صدرت عن الدار المصرية اللبنانية مذكرات الكاتبة الدكتورة لوتس عبد الكريم بعنوان "رحلة البحث عنِّي.. رواية حياة"، وهي سيرتها ومذكراتها التي تقع في مجلد ضخم يستغرق 700 صفحة من القطع الكبير، وتصدّرت الغلاف لوحة "بورتريه" شخصي للكاتبة، رسمها الفنان الياباني "زهاي". وأهدت د.لوتس مذكراتها إلى أمها وأبيها في مقدمة الكتاب حيث كتبت "إلى أمي سيرتي في الأدب والفن.. أبي سيرتي في العلم والحياة.. إليكما في مقام الكشف". وقالت لوتس في بيان صادر عن الدار المصرية اللبنانية إن فكرة كتابة المذكرات، واتتها في مدينة مكةالمكرمة، حين كانت هناك في رحلة إيمانية، وسيطرت عليها هواجس النهاية، وتذكرت قول أديب مقرّب إلى روحها هو "ميخائيل نعيمة"، وذلك حين قال: "إنني جاهز للرحلة معي جواز السفر، وبه فيزا الدخول إلى العالم الآخر، أنا بالباب أنتظر دوري، لا أستطيع التكهن بمرحلة الترانزيت، ولكنِّي أستعد للمساءلة، وقد انتهيت تمامًا من كل عقبات الحياة وإجراءات السفر". وتقول لوتس إن هذه السيرة لا تخص صاحبتها وحدها، بل تخص جزءًا من تاريخ الأمة مصريًّا وعربيًّا، حيث كانت شاهدة على العديد من الأحداث الكبرى التي مرّت بها المنطقة وكيفية تشكّل الحياة الدبلوماسية العربية، فضلًا عن أسرار المرحلة الملكية وخفاياها وألغازها، وخالها أمين باشا عثمان وحادث اغتياله، وقيام ثورة يوليو 1952م وجمال عبد الناصر، وعلاقتها الأسرية بعائلة الزعيم، وكيف كانت مصر في هذا الوقت طموحًا على المستوى السياسي، قاسية صارمة على المستوى الإنساني، فالثورة لم تتسامح مع من وقف ضدها، أو من قامت ضدّهم، مما خلق لها أعداء كثيرين، عرفتهم. ولدت لوتس عبد الكريم في الإسكندرية وكان القرار الأول الصعب الذي اتخذته هو دراسة الفلسفة وكان من بين أساتذتها في قسم الفلسفة د.أبو العلا عفيفي، ود.نجيب بلدي، يوسف كرم ود.ثابت الفندي، ود.أحمد أبو زيد، ود.محمد زكي العشماوي. وكانت الكاتبة من المعجبات بروايات يوسف السباعي، وتمنت لقاءه وقرأت بالمصادفة نبأ حضوره إلى الاسكندرية، فأخبرت صديقاتها، وجئن مثل المجنونات إلى فندق البوريفاج حيث يقيم، وتقول إن هذا اللقاء أعادها إلى نفسها وكانت مشغولةً عنها بالدراسة والعمل والمشكلات التي لا تنتهي. سافرت لوتس بعد ذلك إلى لندن وأكسفورد وهما أول الطريق، لتكملة تعليمها، حيث التحقت هناك بجامعة سوانزي، وبدأت حياة جديدة، في الدراسة والحياة الأوروبية، وفي الجامعة وبين الزملاء، تعددت المواقف والمحاضرات العلمية، التي تقف أمامها د.لوتس بكثير من التفصيل حول طبيعة التعليم الأوروبي، وماذا يعلمون الشباب، وكيف يقسمون وقتهم، وكيف يعاملون العربي داخل الجامعة وفي الشارع، وأنواع العمل المناسب للصناعات الحديثة. وفي فصل طويل يوضح طبيعة الحياة هناك وبعد انتقال زوجها للعمل في اليابان، تقف الرحلة طويلًا أمام أجواء الشرق وسحره، وسلوك أهله وعلاقات الشرق بنا، وقبل اليابان كانت إسبانيا، وبعدها إيطاليا، ثم نقطة الطلاق من زوجها، والذهاب إلى مكة للاستجمام، وزواجها مرة أخرى. وفي مكة تعرفت د.لوتس عبد الكريم بمجموعة من الشخصيات المصرية، وصفت علاقتها بهم بشكل من الموضوعية والإعجاب، ودورهم في حياتهم ومنهم زينب الغزالي. فتقول: فجأة دخل إلى الصالة التي نجلس بها زوار كثيرون، والتفتُّ فوجدت إحدى السيدات تناديني، وقمت بسرعة فوجدت الفنان حسين صدقي، وكان قد اتجه اتجاهًا دينيًّا عميقًا مع زوجته الحاجة سميرة، ومعهما سيدة وقور مسنة لم أتعرف إليها، وقدمتني إليها الحاجة سميرة قائلة: "أعرفك بالشيخة زينب الغزالي"، زعيمة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت، وصافحتها فإذا هي تبادرني غاضبة: "لماذا أنت جالسة مع آل فرعون؟"، وتقصد أسرة الزعيم عبد الناصر، وأكملتْ: "اجلسي هنا معنا تشملك البركة". تركتهم وجلست إلى جوارها فإذا هي تقول لي بعد أن همست في أُذن صديقتها:"أريدكِ أن تبقي معي فأنا وحدي وفي حاجة إلى مرافقةٍ صغيرةٍ وقوية مثلك". وقلت لها: "أين تسكنين؟"، أجابت: "لا تسألي"، قلت لها: "إن نقودي لم تصل بعد"، أجابتني: "لا عليكِ نتحاسب فيما بعد"، وهكذا وجدتني فجأةً في مكانٍ رحبٍ فسيحٍ وغرفتين واسعتين تطلان على مقام الكعبة الشريفة، المكان جميل وأنيق أناقة فائقة. بعد قليل وصل خدمٌ كثيرون يحملون سلال الفاكهة، وصواني المأكولات الفاخرة والمشروبات، وكل ما تشتهي الأنفس في أوانٍ ذهبية، تحت أرجلنا سجاد فاخر، وتوجد مصاحف، وأردية من حرير، والقرآن يرتل ترتيلًا جميلًا، فكأنني كنت في حلم أو في الجنة. وكثيرًا ما كانت تجلس إليَّ وحدها وقت الراحة لتقص عليَّ ما فعل بها وبالإخوان المسلمين جمال عبد الناصر. بل وخلعت ملابسها أمامي لأرى آثار التعذيب على جسدها، فرأيت حروقًا وبثورًا وأخاديد سوداء وزرقاء، هي آثار التعذيب الوحشي بالسياط، وتقول إنهم كانوا بعد ضربها يدهنون تلك الأماكن بمرهم يشعلها نارًا، وذلك لمحو أثرها وإمعانًا في التعذيب. وكنت أقول لها: "ربما أن جمال نفسه لا يعلم بهذه الطرق من التعذيب"، فتصيح بي قائلة: "إنه لا يهنأ له بال أو نوم إلَّا بعد أن يراني من خلال طاقةٍ في غرفة التعذيب، ينظر (بعيني أم رأسه) - على حد تعبيرها - ثم ينصرف ويتبعه المشير عبد الحكيم عامر يمسح نظارته ثم ينظر ليتأكد كيف يتم التعذيب". وحكت لي الكثير من صنوف العذاب التي لا أستطيع ذكرها أو كتابتها، فقد تم حبسها في غرفةٍ ضيقةٍ مع أربعة كلاب متوحشة ومدربة تدريبًا خاصًّا ضمن برنامج التعذيب. ويوم أن دخلت السجن ورآها تلاميذها من المسلمين هاجوا وماجوا فقالت لهم القول المأثور: "صبرًا آل ياسر فموعدنا الجنة"، وصاحوا جميعًا: "صبرًا يا أماه"، كقول الرسول. وقالت إنه يوم أُفرج عنها قيل لها: "الشرط أن تبتعدي عن السياسة"، فأجابت: "الدين سياسة والقرآن سياسة، فإذا كان هذا شرطكم فأنا مازلت بباب السجن وعلى استعداد للعودة ثانيةً، لن أترك السياسة حتى الرمق الأخير، فهي تشريع الله سبحانه وتعالى والرسول". وبعد زينب الغزالي، تتعرف د.لوتس إلى شخصية الشيخ محمد متولي الشعراوي، وتتكرر التجربة: "تركت الشيخة زينب الغزالي، وافترقنا في المدينةالمنورة؛ إذ كانت تود البقاء وقتًا أطول مع إخوانها وتلاميذها، وفي فندق الحرم بالمدينةالمنورة جلست أستمع إلى محاضرة يلقيها الشيخ الشعراوي، وبعد الانتهاء ذهبت إليه لأسأله عن عبارات لم أفهمها، وبعد المناقشة سألني: "من أنتِ؟ وما برنامجك الديني؟"، ولما علم أنني سأقضي بقية رمضان في مكة أصر على دعوتي إلى منزله وقدمني لأولاده سامي وزوجته والدكتورة فاطمة، وطلب منهم دعوتي لقضاء بقية الشهر الكريم لديهم، وهو يسكن في طابق فسيح في عمارة تواجه الكعبة المشرفة، استمتعت بهذه الصحبة الطيبة في رمضان، وكنت أصلي معهم ونتناول السحور على الطبلية وأستمتع بنصائحه وعظاته ولغته العربية الفصيحة، وهو يجيبني في سماحة أهل العلم، ويشرح لي الكثير مما غمض عليَّ فهمه بطريقة تفهمه للدين. وسألته: "ألم ترتكب في حياتك ذنوبًا تستغفر الله منها؟". فقال: لا لكنني أفعل الآن.. وبكى. وفي رحلتها مع زوجها دخلت لوتس عبد الكريم مرحلة جديدة من حياتها عرفت منها بعض أسرار العالم، وساسته وحكامه ومنهم جورج بوش الذي كان يشارك في مؤتمر اقتصادي وزوجها من ضمن المشاركين، وتحكي لوتس عن لقائها ببوش: جلست على المائدة وجلس إلى يميني الرئيس بوش وجلست زوجته على يمين مستر كيردار، فهم ضيوف الشرف، وبدأت طقوس الوليمة. وكأنه أحد أفراد الأسرة، راقبته عند الأكل، وكان يقطع الأسماك بسكين عادية غير سكين السمك، وتذكرت في هذه الآونة أن خالتي ماهوش رفضت عريسًا لابنتها لأنه لم يفرق بين سكين الخبز وسكين اللحم واستعمل الأولى في قطع اللحم! وسألته فأجابني: "لأن السمكة كانت تستعصي على السكين الخاص بها"، وأكل المكرونة فعاكسته، وسقط بعض منها على أطراف الطبق، لاحظ أنني أرقبه فأجبت تساؤلاته قائلة: "إنني كنت أتوقع أن أهم شخص في العالم لا شك له طريقة غير طريقتنا في الأكل، وإنني مذهولة لأنه لا يختلف عنَّا في شيء". وضحك وهو يشد على كتفي في حنان قائلًا: "تظنين أننا نختلف عن البشر؟"، قلت له: "إنني لا أصدق أن رئيس أمريكا يجلس إلى جواري ويأكل نفس ما آكل بل ويتكلم معي بتلك البساطة".