ثمة موجة روائية في المرحلة الراهنة يمكن وصفها بأنها امتداد لروايات المصري احسان عبد القدوس التي كانت شغف النساء والمراهقات في مرحلة ما، فضلا عن أن المسلسلات والأفلام التي اقتبست من رواياته شكلت صدمة إيجابية في الوعي النسائي، وكانت إيماءً على أحوال جديدة في النظرة الى المرأة وقضيتها ومشاكلها في العالم العربي. تحتاج موضة الرواية القدوسية الى بحث مطول، لأنها تعكس واقعا ثقافياً جديداً لا يمكن فصله عن ثقافة الصورة، فإذا كان ثمة توجه لدى بعض النخبة للابتعاد عن الرواية السهلة والاغراق في الغموض و{تعذيب» القارئ، ثمة موجة أخرى جوهرها «فاست فودي» اذا جاز التعبير، خصوصا في الرواية السعودية التي يمكن وصفها بأنها «تمردية» على الواقع القائم والتقليدي، بل تعكس الواقع المسكوت عنه، وفي مصر هناك موجة روايات المدونات وهي ايضا تمردية لكن لا تبتعد عن نقل «الحدوتة» (الحكاية) بالمعنى المصري. سبق عبد القدوس الجميع الى الرواية السهلة، كان يعرف ما يريده القارئ، ربما لأنه يعرف ما تريده نفسه، يكتب من دون ادعاء، عاش واحدًا وسبعين عامًا، خلّف تسعة وخمسين عملاً أدبيًّا، منها اثنتان وعشرون رواية، بدءًا من «أنا حرة» عام 1954، وانتهاءً ب{قلبي ليس في جيبي» عام 1989، إلى جانب اثنتي وثلاثين مجموعة قصصية، بدءًا من مجموعة «صانع الحب» عام 1948، وانتهاءً بمجموعته «لمن أترك كل هذا» عام 1990. تعكس رواياته واقع مرحلة زاخرة في مصر، انتشرت لدى الجمهور العريض وانتقلت إلى الشاشة، لكن معظم النقاد تجاهلوه، أما الذين ذكروه ففعلوا ذلك من منطلق هجومي بزعم أنه «أديب الفراش». يرد عبد القدوس على الاتهامات التي وجهت اليه قائلاً «الفرق هائل بين قصة تدنس شرف المرأة وقصة تصفع جهل بعض الأسر بواجبها نحو عملية البناء النفسي السليم لبناتهن! أنا إذن مدافع عن كرامة المرأة، لست هادمًا لها أو فاضحًا لهذه الكرامة. المسألة أولاً وأخيرًا هي زاوية الرؤية لما أكتبه من أدب عن المرأة التي كانت أخطر عامل مؤثر في حياتي». يضيف: «أنا لا أعترف مطلقًا بأن الجنس هو موضوع قصصي، لكن كل الذي حدث أنني تحملت مسؤولية التطوير في أدب القصة العربية. أنت يمكن أن تقرأ قصصًا وتقارنها مع الأدب العالمي الراقي، وستجد أننا متأخرون للغاية نتيجة التقاليد البالية والتفسيرات الاجتماعية القديمة. فأنا حاولت وكانت لدي الجرأة أن أطور هذا الأدب وأكشف الواقع كما هو، ليس اعتمادًا على مشهد جنسي ولكن على موضوع متكامل». لا تبتعد روايات عبد القدوس عن الواقع المصري، بل لا تنفصل عن حياته، لنقل إنها تشبه شخصيته، نشأ في بيئة اجتماعية قلقة، فقبل كل شي، والدته روز اليوسف، أصبحت يتيمة وهي في السابعة من عمرها، بدأت حياتها ممثلة ناشئة في فرقة عزيز عيد المسرحية، وتعلمت في تلك الفترة القراءة والكتابة والتمثيل، وأصبحت الممثلة الأولى في مصر. تعرفت إلى المهندس محمد عبد القدوس في حفل أقامه النادي الأهلي وكان عبد القدوس عضوا في النادي ومن هواة الفن، فصعد على المسرح وقدم فاصلا من المونولوغات، فأعجبت به روز اليوسف وتزوجته، فثار والده وتبرأ منه وطرده من بيته لزواجه من ممثلة، فترك الإبن وظيفته الحكومية وتفرغ للفن ممثلا ومؤلفا مسرحيا. المهم القول إن عبد القدوس تأرجح في حياته بين الثقافة الدينية الصارمة والثقافة التحررية، تمثلت ثقافته الأولى في طفولته التي قضاها في بيت جده لوالده، الشيخ أحمد رضوان، وكان عالمًا من علماء الأزهر، اتسم بالحزم والصرامة مع أهل بيته. تمثلت ثقافته التحررية في والده محمد عبد القدوس، الكاتب والمثقف، ووالدته روز اليوسف التي أصبحت من رموز مسرح رمسيس. هذا له اثره الكبير في تكوين شخصيته الأدبية وجعله يقول: «وقد أثر فيّ اختلاف المجتمعين اللذين أعيشهما تأثيرًا أساسيا في تكوين شخصيتي وعقليتي، مجتمع جدي المحافظ المتزمِّت في تديُّنه ومجتمع أبي وأمي. وجدت نفسي حائرًا بين المجتمعين وهو ما عودني ألا أستسلم للواقع أبدًا إلا بعد أن أدرسه وأفكر فيه إلى أن أثور عليه وأعترف به. كنت منذ طفولتي أرفض التقاليد الاجتماعية بعد تفكير وعلى مسؤوليتي الخاصة». تلفزيون لإمرئ كان يتابع التلفزيون قبل انتشار الصحون اللاقطة والفضائيات أن يستذكر جيدا المرات الكثيرة التي كان يقرأ اسم احسان عبد القدوس في نهاية الأفلام او المسلسلات التي كانت تقتبس عن رواياته. أذكره أكثر من الأبطال والمخرجين، اسمه بقي راسخا في ذهني. ثمة روائي آخر كان شبيها بعبد القدوس، لكن على مستوى لبنان فحسب وهو بيار روفايل الذي توفي قبل مدة. ازدهرت كتابات الأخير في لبنان ومصر في الخمسينات والستينات وبقيت حتى اوائل التسعينات، وتألق على أيدي بعض الصحافيين ممن عملوا في الصحافة الفنية أمثال روفايل وجورج ابراهيم الخوري. كانت هذه الكتابات القصصية مرصودة للنشر في حلقات في المجلات الفنية الأسبوعية مثل الشبكة والحسناء، يومها كانت المجلات الفنية لها صداها لدى بعض اهل الثقافة، ومع أن موضة بيار روفايل انتشرت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي في لبنان، يبدو انها وجدت صداها قبل سنوات في السعودية تحديدا. قدرة روفايل وعبد القدوس وبعض الكتاب الآخرين أنهم يعرفون ما الذي يجذب القارئ، يدركون سوسيولوجيته، هم يكتبون الروايات التي تُشترى في محطات القطارات، وتُقرأ في الرحلات الطويلة، ثم تُرمى في محطة الوصول او هم يكتبون روايات كالمسلسلات العابرة والأفلام الشعبية. يكتبون روايات الاسترخاء والاستهلاك، وهي من طراز الروايات الشعبية الخفيفة. لا شك في أن من يتابع كتابات روفايل يلاحظ احترافه في انتقاء المواضيع التي تناسب الموضة، كان حريفاً في اختيار عناوين كتبه، بعضها أقرب الى الرومانسية وبعضها الآخر الى أسماء لأغنيات او عناوين لأفلام مصرية قديمة. اعتمد روفايل على الكلشيهات الشعبية واللغة الروحانية، اذا جاز التعبير، يعنيه ما يتفوه به الناس، الكتابة بالنسبة اليه صناعة اكثر منها عبقرية وتأليفاً، انه المحترف في لعبة التسويق من دون ان يكون في الواجهة، كتب الرواية لكنه أبقاها من دون «هالة» ثقافية، من دون الروائي ومن دون البحث عن التجريب، وما ينبغي قوله ان لرواج قصصه رواية ما، ودلالات كثيرة لم تناقش يوما، ربما اليوم نجد ما هو شبهها في جمهور «ستار اكاديمي» وتلفزيون الواقع، او في جمهور الروايات السعودية. بيار روفايل واحسان عبد القدوس نموذجان للموضة الثقافية على نحو ما نقول إن «باب الحارة» السوري و«نور» التركي نموذجان لموضة المسلسلات التلفزيونية. روفايل وعبد القدوس اشارة إلى القارئ الذي لا يحب الاستعراض والتعقيد. صورة الروائي الصورة المرسومة لعبد القدوس لدى الجميع أنه رجل متحرر اكثر من اللازم، يتقرب نساء رواياته من أي رجل وفي أي وقت ومكان، و تبحث بنات قصصه عن الحرية بمعناها قبل أي معنى آخر. نقرأ أنه لم يكن يسمح لزوجته أن تخرج من البيت بمفردها، وعندما يكون مسافرا يطلب منها ألا تخرج، بل وترفض كل الدعوات التي توجه اليها مهما كانت، وكان صعبا معها في موضوع الملابس، لدرجة أنه كان يشترط عليها أن تكون ملابسها محتشمة لا تصف ولا تشف! بلغ من محافظته والتزامه أن أمه أرسلت أخته إليه التي كانت أكثر تحررا كي يعاقبها بنفسه، كانت أخته تركب «البسكلتة» مع ابن الجيران، فأرادت والدته أن تضع حدا لشقاوتها، فأرسلتها الى أخيها لتعيش معه في العباسية. لم يعترف عبد القدوس إلا بعلاقته النسائية الأولى يقول: الحب الأول في حياتي كان لبنت الجيران، كانت صديقة لابنة عمتي، وكان حبا أعتبره من أرقى وأنظف وأعمق أنواع الحب الذي يجمع بين صبي وصبية، كان عمري وقتها 14 عاما، وهي 13 عاما، كان حبا قويا بالنسبة إلي شخصيا، وكان لا يتجاوز أنها تزور ابنة عمتي وأجلس معها كما كانت التقاليد، كان أمرا راقيا في معناه وكنت أنتظرها على محطة الترام وأركب معها لأوصلها الى مدرستها. ثم أعود على قدمي بعد ذلك الى مدرستي فؤاد الأول، وكل الذي كان يجمع بيني وبينها لا يعدو أكثر من أن امسك يديها وكان ذلك منتهى الرومانسية . ** منشور بصحيفة "الجريدة" الكويتية بتاريخ 21 يوليو 2008