أقر مجلس النواب الأمريكي في أواخر سبتمبر الماضي مشروع قانون يعاقب الصين بسبب عدم سماحها بارتفاع قيمة عملتها " اليوان " بوتيرة أسرع ، الأمر الذي وصف " عالميا " بأنه مقدمة لقرع طبول حرب تجارية بين الولاياتالمتحدة والصين، في حال إقرار المشروع نهائيا من جانب الكونجرس، وتوقيع الرئيس الأمريكي باراك أوباما عليه ليصير قانونا نافذا. وجاء إقرار مشروع القانون من جانب مجلس النواب لينص علي تدابير عقابية علي الصين في حال عدم إقدامها علي تحديد سعر صرف عملتها بما يتناسب مع قيمتها الفعلية، والتأكيد علي أن عدم اتخاذ الصين لهذا القرار يعني الإضرار بسوق العمل الأمريكية، وذلك قبيل الانتخابات التشريعية المهمة في البلاد. وجاء إقرار نص القانون الأمريكي بأكثرية 348 صوتا ، مقابل 71 صوتا ، في سياق موقف مختلف بالنسبة للصين ، مما يعكس حالة الاستياء بين الناخبين من جراء تداعي الاقتصاد الأمريكي ، وارتفاع نسبة البطالة إلي حوالي 10 % ، مما له آثاره السلبية علي انتخابات نوفمبر القادم . ويعزي الاستياء الأمريكي إلي أن قيمة اليوان الصيني أقل مما يفترض أن يكون عليه ، وفقا لظروف الصرف الحرة، الأمر الذي يعطي المنتجات الصينية ميزة سعرية، غير عادلة في الأسواق الخارجية ، ومنها السوق الأمريكية . وكان الرئيس أوباما قد صرح في وقت سابق بأن السياسة النقدية للصين تؤدي إلي سرقة وظائف العمال في أمريكا ، لمصلحة العاملين في الصين. وبالرغم من أن الرئيس الأمريكي قد ناقش مسألة العملة الصينية مع رئيس الوزراء الصيني ، وين جياباو ، علي هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرا ، غير أنه لم يتم التوصل إلي أية نتيجة ، وظل موضوع قيمة اليوان الصيني مثيرا لقلق الأمريكيين ، حتي بعد أن أعلنت وزارة التجارة الأمريكية أن العجز التجاري الأمريكي مع الصين قد سجل تراجعا طفيفا في يوليو الماضي ، وظل الموقف الأمريكي يعتبر موقف الصين مضرا بصورة كبيرة بقواعد المنافسة الشريفة، والعلاقات الاقتصادية بين الصين والولاياتالمتحدة. ويري متخصصون أن تطورات العلاقات الاقتصادية بين الصين وأمريكا ، واحتمالات نشوب حرب تجارية بينهما، لن تقتصر تداعياتها علي البلدين فقط ، ولكنها ستمتد إلي مناطق وبلدان أخري، نظرا لظروف ومناخ الأزمة الاقتصادية العالمية. أصل المشكلة منذ حوالي عشر سنوات ، ترتفع أصوات في العالم وفي الولاياتالمتحدة تحديدا ، تتهم الصين بأنها تقدر قيمة عملتها الوطنية " اليوان " بأقل من قيمتها الحقيقية . وفي عام 2004 ، طلب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش من الصين رفع قيمة اليوان ، وذلك حتي يمكن تحسين وضع الميزان التجاري الأمريكي ، وتحسين التوازن التجاري بين البلدين ، وتقليل العجز التجاري الأمريكي مع الصين، ومن ثم، تحسين سوق العمل ، وبالفعل انصاعت الصين للضغط الأمريكي وسمحت بتعويم العملة في حدود محدودة، وهو ما أدي إلي ارتفاع قيمة اليوان ، وتخفيضه في مقابل الدولار الأمريكي بنسبة 21 % ، ولكن منذ عام 2008 ، لم تتغير قيمة اليوان، حتي بالرغم من ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية . ويبدو أن الصين أتقنت تماما " اللعبة الاقتصادية العالمية " التي مهدت لها الطريق لتصبح في غضون عدة سنوات المصدر الأول للصادرات في العالم ، فلا يخلو بيت في العالم من سلعة صينية ، فاليوان الرخيص كان مدعوما بسياسات مساندة جعلت له دورا محوريا في دعم الصادرات الصينية ، علي غرار تبني معدلات منخفضة نسبيا للأرباح في الشركات الصناعية الصينية ، وبالتدريج ، حلت السلع الصينية محل مثيلتها في معظم أسواق العالم ، لتصبح الصين صاحبة أكبر فائض تجاري علي مستوي العالم ، فالسلعة الصينية تتمتع بميزة تنافسية في مواجهة الكثير من السلع ، ومنها السلع الأمريكية ، الأمر الذي جعل مصادر إدارة الخزانة الأمريكية تتهم الصين بأنها تتلاعب بعملتها الوطنية . ذلك أنه عندما تقوم أية دولة بتقدير قيمة عملتها الوطنية بما يقل عن قيمتها الحقيقية ، فإن ذلك يعني جعل صادراتها إلي الأسواق الخارجية أرخص من سلع الدول المصدرة إليها ، بينما تصبح وارداتها من باقي الدول أكثر تكلفة ، وأعلي سعرا ، وهو ما يوفر ميزة للدولة صاحبة العملة الرخيصة ، يتمثل في تمتعها بفائض تجاري أعلي نظرا لارتفاع القدرة التنافسية لصادراتها . وقد استأنفت الصين تسجيل فوائض تجارية كبيرة منذ انتهاء الركود الاقتصادي العالمي في العام الماضي ، بينما تعاني الولاياتالمتحدة من عجز في ميزانها التجاري مع الصين ، مع نسبة النمو المتدنية في اقتصادها ، وارتفاع نسبة البطالة فيها إلي 10 %. ويعتبر الميزان التجاري بين الصين والولاياتالمتحدة في صالح الصين ، ففي عام 2009 بلغت قيمة الصادرات الصينية للولايات المتحدة نحو 300 مليار دولار ، بينما لم تتجاوز الصادرات الأمريكية إلي الصين 70 مليار دولار ، وقد بلغ العجز التجاري الأمريكي مع الصين في 2009 ( 230 مليار دولار ) . وكانت الولاياتالمتحدة قد رفعت قضيتين جديدتين لدي منظمة التجارة العالمية حول ما سمي ب" انتهاكات صينية " لقواعد حرية التجارة ، ودعت إلي فرض عقوبات علي الصين في هذا الصدد . وتتعلق الأولي بالحواجز التجارية الصينية ضد شركات بطاقات الائتمان الأمريكية التي ترغب في المشاركة في سوق المدفوعات الإلكترونية الصينية ، بينما تتعلق الثانية برسوم مكافحة الإغراق ، والرسوم التعويضية التي فرضتها الصين ، خاصة علي منتجات الصلب الأمريكية. وفي واقع الأمر فإن حربا لفرض الرسوم دائرة بالفعل بين البلدين، فالولاياتالمتحدة ترفع الرسوم علي منتجات صينية، وترد الصين بالمثل . وكما تطالب واشنطنبكين بالسماح برفع قيمة عملتها ، فإن الصين بدورها تطالب أمريكا بخفض الدعم المقدم إلي الشركات وقطاعات الانتاج الأمريكية ، مما يوفر لها ميزات نسبية عديدة في الأسواق العالمية . تطورات صينية لاتبدي الصين انزعاجا كبيرا إزاء مشروع القانون الذي صوت عليه مجلس النواب الأمريكي ، والذي يمهد لفرض عقوبات علي الصين بسبب عدم تعاونها في موضوع العملة الصينية ، فرئيس الوزراء الصيني وين جياباو يؤكد أنه يمكن تسوية الخلافات التجارية بين الصين والولاياتالمتحدة ، لأنه يجب عدم السماح بحدوث ما يسميه " انتكاسة " في العلاقات بين البلدين . وفي واقع الأمر ، يبدو أن الصين علي ثقة بأن الولاياتالمتحدة ستفكر ألف مرة قبل الدخول الفعلي في مرحلة فرض العقوبات ، وذلك نظرا للمصالح الاقتصادية القوية بين البلدين ، والتي تجعل من مسألة فرض العقوبات مغامرة غير مأمونة العواقب ، حتي بالنسبة للاقتصاد الأمريكي. كانت الصين في يونية الماضي قد قررت التخلي عن تثبيت سعر صرف اليوان، مقابل الدولار ، ولكن المصرف المركزي الصيني لا يزال هو الذي يقرر السعر اليومي . ومنذ التخلي عن ربط سعر صرف اليوان بالدولار ، لم تسمح بكين لسعره بالارتفاع إلا بنسبة 2 % ، بينما تري واشنطن أن سعر العملة الصينية يجب أن يرتفع بنسبة تتراوح بين 20 40 %. وبعد تصويت مجلس النواب الأمريكي علي مشروع القانون ، أكدت وزارة التجارة الصينية أنه ينتهك قواعد منظمة التجارة العالمية ، لأنه يفتح الباب أمام فرض الرسوم الجمركية الإضافية علي البضائع الصينية الداخلة إلي الولاياتالمتحدة ، والتي يخضع بعضها إلي رسوم خاصة. ومن المؤكد أن الجانب الصيني يقدر تماما أن النسب العالية من النمو التجاري الذي حققته علي مستوي العالم ، تعود في جزء كبير منها إلي الشراكة بين الصين والولاياتالمتحدة ، والتي بدأت في أواخر السبعينات، وتضاعفت بعد دخول الصين في عضوية منظمة التجارة العالمية في 2001 . وفي مرحلة سابقة تأثرت هذه الشراكة الاقتصادية بالتحكم الأمريكي في مبدأ " الدولة الأولي بالرعاية " ، وبالربط الأمريكي بين علاقاتها مع بكين ، وسجل حقوق الإنسان في الصين . وفي الآونة الأخيرة ، تصاعد قلق الأمريكيين من زيادة حجم العجز التجاري الأمريكي مع الصين ، والفجوة التجارية بين البلدين ، ويحاول أنصار نظريات " الحماية التجارية " في كل من الصين والولاياتالمتحدة فرض تأثيرهم لتقليل فرص التوسع التجاري فيما بينهما. محاذير أمريكية يلاحظ أن مشروع القانون الذي صوت عليه الديمقراطيون والجمهوريون في مجلس النواب، والذي يمهد لفرض عقوبات علي الصين، هذا القانون لايحظي بشعبية في الولاياتالمتحدة ، حيث عارضته غرفة التجارة الأمريكية ، ودوائر أمريكية أخري ، بدعوي أن أضرار القانون أكبر من منافعه بالنسبة لفرص العمل والنمو في الولاياتالمتحدة . وعلي الرغم من وصف القانون الأمريكي بالاعتدال ، فإن تحذيرات أمريكية صدرت مؤكدة أن اندلاع حرب تجارية بين أمريكا والصين سيوقع اضطرابا كبيرا بالاقتصاد العالمي ، ومن ثم، فإنه يتعين اتباع نهج دبلوماسي هادئ في التعامل مع الصين. وبالرغم من وضوح الانزعاج الأمريكي من عجزها التجاري الكبير نسبيا مع الصين ، فإن آراء أمريكية أخري تنظر إلي القضية بصورة عكسية ، ذلك أن اعتماد الناتج القومي الصيني بنسبة كبيرة تقترب من 80 % علي الصادرات يمثل هو في حد ذاته عنوانا لنوع من النقص ( في الاقتصاد الصيني ) يتمثل في الفشل النسبي في خلق قاعدة استهلاكية قوية في الصين ، بما يوازي حجم النمو التجاري الكبير ، وهذا يمثل خطرا علي الاقتصاد الصيني ، في حالة تعرض الأسواق الخارجية للاضطرابات الاقتصادية المفاجئة، ومنها بالطبع السوق الأمريكية المهمة بالنسبة إليها. والحقيقة أن المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة بصورة أشمل تتعلق بصورة أو بأخري بالهاجس الأمريكي تجاه الاقتصادات الناشئة في العالم ، ومنها الاقتصاد الصيني ، فهذه الاقتصادات تمكنت من " امتصاص العاصفة الاقتصادية " العالمية ، بل إنها تطرح فرصا استثمارية وفيرة ، وهي تحارب التضخم وليس الانكماش ، وبمقدور هذه الاقتصادات الناشئة مد يد المساعدة للاقتصاد العالمي لإقالته من عثرته . هذا ، بينما لاتزال اقتصادات الدول الأوروبية والاقتصاد الأمريكي يئن تحت وطأة الأزمة العالمية وتداعياتها. ولايخفي هنا الفارق الرئيسي بين الاقتصادين الأمريكي والصيني، فالاقتصاد الأمريكي يشكل فيه القطاع المالي حوالي 25% من الناتج المحلي ، بينما يمثل القطاع الصناعي حوالي 15 % ، ولذلك يوصف بأنه اقتصاد فقاعي . علي عكس الاقتصاد الصيني الذي يمثل فيه القطاع الصناعي 50 %، ولا يزيد القطاع المالي عن حوالي 10 % ، وتوصف الصين بأنها " مصنع العالم " . وبالنسبة للصين ، فإنها تفرض القيود علي الاستثمار الأجنبي ، وتحد من تدفق الأموال إلي داخل الصين ، وتبقي قيمة عملتها منخفضة علي نحو متعمد ، هذا ، بالاضافة إلي أنها صاحبة أكبر احتياطي نقدي في العالم ، وقد استثمرت قدرا كبيرا منه في شراء السندات الأمريكية ، وتحولت إلي أكبر ممول للدين الحكومي الأمريكي. لذلك ، فإن الرأي الغالب هو استبعاد إقدام أمريكا علي المضي قدما في فرض عقوبات علي الصين ، نظرا لحجم التشابك الكبير في مصالحهما الاقتصادية ، بالرغم من استمرار " الاحتكاك والمنافسة " بين العملاقين علي أصعدة سياسية وعسكرية وأيضا اقتصادية. حرب العملات "حرب العملات " هو التعبير الذي استخدمه مسئول برازيلي ، ثم استخدم بعد ذلك للدلالة علي احتمالات دخول الدول في سباق لتخفيض قيمة عملاتها ، الأمر الذي سيؤثر سلبا علي الاقتصاد العالمي، ويؤخر الجهود الرامية لإعادة انعاشه من جديد . ويبدو أن موضوع العملات، والحاجة إلي التنسيق في أسعار الصرف ، وتحديد المؤسسة العالمية التي يتعين عليها أن تتعامل مع قضايا العملة علي الصعيد العالمي ، هذه القضايا ستكون علي رأس جدول أعمال اجتماعات مجموعة العشرين للاقتصادات الرئيسية في العالم، والمرتقبة في نوفمبر القادم ، في خضم ظرف دولي يستوجب من الجميع "الدقة " في حسابات الربح والخسارة، تجنبا لمزيد من الأزمات ، في حال اندلاع حرب العملات ، واللعب علي هذا الوتر المشدود.