحرّم على جميع النساء في عائلته الخروج إلى الشرفة بدون حجاب..
"وفي الوقت نفسه كانت والدته الفنانة والصحفية السيدة روز اليوسف سيدة متحررة تفتح بيتها لعقد ندوات ثقافية وسياسية يشترك فيها كبار الشعراء والأدباء والسياسيين ورجال الفن"
"وكان ينتقل وهو طفل من ندوة جده حيث يلتقي بزملاك من علماء الأزهر ويأخذ الدروس الدينية التي ارتضاها له جده وقبل أن يهضمها.
يجد نفسه في أحضان ندوة أخرى على النقيض تمامًا لما كان عليه.. إنها ندوة روز اليوسف"
ويتحدث إحسان عن تأثير هذين الجانبين المتناقضين عليه فيقول: "كان الانتقال بين هذين المكانين المتناقضين يصيبني في البداية بما يشبه الدوار الذهني حتى اعتدت عليه بالتدريج واستطعت أن أعد نفسي لتقبله كأمر واقع في حياتي لا مفر منه
ووالدة إحسان "روزاليوسف" اسمها الحقيقي فاطمة اليوسف وهي لبنانية الأصل، نشأت يتيمة إذ فقدت والديها منذ بداية حياتها واحتضنتها أسرة (نصرانية) صديقة لوالدها والتي قررت الهجرة إلى أمريكا وعند رسو الباخرة بالإسكندرية طلب أسكندر فرح صاحب فرقة مسرحية من الأسرة المهاجرة التنازل عن البنت اليتيمة فاطمة ليتولاها ويربيها فوافقت الأسرة. وبدأت حياتها في الفن!
وتعرفت فاطمة اليوسف على المهندس محمد عبد القدوس المهندس بالطرق والكباري في حفل أقامه النادي الأهلي وكان عبد القدوس عضوًا بالنادي ومن هواة الفن فصعد على المسرح وقدم فاصلًا من المونولوجات المرحة، فأعجبت به فاطمة وتزوجته، فثار والده وتبرأ منه وطرده من بيته لزواجه من ممثلة، فترك الابن وظيفته الحكومية وتفرغ للفن ممثلًا ومؤلفًا مسرحيًا)
درس إحسان في مدرسة خليل آغا بالقاهرة 1927-1931م، ثم في مدرسة فؤاد الأول بالقاهرة 1932م-1937م، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة.
وتخرج إحسان من كلية الحقوق عام 1942م وفشل أن يكون محاميًا ويتحدث عن فشله هذا فيقول: "كنت محاميًا فاشلًا لا أجيد المناقشة والحوار وكنت أداري فشلي في المحكمة إما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وإما بالمزاح والنكت وهو أمر أفقدني تعاطف القضاة، بحيث ودعت أحلامي في أن أكون محاميًا لامعًا
إنتاجه الأدبي: لقد كتب أكثر من ستمائة قصة وقدمت السينما عددًا كبيرًا من قصصه، ويتحدث إحسان عن نفسه ككاتب عن الجنس فيقول: "لست الكاتب المصري الوحيد الذي كتب عن الجنس فهناك المازني في قصة "ثلاثة رجال وامرأة" وتوفيق الحكيم في قصة "الرباط المقدس"، وكلاهما كتب عن الجنس أوضح مما كتبت ولكن ثورة الناس عليهما جعلتهما يتراجعان، ولكنني لم أضعف مثلهما عندما هوجمت فقد تحملت سخط الناس عليّ لإيماني بمسؤوليتي ككاتب!! ونجيب محفوظ أيضًا يعالج الجنس بصراحة عني ولكن معظم مواضيع قصصه تدور في مجتمع غير قارئ أي المجتمع الشعبي القديم أو الحديث الذي لا يقرأ أو لا يكتب أو هي مواضيع تاريخية، لذلك فالقارئ يحس كأنه يتفرج على ناس من عالم آخر غير عالمه ولا يحس أن القصة تمسه أو تعالج الواقع الذي يعيش فيه، لذلك لا ينتقد ولا يثور.. أما أنا فقد كنت واضحًا وصريحًا وجريئًا فكتبت عن الجنس حين أحسست أن عندي ما أكتبه عنه سواء عند الطبقة المتوسطة أو الطبقات الشعبية –دون أن أسعى لمجاملة طبقة على حساب طبقة أخرى".
تولى إحسان رئاسة تحرير مجلة روز اليوسف، وهي المجلة التي أسستها أمه وقد سلمته رئاسة تحريرها بعد ما نضج في حياته، وكانت لإحسان مقالات سياسية تعرض للسجن والمعتقلات بسببها، ومن أهم القضايا التي طرحها قضية الأسلحة الفاسدة التي نبهت الرأي العام إلى خطورة الوضع، وقد تعرض إحسان للاغتيال عدة مرات، كما سجن بعد الثورة مرتين في السجن الحربي وأصدرت مراكز القوى قرارًا بإعدامه.
بالرغم من موقفه تجاه اتفاقية كامب ديفيد إلا أنه في قصصه كان متعاطفًا مع اليهود كما في قصص: "كانت صعبة ومغرورة" و"لا تتركوني هنا وحدي"
منحه الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، منحه الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك وسام الجمهورية، جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1989.
توفي احسان يوم 12 يناير عام 1990ومن الجوائز التي حصل عليها.. وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى منحه له الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وسام الجمهورية من الدرجة الأولى منحة له الرئيس محمد حسني مبارك في عام 1990، الجائزة الأولى عن روايته "دمي ودموعي وابتساماتي" في عام 1973، جائزة أحسن قصة فيلم عن روايته "الرصاصة لا تزال في جيبي".
إحسان.. الأديب الارستقراطي
لم ينل إحسان عبد القدوس حظًا وافرًا من اهتمام النقاد، على مدى مشواره الأدبي، سواءً قصدوا إلى ذلك قصدا أم لم يقصدوا، رغم قوة تأثير رواياته وقصصه في الحياة الاجتماعية والسياسية بمصر والعالم العربي، في النصف الثاني من القرن العشرين، ومع ذلك، بلغت شهرته الآفاق في الشرق والغرب، فقد كان غزير الإنتاج؛ له ما يقرب من تسع وخمسين رواية، تم تحويل تسع وأربعين منها إلى أفلام سنيمائية، كما كتب خمس روايات أخرى، حولت لنصوص مسرحية، وتسع روايات حولت إلى مسلسلات إذاعية، وعشر روايات حولت إلى مسلسلات تليفزيونية، كما ترك لنا ستًا وخمسين كتابًا، بين مقالات، "على مقهى في الشارع السياسي"، وسير ذاتية، "أيام شبابي"، واعترافات"، وغيرها، وقد تُرجم العديد من رواياته إلى لغات أجنبية، كالإنجليزية والفرنسية والأوكرانية والصينية والألمانية، كما حصل على جوائز عدة، منها وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى في عهد عبد الناصر، كما حصل على الجائزة الأولى عن روايته: "دمي ودموعي وابتسامتي"، عام1973، وجائزة أحسن قصة فيلم عن رواية: "الرصاصة لاتزال في جيبي"، وحصل على وسام الجمهورية من الدرجة الأولى، من الرئيس مبارك عام1990، ومع ذلك، نستطيع القول، بكل ثقة، إن إحسان ظلم من قبل النقاد، لأنهم لم يقدموا دراسات عن رواياته بالشكل الذي تستحقه، كما فعلوا مع بعض من كتاب جيله، مثل توفيق الحكيم ويوسف السباعي ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ومحمود تيمور ومصطفى محمود، وغيرهم، فما سبب ذلك؟ لعل اقترابنا من حياته، يطلعنا على السبب.
ولد إحسان عبد القدوس في الأول من يناير عام 1919، أمه هي فاطمة اليوسف، أو روز اليوسف، لبنانية الأصل، نشأت يتيمة، إذ فقدت والديها منذ بداية حياتها، واحتضنتها أسرة مسيحية صديقة لوالدها، وهي في الثامنة من عمرها، وأطلقوا عليها اسم روز، رغم أنها كانت تعلم أن اسمها فاطمة، وأثناء هجرتها معهم إلى أمريكا، رست الباخرة في ميناء الإسكندرية، فطلب الفنان إسكندر فرح من الأسرة، التنازل عن الفتاة ليتولاها، وقد كان صاحب فرقة مسرحية، فوافقت الأسرة، ومن هنا كانت بداياتها الفنية، فعملت ممثلة بالفرقة، وقدمت أشهر الشخصيات بعبقرية فذة، مثل غادة الكاميليا وغيرها، ثم تعرفت على المهندس محمد عبد القدوس في حفل، وقد كان من هواة الفن، فأعجبت به، وتزوجا، واحترف التمثيل، وكان يكتب للمسرح، ولكنه كان ينتمي لأسرة محافظة ترفض الفن، فأبوه الشيخ رضوان من خريجي الأزهر، ونشأ إحسان وسط هذا الجو، حيث تربى في بيت جده المتدين، ثم انتقل لبيت والدته الفنانة والصحفية، فهي سيدة متحررة، تفتح بيتها لعقد الندوات الثقافية والسياسية، لكبار رجال الفن والسياسة، وعن هذا التناقض يقول إحسان: "كان الانتقال بين هذين المكانين المتناقضين، يصيبني في البداية بما يشبه الدوار الذهني، حتى اعتدت عليه بالتدريج، واستطعت أن أعد نفسي لتقبله، كأمر واقع في حياتي، لا مفر منه".
إحسان.. المحامي الفاشل باعترافه
تخرج إحسان في كلية الحقوق عام 1942، ولكنه فشل أن يكون محاميًا، ووجد نفسه في الصحافة والأدب، وعن سبب فشله يقول: "كنت لا أجيد المناقشة والحوار، وكنت أداري فشلي إما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وإما بالمزاح والنكت، وهو أمر أفقدني تعاطف القضاة"، فهل لهذا السبب، فقد أيضًا تعاطف النقاد مع رواياته؟ حيث وصف العقاد أدبه بأنه "أدب الفراش"، وأطلق عليه بعض النقاد
احسان: قصصي ورواياتي محاولة لإصلاح المجتمع.
"روائي الجنس"، وبرغم ذلك، استطاع أدب إحسان أن يفرض نفسه على القراء؛ لجديته وعمقه، وعندما اشتد الجدل حول أدبه، قال: "أنا لا أتعمد اختيار نوع معين من القصص ؛ولكن تفكيري في القصة يبدأ دائمًا، من التفكير في عيوب المجتمع ؛ فقد كان الكاتب الفرنسي بلزاك يكتب قصصًا أشد صراحة من قصصي، تدور في مخادع النساء وثار الناس عليه، ولكنه اليوم يعتبر مصلحًا اجتماعيًا، وغيره كثيرون مهدوا بقصصهم للإصلاح الاجتماعي.
صاحب عبارة "تصبحون على حب"
تقوم قوة الكاتب على قدرته على إبراز العيوب إن مهمته تقتصر على التشخيص،فهذا ألبرتو مورافيا في إيطاليا، وجان بول سارتر في فرنسا، وهيمنجواي وفوكنر في أمريكا، وغيرهم عشرات يكتبون قصصًا أكثر بشاعة ؛ورغم ذلك، فهم مرشحون لنوبل ؛حاول كثيرون من الكتاب في مصر أن يحملوا هذه المسؤولية المازني وقصته: "ثلاثة رجال وامرأة"، وتوفيق الحكيم في: "الرباط المقدس"،ونجيب محفوظ يعالج الجنس بصراحة عني، ولكن معظم مواضيع قصصه تدور في مجتمع شعبي،فالقارئ يحس كأنه يتفرج على ناس من عالم غير عالمه، فلا يحس أن القصة تمسه؛ أما أنا، فكنت واضحًا كل ما فعلته، هو أنني تحملت المسؤولية، واعتقدت أن قصصي تؤدي دورًا في التمهيد لإصلاح المجتمع "، والكلمات السابقة مقتطفات من خطاب أراد إرساله للرئيس جمال عبد الناصر، ولكنه تراجع، وظل الخطاب حبيس الدرج، وكان ذلك عام 1955 بعد أن نشر قصته: "البنات والصيف"، وكان أيامها يلقي كلماته الإذاعية، متحدثًا عن الحب، وهو صاحب العبارة الشهيرة: "تصبحون على حب"، التي كان يقولها مع نهاية كل حديث إذاعي، فربط الناس بين كلامه عن الحب، وبين العلاقات غير المشروعة في رواياته، فظنوا أنه يدعو إلى الإباحية، ووصل ذلك إلى عبد الناصر، وهنا اضطر إحسان أن يوضح وجهة نظره، بإرساله الخطاب.
احسان ونزار قدما ادبا صادما للمجتمع
إن ما قدمه إحسان للرواية العربية، يشبه ما قدمه نزار قباني للشعر العربي، كلاهما قدم أدبًا صادمًا للمجتمع، بهدف تحقيق حرية المرأة في صورة الوطن، أو تحقيق حرية الوطن في صورة المرأة، لقد ظل إحسان ينادي بالحرية في كتاباته، بقلمه الثائر الجريء المقدام، منذ تفجيره لقضية الأسلحة الفاسدة، وظل هذا القلم متوهجًا، يحرق بالنار كل مظاهر الانحراف، فتعرض للاضطهاد والسجن، ومع ذلك، لم يخبُ توهجه، لا في السياسة ولا في الحب ولا في الحرية، وتلك أوجه الفن التي قال عنها: "الحياة كلها فن، والسياسة فن والكتابة فيها فن لا تخلو قصة من السياسة ولا تخلو السياسة من قصة، وهذا ما نسميه بالأدب السياسي"، وقد اتهمه بعض النقاد بأنه يغلف إباحيته بالسياسة، ليخدع الشباب، كما اتهمه البعض بتحديه للتيار الأخلاقي، ولكن إحسان كان يرى أن الحب لا يكتمل إلا بالعشرة، فهو الحب الكامل الذي لا ينتهي ولا يموت، أما الحب الذي تغلب عليه الشهوة، ليس حبًا.
احسان..ابدع من وصف خبايا وخفايا المرأة
لقد كانت المرأة هي الكيان المهيمن على حياته، وهي المناخ الأول الذي شهد الزهرة وهي لم تزل جنينًا في الكأس، وهي التربة الأولى التي حملت البذرة وطرحتها نبتًا، لقد كان إحسان جسورًا في معالجته للحب، فابتعد به عن الفيض العاطفي، الذي كان يقدمه يوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله وآخرون، برغم ما عرف عنه من تزمته في حياته الأسرية، حتى كاد يقع في تناقض، ولكنه تحاشاه بذكاء الكاتب، فوضع الحلول المثالية على لسان بطلاته، وفي الوقت نفسه، لم يسجن نفسه في إطار الحب الرومانسي القديم، الذي كان يكتفي بالنظرة من بعيد، وتشابك الأيدي، فيقول: "فالحب عاطفة سامية، لا تنمو ولا تترعرع إلا في ظل الزواج، وفي ظل رعاية الأسرة". وقد قيل عنه إنه أبدع من تغلغل في خفايا المرأة، وأصدق من وصف ما تحت جلدها من مشاعر ونبضات عاطفية، بكل ما فيها من حب وكراهية، فأثبت بذلك أنه لا شيء اسمه أدب نسائي، يقول: "أنا لا أعترف بهذا، فلا يوجد ما يسمى بالأدب النسائي، أو الأدب الرجولي، ولكن يوجد أدب ولا أدب"، فهو يرى أن من الكتاب الرجال من يجيد التعبير عن أسرار مشاعر المرأة، أكثر من المرأة نفسها، والعكس يحدث، فهناك نساء يجدن التعبير عن مكنون الرجل، فالأمر كله يقوم على دراسة الأبعاد النفسية والاجتماعية لأبطال الروايات، ولكنه يرى أن المرأة قد تجد بعض الحرج في وصف مواقف خاصة بالرجل، وقد استطاع إحسان أن يبرهن على صدق نظريته هذه من خلال رواياته، فنراه في رواية "شيء في صدري"، يظهر أدق تفاصيل مشاعر امرأة يُنتهك جسدها وهي محمومة، فترعب نظرات عينيها مغتصبها، فيتراجع "وامتدت يدي المحرمة ورفعت عنك الثوب وارتفع جفناك، وبدت في عينيك نظرة رعب، لقد خفت من رعبك"، وفي "لا شيء يهم"، يضع على لسان بطلته، إيمانه بأن الحب حرية، فإذا أحاطه القيد، لم يعد حبًا، "ووقفت سناء تنظر إليه عميقًا، وعيناها حزينتان، تحس بأنها أخطأت بزواجها.."، وفي "لا أنام"، يصف أدق مشاعر المرأة التي تغار على أبيها من زوجته، وهي مشاعر لم تقدر المرأة نفسها على وصفها، وفي "الطريق المسدود"، يوضح أن طريق الخطيئة، تدفعنا إليه الظروف الاجتماعية، ولكنه ليس الطريق الصحيح، " إن الخطيئة لا تولد معنا، ولكن المجتمع يدفعنا إليها"، وفي "أنا حرة"، وضح أن الحرية مسؤولية: "قبل أن تطالب بحريتك اسأل نفسك لأي غرض ستهبها؟" وفي "زوجة أحمد"، تحدث عن الأم التي تعمل بالفن والصحافة، وتهمل أطفالها، وهو هنا يصور أمه، حين كان يتضايق من عملها، ولكنه علم بعد ذلك، أن الحب في العطاء، واعترف بأنها صهرته في بوتقة خبرتها وحنانها، فيقول: "وكان الحب لأمي معجزة المعجزة"، فاستطاعت روز اليوسف أن تشكل حياة إحسان، ومنها استمد رؤيته للحب، وعندما تولى رئاسة تحرير مجلة روز اليوسف، أرسلت إليه تقول: "ولدي رئيس التحرير، عندما أسست هذه المجلة، وكان عمرك خمس سنوات حملت العدد الأول، ووضعته بين يديك الصغيرتين، وقلت: هذا لك، ومرت عشرون عامًا، وأنا أرقب نمو أصابعك حتى تستطيع أن تقدر هذه الهدية.."، توفي إحسان في 12 يناير 1990، فهل آن الأوان لنعيد قراءة أدبه بشكل عصري، حتى نضعه في مكانه الصحيح؟
إحسان.. نصير المرأة ومحاميها
اشتهرت كتابات إحسان عبد القدوس بالدفاع عن قضايا المرأة والدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل في الحقوق المجتمعية والواجبات وذلك انطلاقا من إيمانه بقدرات المرأة في العمل وفى إدارة شئون بيتها.
تبنى إحسان عبد القدوس فكر قاسم أمين الذي طالب بتحرير المرأة من القيود المفروضة عليها حتى إن النقاد والكتاب أطلقوا عليه أديب الفراش ووصف البعض أدبه بالأدب الإباحي.
تبدأ علاقة إحسان عبد القدوس بالمرأة بوالدته أولا التي تأثر بها وكان معجبا بها إلى أبعد الحدود، فقد كانت السيدة روز اليوسف عنيدة طموحة كثيرة الانتقاد لابنها ولذلك حقق جولات صحفية ناجحة ليس لأن والدته صاحبة الجريدة ولكن لدفعها له وانتقاده وتوليه من هم أكبر منه عليه مثل التابعي ومصطفى أمين، إضافة إلى مشاركة أحمد بهاء الدين له في رئاسة تحرير المجلة التي تصدرها.
المرأة الثانية في حياة إحسان هي عمته (نعمات هانم)، وكما تحكى الكاتبة الدكتورة أميرة أبو الفتوح في مؤلفها "إحسان يتذكر" أن زواج روز اليوسف من والد إحسان لم يستمر سوى عامين بعدها تم الطلاق لإصرار الزوجة على التمثيل فقامت عمته على تربيته.
وعن هذه الفترة يقول إحسان "إذا كانت والدتي أعطتني ووهبتني الحياة فإن عمتي نعمات هانم رضوان أعطتني الاستقرار في الحياة بلا مقابل سوى الأمل في أن أنجح في حياتي" خاصة بعد زواج الأم من زكى طليمات إلا أن إحسان عاد إلى أمه وهو في الجامعة ليكمل حياته معها حتى تزوج من" لولا المهلمى "والدة أبنائه محمد وأحمد.
احسان عبد القدوس.. كاتب يرفض التنازل
في واحدة من بديع عبارات الاديب الكبير "يحيى حقي" يقترح أن يقام معبد للحب وأن يكون إحسان عبد القدوس كاهنه الأكبر، وإليه يصعد بريد القلوب.
بهذه العبارة الموحية أنهت الكاتبة زينب العسال مقالًا لها حول الحب في أدب إحسان، خاصة حين يتحول الحب إلى قضية، مؤكدة أن معظم أعمال إحسان – إن لم يكن كلها – قد جعلت الحب محورها الأساسي لكنه جاوز ذلك فجعل من الحب رسالة وقضية حياة "
أن إحسان عبد القدوس من أكثر كتاب العالم استحقاقا للاحترام ؛ لأنه لم يتنازل مطلقا عن قناعاته طوال حياته ورغم أن كتابا كبارا قد ضحوا ودفعوا من أعمالهم وحرياتهم في مقابل موقف يضمن لهم الاحترام للذات أمام أنفسهم ؛ فالقليل القليل من استطاع أن يحول قناعاته من الفكر إلى العمل ؛ من خلال رئاسته لتحرير أكبر المطبوعات العربية من روزا ليوسف الي الأهرام الي أخبار اليوم ولم يتنازل مرة واحدة أمام رأى لرئيس دولة أو رجل أعمال ولم يقبل أن يؤذى أحدا حتى لو كان الثمن التضحية برئاسة تحرير الأهرام مثلا.
إحسان ومحاولة قتل لم تكتمل
ومن مقاله " هذا الرجل يجب أن يرحل " الذى كتبه عام 1942، والذى طالب فيه بخروج اللورد كيلرن من مصر وهو المندوب السامي لأكبر دولة في العالم وقتها وكان عمره ثلاثة وعشرون عاما ؛ منذ هذا الحين لم تتوقف مواقف الرجل ؛ ويأتي عام 1945، ويكتب سابقا بفكره ووعيه السياسي الكثيرين من المفكرين والساسة بمقاله: يا عرب تضيع الآن فلسطين " ثم جاءت حرب 1948ودخل معركته الكبرى في كشف فضيحة الأسلحة ؛ ونال وساما حين تلقى خنجرا ملعونا أمام عمارة الإيموبيليا ردا على شجاعة مواقفه ؛ ثم تأنى الثورة، ويؤيدها كافة المثقفين،لكن إحسانا بعد فترة يدرك بحسه السياسي العبقري ما تقدم عليه الثورة، فكتب مقاله المشهور " الجمعية السرية التي تحكم مصر" وكالعادة يدفع الثمن ويسجن
احسان يحول مجلته الي معمل تفريخ للمواهب.
أما أثناء عمله الصحفي فلم يعرف عنه التدخل في كتابة الصحفيين بالحذف أو الإضافة ؛ إنما حول مجلته إلى معمل تفريخ للمواهب؛ سواء كانوا مفكرين مثل أحمد بهاء الدين أو شعراء كصلاح عبد الصبور أو جاهين أو حجازي وكذلك فناني الكاريكاتير كجورج وبهجت وغيرهم.
فإحسان لديه جرأة في الحق وتماسك في أصعب الظروف، ومبادئ لا تتجزأ حين يمس الموضوع ذاته أو أولاده، فحين قبض على ولده بسبب ميوله السياسية الدينية التي يختلف معها الأب، لكنه يمنح ابنه حريته السياسية ويتحمل كأب أن يقتات ابنه فكرا سياسيا ليس من مائدة الأب الرجل بالفعل موقف.
ويمثل المنهج الذى اختطه إحسان لنفسه وحياته نموذجا صادقا لوضوح الهدف والسعي إلى تحقيقه،حيث كان وضوح الهدف أمامه سبيلا لمسيرة طويلة منظمة نحو الحرية ؛ وقد أعطى مثلا عليا في حياته الشخصية، وهو ما يشهد به حتى أعداؤه الذين لم يقدروا على ذكر ما يعيب؛ سوى ما تعارف عليه النقد بشكل متوال على أن أدب إحسان عبد القدوس موصوف من العقاد أنه أدب فراش
ومع تقديرنا للعقاد كقامة وقيمة متفردة في حياتنا الإبداعية والفكرية بل والسياسية إلا أن للعقاد شعرا كل كتابات إحسان لم تصل لجرأته:
ثناياها.. ثناياها وهل ذقت ثناياها
وعيناها ويا للويل كم تسبيه عيناها
وتلك القامة الهيفاء زانتها زواياها
إذا ما جار ردفاها أقام الجور نهداها عن كتاب عامر العقاد
إذن فالخطيئة التي يقع فيها النقد هي التقييم الأخلاقي للإبداع ؛ وإن الإعراض عن دراسة هذه الأعمال " تعنى الأعمال العاطفية" في بعض الحالات ومهاجمتها في أحيان كثيرة ووصفها بانعدام الأدبية لدليل على اتفاق خفى بين المؤسستين الاجتماعية والنقدية، فتعلى من قيمة بعض الأعمال وتحط من قيمة أعمال أخرى، حسب تأثير كل منها على القيم والأعراف المتوارثة
ومن عجيب الأمور أن هذه النظرة لم تكن موجودة حتى لدى المسلمين الأوائل، بل أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يغضب وهو يستمع إلى كعب بن زهير ينشده بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول، ثم يزيده في وصف " سُعَاده " هذه بجمال الصدر والمؤخرة ؛ ولم يقل النبي ولا صحابته أن هذا الكلام فاحش بل منحه جائزة غالية ظلت تتناقل بين أيدى الولاة فيما بعد وهي بردته الشريفة، بل" لقد استشهد العلماء لغريب القرآن بالبيت فيه الفحش وفيها ذكر الفعل القبيح، ثم لم يعبهم ذلك "
وكتب النقد القديم لا تنتصر مطلقا لهذه النظرة التي تحصر الأدب في هذه النظرة التعليمية الضيقة لكنهم يرونه عملا إبداعيا خلاقا، حتى لو خالف الأعراف والتقاليد وبين أيدينا مئات من الأبيات بل والصفحات التي تعج بالدعوة لشرب الخمر والزنا وغيره وهو ما لم يمنعه الذوق الأدبي وإن منعه الحس الديني ؛ ولسنا بالطبع ندعو لمثل هذا الأدب ولكن نرفض فقط ربط الإبداع بالأخلاق، بل انظر لابن القيم يجمع ما قيل في النساء في كتابه " أخبار النساء وستجده يحدثك عن أبو نواس وهو يتحايل على امرأة لتكشف وجهها، فرآه" ثم رفعت ثيابها حتى جاوزت نحرها فإذا هي كقضيب فضة قد شبب بماء الذهب يهتز على مثل كثيب ولها صدر كالورد عليه رمانتان من عاج يملآن يد اللامس وخصر مطوي الاندماج يهتز في كفل رجراج،وسرة مستديرة تحت ذلك أرنب جاثم وجبهة أسد غادر
والنقد العربي والغربي الواعي يقف ضد هذه النظرة القاصرة للإبداع، والدكتور عبد العزيز حمودة في معرض تقديمه للنظرية الجمالية في النقد لدى كروتشيه يقول:
" فالعمل الفني يجب أن يقوم تقديره ونقده على أساس واحد، وهو أنه عمل فنى، عمل فنى فقط، وليس شيئا آخر"
وربما كان البعض من النقد القديم يحتفل بالنظرة الأخلاقية للإبداع ؛ ولكنه لم يمنع إبداعا
إحسان.. محارب التقاليد
تحت كل سقف مصري حكاية، وخلف كل جدار قصة يرصدها إحسان عبد القدوس.. يرسم بخياله لوحاتها، وبقلمه يكتب تفاصيلها التي تعكس مكنونات النفوس التي ينفذ إليها إحسان كمحلل نفسي بارع يسجل الهواجس والسقطات والتأملات التي تمرّ بها النفس الإنسانية، لذا قامت البوابة نيوز اليوم يوم ذكري ميلاد احسان عبد القدوس برحلة بين أعماله ولنبدأ الرحلة بكلمات احسان الذي يقول:
"أنا دائمًا أقول عن نفسي انني نصفان: نصف خيالي وفني صرف، هذا النصف ورثته عن أبي الفنان محمد عبدالقدوس، أما نصفي الآخر فهو واقعي يعيش الحياة بحلوها ومرها، ذلك النصف الواقعي ورثته عن أمي السيدة روز اليوسف".
نشأ إحسان عبد القدوس المولود في 1 يناير عام 1919 في بيئة اجتماعية متنوعة الثقافة، حيث تأرجح في نشأته بين الثقافة الدينية الصارمة والثقافة التحررية، وقد تمثلت ثقافته الأولى في طفولته التي قضاها في بيت جده لوالده، الشيخ أحمد رضوان، وكان عالمًا من علماء الأزهر، اتسم بالحزم والصرامة مع أهل بيته. وتمثلت ثقافته التحررية في بيئة أمة الفنانة فاطمة اليوسف، وبيئة أبيه الفنان المهندس محمد عبد القدوس.
وتذكر د. لوتس عبد الكريم في كتابها "إحسان عبد القدوس" أن احسان قال: "كان الانتقال بين هذين المناخين يصيبني في البداية بما يشبه الدوار الذهني لكني استطعت التوفيق بين هذه المتناقضات في حياتي بحيث لم تفسد شخصيتي كانسان ولم تقض على مواهبي كفنان وأديب بالحب، الحب هو الذي أعانني على مواجهة كل التناقضات في حياتي الأولى".
بدأ إحسان كتابة نصوص أفلام وقصص قصيرة وروايات وبعد ذلك ترك مهنة المحاماة ووهب نفسه للصحافة والأدب، وأصبح بعد اقل من بضعة سنوات صحفي متميز ومشهور، وروائي، وكاتب سياسي، وبعد العمل في روز اليوسف تهيأت له كل الفرص والظروف للعمل في جريدة الأخبار لمدة 8 سنوات ثم عمل بجريدة " الأهرام " وعين رئيس تحرير لها
احسان: "التابعي" استاذي الاول
وفي مهنة الصحافة يعترف إحسان أن أستاذه الأول هو محمد التابعي، فقد قرأ له في السياسة وهو في العاشرة، وكان يعجب بقوة أسلوبه ويعترف إحسان أيضا بأن التابعي علمه أن يتقن الإنجليزية ويقرأ بها خاصة كتب الأدب والتاريخ.
يقول احسان: " كلما ارتقى الإنسان استطاع أن يواجه حقيقة نفسه.. وكلما ظل الإنسان متأخرا ظل يهرب من الحقيقة.. والحقيقة تلاحقه إلى أن تنتصر عليه! أفسحوا الطريق إن الحقيقة تتقدم!"
احسان مفجر قضية الاسلحة الفاسدة
من القضايا الهامة التي فجرها إحسان بقلمه الحر قضية الأسلحة الفاسدة عقب حرب فلسطين عام1948 وقد اتهم الملك بتقاضي عمولات ورشاوى في صفقة الأسلحة الغربية مما تسبب في نكبة فلسطين وكانت تلك الفضيحة أحد أسباب اندلاع ثورة 23يوليو
إحسان.. قاطرة الفساد
كان إحسان يلقب من قبل المحافظين بقاطرة الفساد؛ حيث تحمل السجن عدة مرات والتحقيق معه عشرات المرات أيضا إضافة إلى محاولات اغتياله والتي بلغت أربعة كانت أولاهن بعد إثارة قضية الأسلحة الفاسدة.
إحسان: رواياتي ليست أحذية
وعلى الرغم من سعيه المستمر لكشف فساد المجتمع اتهموه انه من أصل برجوازي يكتب عن أبطال من أفراد عائلته وفروعها وأغصانها، وان تلك الأغصان سوف تسمم أبناء الشعب المصري، حينها كان إحسان يواصل كتابة عموده الثابت "في مقهي علي الشارع السياسي" ولم يلتفت إلي تلك الشتائم، وتلك كانت أول هزيمة حقيقية في حياة إحسان عبد القدوس، لا سيما وقد نزلت مبيعات كتبه بنسبة 25 بالمائة سنة 1967 وهي الفترة التي ظهر فيها حواره المؤلم تحت عنوان "رواياتي ليست أحذية". في صراع رواياته مع القيم الدينية.
إحسان..الأديب المثمر غزير الانتاج
يقول احسان عبد القدوس: الكتابة قضية عمري، بدونها لا اعرف كيف أعيش، العالم بدونها يصبح بلا معني، وكتابة القصة تسعدني اكثر من الكتابة في السياسة، فلقد كان إحسان عبدالقدوس كاتب مثمر، فبجانب اشتراكه المتميز بالصحافة كتب 49 رواية تم تحويلهم جميعا نصوص للأفلام، 5 روايات تم تحويلهم إلى نصوص مسرحية، 9روايات تم تحويلهم إلى مسلسلات إذاعية، 10 روايات تم تحويلهم إلى مسلسلات تليفزيونية، بالإضافة إلي 56 كتاب متنوع، "، ونجح أدب إحسان في الخروج من المحلية إلى حيز العالمية، وقد ترجمت العديد من رواياته وكتبه إلى لغات أجنبية كالإنجليزية، والفرنسية، والأوكرانية، والصينية، والألمانية.
العقاد: احسان رائد مدرسة الأدب العاري
وصف الأديب الراحل عباس العقاد أدب إحسان بأنه "أدب فراش وأدب جنس"، وأنه رائد مدرسة الأدب العارى، وانه ابن أمه وأنه لا يعتنى بجمله، فهو يكتب السهل غير الممتنع، وتوفيق الحكيم وحقي، يكتبان السهل الممتنع،وقد نسب البعض السبب في انتشار قصصه الى أنها تتعرض للجنس، فكان احسان يدافع عن نفسه قائلا "إن كاتب القصة كالطبيب، من حقه أن يعالج المجتمع ويصوره من جميع نواحيه حتى الناحية الجنسية، دون أن يتعمد أن يكون الجنس هو الموضوع الرئيسي في القصة"، وكان كثير من الناس يقولون لو كان له ابنة، لما كتب القصص التي يكتبها ولما اعتنق الآراء الجريئة التي يدعو اليها.
احسان المدافع عن كرامة المرأة.
كان إحسان يرد على هذا الزعم بقوله "الفرق هائل بين قصة تدنس شرف المرأة وقصة تصفع جهل بعض الأسر بواجبها نحو عملية البناء النفسي السليم لبناتهن! أنا إذن مدافع عن كرامة المرأة.. ولست هادمًا لها أو فاضحًا لهذه الكرامة، والمسألة أولًا وأخيرًا هي زاوية الرؤية لما أكتبه من أدب عن المرأة التي كانت أخطرعامل مؤثر في حياتي".
هل جعل إحسان الحب فوق إحلال والحرام؟
ومن جهة أخرى كان إحسان متهما بأنه استبعد الدين تمامًا من قصصه" وأنه برر للخيانة الزوجية، وجعل علاجها في إحدى قصصه بأن تقوم الزوجة بالخيانة أيضا وان تكون لها علاقات برجال آخرين، وبذلك تتساوى شخصيتها مع شخصه، وعندما رفضت الزوجة فكرة الخيانة، اتهمها طبيبها بأنها تسير وفق تقاليد متحفظة، مهملًا الجانب الديني، واتهم بأنه جعل "الحب فوق الحلال والحرام، وهاجم الحجاب والفصل بين الجنسين"، وقال: على حد ما ذكر بعض النقاد- "إن شرف البنت وعذريتها من التقاليد التي يجب التمرد عليها".
إحسان يعري المجتمع ويفضح عيوبه
على الجانب الآخر عرى إحسان في قصصه العديدة هذه العيوب في المجتمع والتي تشكل خطا رئيسيا في كل أعماله ويقول احسان في هذا الشأن " ومنذ سنين عديدة وجدت في نفسي الجرأة لتحمل هذه المسئولية والهدف هو ابراز هذه العيوب وأن يحس الناس بأن أخطاءهم ليست أخطاء فردية بل هي أخطاء مجتمع كامل، أخطاء لها أسبابها وظروفها داخل المجتمع، ونشر هذه العيوب سيجعلهم يسخطون وسيؤدي بهم السخط الى الاقتناع بضرورة التعاون على وضع تقاليد جديدة لمجتمعنا تتسع للتطور الذي يختاره وتحمي أبناءنا وبناتنا من الأخطاء التي يتعرضون لها نتيجة هذا التطور،وهذا هو الهدف الذي حققته قصصي، لقد بدأ الناس يسخطون ولكنهم بدل أن يسخطوا على أنفسهم وبدل أن يسخطوا على المجتمع سخطوا على الكاتب، أي سخطوا على أنا.
إحسان ومحاربة التقاليد الباليه
كان النقاد يهاجمون احسان عبد القدوس بسبب مهاجمته لتقاليد المجتمعات المحافظة حيث يقول: " هناك مجتمعات عربية لا تزال تحرم الاختلاط بين الجنسين، فلا يستطيع الزوج – مثلًا - أن يصحب زوجته إلى زيارة عائلة صديق، ولا يستطيع أن يظهر بها أمام الناس في منتدى أو ملهى عام، أو يراقصها إذا كان من هواة الرقص،، هذا الزوج وهذه الزوجة ينتظران في كبت، وضيق، وزهق إلى أن يسافرا إلى بلد آخر، حتى لو كان بلدًا عربيًا، وينطلقان، الزوج يقدم زوجته إلى أصدقائه سواء كانوا من بلده، أو من البلد الآخر، ويطوف بها النوادي والملاهي ويراقصها ويعيشان كل حياة المجتمع الذي سافرا إليه إلى أن يعود إلى بلدهما، وهناك يعودان إلى كل ما يفرضه المجتمع المحلي عليهما، لا يصبح لأصدقائه من نفس بلده والذين كانوا في الخارج معه الحق في أن يروا زوجته، ولا هو يرى زوجاتهم،ولا يصبح من حقه أن يخرج معها في الشوارع كما كان يخرج معها في شوارع القاهرة، أو يراقصها كما كان يراقصها في فندق سميراميس".
إحسان كان يعيش مع لسانه
يقول الناقد إبراهيم محمد حمزة في قصة" كان يعيش مع لسانه " يمنحنا الكاتب لحظات من المتعة الساخرة القاسية في سخريتها من طبائع البشر، لنجد ما يشبه الصورة الكاريكاتورية بالغة اللطف لشخصية مصطفى عبد القادر الموظف الناجح المتفوق، والذي لا يعيبه سوى الرغبة الدائمة في الكلام والثرثرة التي لا تتوقف، وتمر سنوات ويسافر بتكليف من الشركة إلى كوريا، ويزور بنات "الكيسنج"،التي هي كصاحبات بيوت "الجيشا" في اليابان، ودخل البيت وجلس بجانب الفتاة الكورية " باولا تاو " يحادثها بالإنجليزية وهى لا ترد لأنها لا تتكلم الإنجليزية وهو سعيد بهذا الصمت والاستماع حتى لو لم تفهم ما يعنيه ؛ لكنها تصمت وتبتسم، ولهذا السبب الوحيد يقرر الزواج بهذه الفتاة التي منحها الله الصبر على الاستماع، وبعد أن وافق المسئولون عنها، وخرجت معه من بيوت "الكيسنج" ؛ وفوجئ أنها تتحدث الإنجليزية ببراعة مطلقة، وفسرت له الأمر بأنه من الممنوع على فتاة "الكيسنج" أن تتحدث سوى اللغة الوطنية ليشعر جليسها بأجواء كوريا القديمة ؛ والأخطر حين تخبره أنها ستعوضه الأيام التي تركته وحده يتكلم.
فساد اليهود امر واقع
في مقدمة قصة الشبكه وثقوبها يقول احسان " هذه ليست قصة.. إنه حادث كان يمكن أن أرويه كما أتصوره وهكذا أنا دائما لا أستطيع أن أهرب من خيالي ويضيع منى الصحفي داخل الأديب"، وتبدأ القصة قائلا: " كان كل بلد أسافر إليه أسمع قصة؛ وفى رحلتي الأخيرة سمعت قصة حافظ حمدي"، المسلمون هناك في تايلاند قوة لهم خمس ولايات من ولايات تايلاند يمثلون بها الأغلبية المقهورة الضعيفة أمام سيطرة البوذية "، القصة تدور حول حافظ حمدي، وهو نجم مجتمع بانكوك، عاصمة تايلاند تقدمه القصة باعتباره تاجر مصري مسلم ناجح له تأثير شديد في المجتمع وتأثير خاص بين المسلمين الذين يجلسون أمامه وهو يشرح لهم القرآن والسنة ؛ ورغم ذلك فعلاقته بالبوذيين طيبة ومهمة ؛ بل إنه يؤدى المناسك البوذية أمام تمثال بوذا !!، حتى إن خادمته في الفيلا " أوكشيه " بوذية،وفجأة يموت حمدي ويذهب المسلمون لاستلام جثته وتشييعها ويفاجأ الجميع باختفاء الجثة ويلاحظون أيضا اختفاء الخادمة " أوكشيه " وحين يعثرون عليها في المعبد نجدها تصلى أمام جثة حافظ حمدي ؛ والكهنة مصرون على أنه بوذي، وتشتعل الحرب حتى تتدخل السلطات لتسليم الجثة للسفارة، ويسير المسلمون بها كأكبر جنازة إسلامية، حتى تحدث مفاجأة ثقيلة..وهى وصول برقية إلى السفارة المصرية تؤكد أن حافظ حمدي يهودي وزوجته يهودية، وصاحب الرسالة يهودي ؛ وبالفعل يتضح أنه يهودي هاجر من مصر عام 1955م ثم هاجر لفرنسا ثم إسرائيل ثم تايلاند ؛ ثم يعلق الكاتب: إنها حكاية اليهودي الذى يلعب بشبكة الأديان ويصطاد بها المسلمين والبوذيين، ولو احتاج لاصطاد بها المسيحي ... إنها شبكة عريضة تسع العالم.. وكلها ثقوب "، والقصة بهذه الوضعية انتقلت من ذروة درامية إلى ختام هادئ لتصحيح الوضع لدى القارئ، بحسب الناقد نفسه حيث بطل القصة الذى يمثل بطولة وهمية ويخفى حقيقة بشعة وينكر وضعا معينا من أجل خداع الجميع .... حتى يكتشف القارئ في النهاية أن فساد اليهود أمر واقع في النهاية.
وسادة احسان الخالية
في حياة كل منا وهم كبير اسمه الحب الأول،لا تصدق هذا الوهم حبك الأول هو حبك الأخير"، هكذا بدأ احسان عبد القدوس روايته.
كان يحس بالتعب، ويحس بحاجته الشديدة الى النوم وكان يعلم ان الفراش الوحيد الذي يرتاح فيه هو فراشه في بيته ولكنه لم يستطع ان يذهب اليه، فقد كان يخاف شيئا في الفراش.
يخاف الوسادة التي رسم فوقها بخياله، رأس سميحة، انه لا يزال يحبها، وسيحبها دائما، ولكنه يريد ان ينسى حبه.. يريد ان يستريح من هذا السكين الحاد الذي يتحرك في قلبه، وهذا الهواء البارد الذي يملأ صدره كلما لمح ابتسامة تذكره بابتسامتها، ويريد ان يستريح من الأفكار المجنونة التي تطوف برأسه كلما تذكر ان سميحة اصبحت لرجل آخر، وانها تضحك له وتضع ذراعها في ذراعه.
البنات والصيف واحسان
إحسان عبد القدوس يدخل عالم البنات والصيف ينسج من حكاياتهم رواية شخصياتها مايسة وديدي وناهد ومدحت وسامي وماجد والصيف زمانهم والشاطئ مكانهم ومشاهد تتوالى وأحداث تتشابك وعواطف تلتهب والبقية تأتي
وصعدت الى غرفتها، واغلقت الباب وراءها بالمفتاح.
وحاولت ان تنام.
ولم تنم.
وكانت مدعوة في المساء لحضور حفلة شاي في حديقة النزهة تقيمها جمعية "الخبز للجميع" بمناسبة وضع الحجر الاساسي لمبناها الجديد.
وذهبت في الساعة السابعة مساء، ترتدي ثوبا من الشيفون الشفاف الاسود فوق قميص من الستان الاسود.. وكانت ترشق في الثوب دبوسا من الماس، وفي يدها ساعة رقيقة من الماس، وفوق كتفيها شال من الحرير الاخضر.
ودخلت الحفل تخطو خطواتها القوية النشيطة، وتفسح طريقها بعينيها النشيطتين. انها دائما نشطة، وانشط ما فيها دائما، عيناها. وكان وصولها الى الحفل اعلانا لبدئه. انها ملكة الجمعيات الخيرية.
الساعات الأخيرة قبل الغروب
يكتب إحسان في مقدمة قصة "الساعات الأخيرة قبل الغروب": "كثير من القصص التي كتبتها ترسم شخصيات من المجتمع الذي كنا نطلق عليه قديما لقب "أولاد الذوات" وهو مجتمع يمثل طبقة الرأسمالية والإقطاع، ولكن هذه الطبقة لم تنقرض ولم تنته أبدا خلال الثورة وإلي اليوم وإن كانت قد تغيرت أسماؤها وألقابها، وقد مرت مرحلة انتقلت فيها هذه الطبقة إلي داخل النظام البيروقراطي، وتغيرت بالتالي الألقاب التي يحملها أفرادها، فلم تعد (باشا) و(بيه) و(صاحب الرفعة) ولكنها أصبحت(سي السيد) (الوكيل الأول) و(المدير العام) و(الوزير) و(رئيس مجلس الإدارة) و(العضو المنتدب)، ثم انتقل المجتمع إلي مرحلة أخري اتسعت فيها هذه الطبقة، فأصبحت أغلبيتها من رجال الأعمال وهي التي نعيش بينها أن تبرز أخبارها في الصحافة وتبرز شخصياتها في القصص، المهم أني عندما أعرض هذه القصص فإني لا أقول رأيا ولكني أسجل ربما للوحة (اجتماعية)".
نظارة احسان السوداء
بطلة النظارة السوداء حقيقة لا كلمات،كانت شيئًا يدب على الأرض، كانت حيوانًا جميلًا أليفًا محرومًا من كل المتع التي خص بها الله الإنسان، وكانت تعتقد أن هذه هي الحياة، أما الآن فقد أصبحت فتاة أخرى... إنسانة تحس بالألم أو السعادة، وتطوف مع الأحلام، ثم إن نظارتها لم تعد سوداء،وكانت فيما سبق صاحبة النظارة السوداء التي كانت لها هذه الحكاية لم يكن لها شعب، ولا وطن، ولا هدف، ولا شيء تغار عليه وتتحمس له.. كانت شيئا ضائعا لا خطوط له ولا حدود. شيئا كهذه الرغوة التي تطفو على سطح مياه البحر قرب الشاطئ، تختفي حينا وتظهر حينا، دون ان يكون لها اثر، ولا اهمية، لا بالنسبة للبحر، ولا بالنسبة للشاطئ، مظهر واحد كان يحدد شخصيتها وهو هذه النظارة السوداء التي تضعها على عينيها دائما، صباح ومساء، وهو لم ير فيها-عندما رآها لأول مرة- الا هذه النظارة السوداء، وصليبا من ذهب يتدلى فوق صدرها ويترنح بين طياتها ثوبها كانه يحاول ان يختبئ خجلا من صاحبته ومن عيون الناس.
اين رآها لأول مرة؟ انه يذكر اليوم والمكان بالتحديد - 5 يونيو عام 1943- ملهى "الرومانس" بالإسكندرية.
رآها واحتقرها، وثار في نفسه هذا الاشمئزاز الذي كان يثور في نفسه كلما رأى واحدة او واحدا من هذه الطبقة الراقية التي تعود ان يكرهها ويحاربها قبل ان يصبح عضوا بارزا فيها، كانت يومها تضحك كثيرا، وتشرب كثيرا،وتطوف بين الموائد والكأس بيدها تداعب الرجال، والرجال يقابلون دعابتها في ترحيب ينقصه الحماس، وكأنهم تعودوا منها هذا الضحك الكثير، وهذا الشرب الكثير، وهذه الدعابات.
احسان ورواية لا انام
كتب احسان في المقدمة قائلا: "أنا الخير والشر معًا لأني انسان"
الى اطيب البنات قلبا،واشدهن احساسا بضميرها، وكل جريمتها انها ارادت ان تكون اكثر من انسان،الى "ن" وقد اعطتني قصتها، ثم ذهبت بعيدا، بعد ان اخذت حفنه من ايامي، وقطعة من قلبي
عزيزي احسان:انا نادية لطفي
وانت لا تعرفني، وان كنت قد استطعت ان ادير عنقك في المرتين اللتين وقعت عيناك فيهما علي، مرة على شاطئ سيدي بشر بالإسكندرية، ومرة في فندق سميراميس بالقاهرة،وفي كلتا المرتين لم اهتم بالتفاتتك كثيرا، فقد تعودت ان ادير اعناق الرجال، وباختصار انا جميلة،واحدة من اجمل فتيات القاهرة وقد قلت لك اني تعودت ان ادير اعناق الرجال بما فيها عنقك، ولكني لست فخورة بجمالي ولست متباهية به، فلم ينقذني الجمال من الشر، بل ربما كان سببا من الاسباب التي تدفعني اليه، وكم تمنيت على الله الذي وهبني الجمال ان يسترده مني نظير ان يدلني على طريق الخير!.
في بيتنا رجل
في بيتنا رجل قصة دارت في الوقت الذي سبق انفجار أحداث الثورة في مصر حيث كانت النفوس تغلي من قهر الاحتلال، وكان مكانها القاهرة، أما البطل فهو محيي الدين المصري المخلص.
ابراهيم حمدي طالب الجامعة الذي مات زميله وصديق عمره في مظاهرة على كوبري عباس برصاص العدو يجد نفسه من الغليان وكأنه يريد أن يلتهم كل عسكري إنجليزي يقابله، لكن إن كانت للعدو مبرراته مهما كانت كاذبة وواهية، فليس هناك أي مبرر لابن البلد الذي يبارك الاحتلال ويحارب أبناء بلده في صفوف العدو، من هؤلاء أحد عملاء المحتل، وبديهي عندما تأتي الخيانة من عدو فهذا ليس بمستغرب لكن أن تأتي الخيانة ممن تظنه معك وهو ضدك فتلك هي المأساة، لذلك قرر إبراهيم أن ينظف البلد أولا من الخونة المصريين بأن اغتال هذا العميل، في إحدى المناسبات التي يحضرها ولم يستطع الهرب حيث احاط به الحرس الخاص وأوسعوه ضربا حتى تم نقله إلى المستشفى للعلاج،بالاتفاق مع زملائه دبروا له عملية هروب، فهرب، لكن إلى أين ذهب ؟ سأل نفسه، البوليس سيحاصر بيته بمجرد اكتشاف الهروب، وكذلك بيوت أصحابه، تذكر زميله محيي الطالب المسالم الذي لا يعرف من السياسة إلا اسمها وبالتالي فهو بعيد كل البعد عن تفكير البوليس السياسي،ذهب إلى حي العباسية حيث يسكن محيي، وكان آذان المغرب قد حل وجلس أفراد أسرة الأستاذ زاهر لتناول الإفطار، طرق الباب، فتحت له نوال، رأته، وكان حلمها قد تحقق، فقد كانت معجبة ببطولته وصورة التي تملأ الجرائد حينما يعلنون حملات البحث عنه بعد أن هرب من السجن، وعرضت الأسرة نفسها للخطر بقدوم هذا الوافد الهارب، وعاش ابراهيم في البيت 3 أيام عرف فيها معنى السلام والحرية وأحب نوال، ثم اضطر لترك البيت رغم حلمه بالزواج من نوال، وتعرض محي صديقه للتعذيب ولم يتكلم عن مكان ابراهيم، وقرر أصحاب ابراهيم أن يسافر خارج البلاد متنكرا، ومع حركة الباخرة، سأل نفسه أيهما أكرم لي أن أعيش في فرنسا أم أموت في مصر ؟ وعاد وسط دهشة زملائه الذين خططوا معه لأكبر عملية فدائية وهي تفجير مخازن الذخيرة في العباسية، ليلقى بعدها ابراهيم حتفه برصاصة غادرة مودعا الحياة، وعقرب الساعة يدور وقلب نوال يخفق، وهي جالسة في حجرتها فوق فراشها تصلح سترة البدلة التي سيرتديها ابراهيم في هربه بدلة الضابط،ولم تعد تتصور هذه البدلة كفنا لا براهيم. او لحبها. إنها تضمها بإصبعها كأنها تحتضن أحلامها وتمرر إبرتها في نسيجها بحنان وحرص كأنها تخشى على النسيج ان تجرحه الابرة، وتنظر اليها بعينين مبتسمتين كأنها تنظر إلى ثوب عرسها،هل سيأتي إبراهيم للقائها وهو مرتد هذه البدلة.. كيف يبدو بها، وابتسمت وهي ترى في خيالها قامته النحيفة الطويلة، وعينيه الواسعتين. وشفتيه الرقيقتين فوق فكه العريض القوي، وانفه الكبير كأنه رأس سهم موجه الى صدر عدوه، وكل ذلك في بدلة ضابط،لقد اختفت المأساة من حياتها ومن تفكيرها، ولم يخطر على بالها ان ابراهيم قد لا يأتي الى لقائها، قد يقبض عليه،وقد يستمر في هربه حتى يتجاوزها ويتجاوز مكان اللقاء. "
زوجة أحمد
تروي هذه القصة سيرة امرأة وزوجة وأم، وبعينين هذه المرأة متلهفًا لأن يعرف الحل لمثل هذه المشاكل وهذه التفاصيل التي مرت معه، أو سوف تمر مع أولاده... تحوي هذه الرواية الكثير من حياته مع زوجته لولا، يقول احسان في القصة "زوجتي نموذج فريد للمرأة النادرة الوجود شعلة محبة ووهج عطاء وخلاق، عطاؤها بلا مقابل، ويكفي انها تعيش وتكرس كل الظروف وتهيئ كل الاجواء، من أجل أن أعمل في هدوء، ويكفي أنها تتحمل قلقي وتوتري ومعاناتي بصدر رحب، أعجب بيني وبين نفسي كيف ملكت زوجتي كل هذه الطاقة لتتحملني، ويبدو لي أحيانًا إني انسان لا يطاق، وقد أبدو أنانيًا في بعض الاحيان، كثير من الناس يقولون لي: لو كان لك ابنة لما كتبت هذه القصص التي تكتبها، ولما اعتنقت هذه الآراء الجريئة التي تدعو اليها، وانا اري ان الكاتب عندما يكون رأيه، انما يكونه نتيجة نظرته الى المجتمع كله، لا نظرته الى نفسه، ولا الى عائلته. ورغم هذه ففي عائلتي بنات كثيرات، كلهن قرأت قصصي، واتمنى لو كل واحدة منهن سمعت كلامي، وهذا الخطاب اهديه الى صغيرتي فاطمة الجندي ابنة اختي والى كل بنات الناس، لعلي أراهن جميعا سعيدات.
"أين عمري؟"
يقول احسان في "أين عمري" "إن العمر لا يحتسب بالسنين، ولكنه يحتسب بالإحساس، فقد تكون بالستين وتحس انك في العشرين، والعكس صحيح ".
لم يعد من عمرها – عمر التاسعة عشرة – إلا بشرتها وبعض نضارتها القديمة، ولم يعد لها من ومضات عمرها، الا هذه اللفتات التي تنطلق من عينيها، احيانا كلما مرت في شارع ( البارون) بضاحية مصر الجديدة ولمحت مواكب العشاق، او كلما رأت زوجة شابة سعيدة بزوجها الشاب. وهي لفتات لم تكن تدري لها سببا،انما كانت تتنبه الى نفسها فتدير عينيها وتعتدل في جلستها، وتعود كما كانت وكأنها امرأة في الأربعين، فبطلة "أين عمري؟" ل"إحسان عبد القدوس" التي ارتبطت بعد الثلاثين اكتشفت نفسها من جديد؛ فالراوي يحكي عنها: "لم تعد هذه الذراع مجرد قطعة منها تتدلى بجانبها، إنما أصبحت تحس بها، وتحس بالدماء تجرى فيها، وتحس أنها قطعة غالية ربما لأنها اكتشفت أنها تستطيع بها أن تتعلق بذراع خالد"، إن ارتباطها بخالد أمدها بالحياة ذاتها بل وبقيمة هذه الحياة، وفوق ذلك بإدراكها لنفسها بعد أن توقف تماما إحساسها حتى بجوارحها.
"أنا حرة"
أما في قصة "أنا حرة" يقول "احسان" الحرية هي المسئولية، وعندما تقول فتاة أنا حرة فهي تقول انا مسئولة".
وكانت في كل مرة تعود من انطلاقها لتستقبلها عمتها بالشبشب. وكان احيانا يكون في استقبالها زوج عمتها، وكانت في بادئ الامر تبكي وتصرح وتستغيث وهي تحت الصفعات وضربات الشبشب، ثم بدأت، تدافع عن نفسها وتصرخ وتصد الضربات بذراعيها، وتجادل عمتها وزوج عمتها وقد صاحت في وجههما يوما:
- أنا حرة.. أعمل اللي أنا عايزاه.. ما حدش له دعوة بيه واخرسها كف زوج عمتها بصفعة على شفتيها، وردت عمتها: حرة ! حرة لما يلهفك، قليلة التربية وعندما هدأت اخذت تكرر بلهجة ساخرة: انا حرة. انا حرة. انا حرة.ثم انطلقت دموعها مرة اخرى.
هل هي حرة، وهل يقدر لها يوما ان تكون تفعل ما تريد، متى ستخرج من هذا البيت، والى اين.
انها لو خرجت منه، فستخرج الى بيت زوجها. رجل كزوج عمتها يحدد حريتها بأربعة جدران وبالمقابلات والزيارات وحفلات الزار او رجل آخر. واحمر وجهها وهي تذكر هذا الرجل الآخر.. فقد كان في حينها رجل آخر فعلا. رجل تكرهه وتشمئز منه، وستكرهه طول حياتها؛ وتشمئز منه طول حياتها.
"لن أعيش في جلباب أبي"
في جوّ مصري صميم تجري أحداث هذه الرواية، وإحسان عبد القدوس بريشته يعكس مدى الصراع الذي تتناوب أزماته على عائلة عبد الغفور البرعي الذي كان له حظ كبير في جمع ثروة كانت السبب في أزمات ابنه الوحيد عبد الوهاب ومن ثم بناته الأربع.
تتابع الأحداث لتكشف عن هذه العقدة التي استحكمت بالأبناء وكشفت عن محاولات الابن في أن يكون هو عبد الوهاب لا ظلّ أبيه.
بعبارة أخرى أن ينظر إليه شخصيًا لا من خلال ثروة أبيه وشخصية أبيه. في حومة هذا الصراع يخسر عبد الوهاب الكثير، وعقد عبد الغفور البرعي كذلك تمتد إلى البنات الأربع اللواتي كان حظهن في الزواج، ممهورًا بثراء أبيهم.
لذا كتب لبعضه الفشل المنتهي بالطلاق، ولبعضه الآخر الفشل الضمني. ولكن نظيرة الابنة الصغرى التي كانت على جانب من الوعي والثقافة والنضج حاولت أن تضح زواجها من حسين في إطاره الصحيح. وبأسلوبه الشيق تمضي القصة ليكشف إحسان عبد القدوس من خلالها عن هذا الخلل الاجتماعي الذي بالإمكان تداركه بالوعي والنضج.
إحسان وجرأة كاتب
يقول إحسان عن أعماله: "كل القصص التي كتبتها كانت دراسة صادقة جريئة لعيوب المجتمع، وهي عيوب قد يجهلها البعض ولكن الكثيرين يعرفونها، وهي عيوب تحتاج لجرأة الكاتب حتى يتحمل مسئولية مواجهة الناس بها"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.