عندما حصلت الصين علي عضوية منظمة التجارة العالمية عام 2001 شعرت كثير من الدول النامية المجاورة لها بقدر هائل من عدم الارتياح.. ولأن الصين ذات قوة تصدير ماحقة خشيت هذه الدول أن تصبح الصين قوة لا تقاوم بعد إلغاء الرسوم الجمركية والحواجز التجارية معها فتجذب منها الشركات الصناعية والاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تذهب إليها.. ولكن هذا كما تقول مجلة "الإيكونوميست" لم يحدث. صحيح أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتجهة إلي الصين قد زادت كما زادت صادراتها أيضا فهذه الصادرات تنمو منذ عام 2003 بمعدلات لم تعرفها من قبل في التسعينيات حتي أن الصين تفوقت الاَن علي اليابان وصارت ثالث أكبر دولة مصدرة في العالم بعد الولاياتالمتحدة وألمانيا ولكن الاستثمارات الأجنبية المباشرة زادت أيضا لدي جيران الصين.. فدول الأسيان العشر اجتذبت 37 مليار دولار كاستثمارات مباشرة عام 2005.. وهناك بعض الشركات الصناعية التي تعتبر الاستثمار في بلدان جنوب شرق اَسيا أو الهند بمثابة ضمان لأي خطأ يحدث لاستثماراتها في الصين. ومع ذلك فمن الواجب الاعتراف بأن أي استثمارات خارج الصين مرتبطة بما يحدث في السوق الصيني من رواج بل إن صادرات الصين من المكونات وقطع الغيار غالبا ما تتوجه للتجميع النهائي في بلدان اَسيوية أخري مثل تايلاند وماليزيا وسنغافورة والفلبين وأندونيسيا وحتي تايوان وكوريا الجنوبية. بعبارة أخري فإن انضمام الصين إلي منظمة التجارة العالمية أدي إلي ارتباطها بجيرانها لتصبح جزءا من شبكة إنتاج اَسيوية شديدة التعقيدة. ومعني ذلك أن كل الأطراف قد استفادت من دخول الصين إلي عضوية منظمة التجارة العالمية حتي اليابان الغنية التي استطاعت في عام 2002/2003 أن تخرج من أزمة سيولة وركود استمرت نحو 15 عاما واعتمدت في ذلك علي تنامي الطلب الصيني علي المكونات والسلع الرأسمالية. كما نعمت دول جنوب شرق اَسيا بدفعة قوية فهي كبلدان غنية بالمواد الخام من المطاط إلي البترول الخام إلي زيت النخيل والغاز الطبيعي وغيرها استفادت من زيادة الطلب الصيني علي المواد الخام. أكثر من ذلك فإن التجارة بين دول شرق اَسيا نمت بمعدلات أسرع من نمو تجارة المنطقة مع بقية العالم محدثة بذلك تخصصا أعمق وتكاملا أكبر.. بل إن الصين غيرت أيضا من نمط التجارة الخارجية لبعض الدول مثل اليابان. وتقول دراسة فرنسية صدرت في العام الماضي عن مركز CEPII في باريس إن اليابان بدلا من أن تصدر فقط سلعا تامة الصنع إلي أوروبا وأمريكا الشمالية بدأت تصدر المكونات إلي الصين ليتم تجميعها هناك.. وبدورها بدأت الصين الاَن تستورد السلع تامة الصنع مثل أدوات المكاتب وأجهزة الكمبيوترمن الصين بعد أن كات تستوردها من أوروبا وأمريكا. كذلك بدأت كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج توجه تجارتها إلي الصين بدلا من الدول الغنية.. وتعد الصين في عام 2007 أكبر شريك تجاري لكل من هونج كونج وتايوان وربما اليابان أيضا. وتقول الدراسة الفرنسية إن نصف صادرات الصين حاليا تعتمد علي المكونات المستوردة وأن هذا هو سر تزايد الفائض التجاري الصيني وأحيانا تجد سلعا مجمعة في الصين ولكن مكوناتها مستوردة من كل من كوريا وتايوان لتباع في أسواق هونج كونج. وفي كتابه بعنوان "الصين: بيان الميزانية" يري نيكولاس لاردي خبير معهد الاقتصاديات الدولية أنه حتي أمريكا بدأت تزيد وارداتها بقوة من الصين فيما بين عام 1998 و،2004 وعلي سبيل المثال فإن واردات أمريكا من اللاب توب الصيني قفزت 5 ملايين دولار لتصبح 7.7 مليار دولار وشاشات الكمبيوتر من 860 ألف دولار لتصبح 9.4 مليار دولار خلال تلك الفترة. ومما يذكر أيضا أن 5% فقط من الإنتاج الخارجي لشركات الكمبيوتر العشر الكبري في العالم مثل ديل وأبل وهيوليت باكارد يتم في الصين في بداية القرن، أما الاَن فقد نقلت هذه الشركات كل إنتاجها الخارجي إلي الصين لأن تكلفة العمالة هناك أرخص من تكلفة العمالة لدي الجيران وهذا يحدث وفرا بين 20 و30 دولارا في كل وحدة. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إنه قد حدثت أيضا طفرة في صادرات الصين من سلع التكنولوجيا العالية ففي عام 2005 كانت هذه النوعية من السلع تمثل 43% من إجمالي قيمة الصادرات الصينية. وتقول مجلة "تشاينا إيكونوميك كوارترلي" إن معظم شركات التجميع في الصين شركات أجنبية وأن 60% من صادرات الصين تقوم بها هذه الشركات وأن 80% من صادرات الصين يتم تصنيعها من أجزاء ومكونات مستوردة ونفس الأمر ينطبق علي 90% من الصادرات الصينية من سلع التكنولوجيا العالية. ويمر علي الخاطر سؤال مهم هو: هل سينتقل مزيد من شبكات الإنتاج الاَسيوية إلي الصين؟ والإجابة هي أن هذا يحدث بالفعل برغم أن الاحصاءات لم تضع يدها بعد علي تلك الظاهرة.. ولكن يجب أن نضع في الاعتبار أنها ظاهرة لن تستمر طويلا بل إن الهجرة العكسية من الصين قد تبدأ في الحدوث خلال بضع سنوات حيث يقول ديفيد دولار المسئول عن الصين في البنك الدولي إن أجور العمال الصينيين بدأت تزيد بضعف أو ثلاثة أمثال سرعة زيادتها في الدول الاَسيوية الأخري ذات العمالة الرخيصة. وبدأت الشركات الوافدة تواجه صعوبة في الاحتفاظ طويلا بالعمالة المدربة.. ولذلك قامت الحكومة الصينية بتشجيع هذه الشركات علي الانتقال من الشواطيء الصينية "شنغهاي وغيرها" إلي مدن الداخل ولكنها هناك لم تجد سوي قليل من العمالة المدربة. يبقي أن نقول إن الصادرات وإن لعبت دورا في نمو الصين خلال الأعوام الخمس عشرة الأخيرة فإن الاقتصاد الصيني مثل الاقتصاد الأمريكي يعتمد أو سوف يعتمد في السنوات القادمة علي الطلب الداخلي الاَخذ في الزيادة ليكون هو محرك النمو بدلا من الصادرات.