أخيرا قررت دول الاتحاد الأوروبي (25 دولة) بدء المحادثات لانضمام تركيا إلي الاتحاد، وهو قرار تعثر كثيرا وتأخر كثيرا. وقد يبدو الأمر للوهلة الأولي نجاحا لحكومة الطيب أردوغان ذات التوجه الاسلامي، خاصة بعد ان استطاع هو وحزبه الذي جاء بشعارات اسلامية ان يغير الكثير من القوانين في الاتجاه الذي يرضي دول الاتحاد ولكن هذا النجاح قد لا يصمد كثيرا أمام التحديات الكثيرة التي تواجه تركيا والنظام القائم بها في محاولة اللحاق بركب أوروبا واتحادها، فالقرار الأخير للاتحاد الأوروبي لا يحدد زمنا أو موعدا للانضمام مثلما فعل في المرات السابقة ولكنه ترك الباب مفتوحا لكل الاحتمالات والأهواء والعواصف والتي جعلت البعض يؤكد أن التفكير الجدي في انضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي قد لا يتحقق قبل عشرة أعوام وربما أكثر. وتجارب العضوية الجديدة لدول الاتحاد الأوروبي كانت لها دائما حكايات وتفسيرات منذ انشاء السوق الأوروبية المشتركة من سبع دول في الخمسينيات ثم انضمام بريطانيا سنة 1973 بعد ان كانت فرنسا في عهد ديجول تقدم ما يشبه الفيتو ضد انضمام الجزيرة البريطانية ثم انضمت بعد ذلك اليونان سنة 1981 ثم اسبانيا والبرتغال سنة 1986. وبعد أن تحولت السوق الأوروبية المشتركة إلي الاتحاد الأوروبي في أعقاب معاهدة ماستريخت انضم إلي الاتحاد عدد من الدول الاسكندنافية ثم أخيراً موجة الانضمام الكبيرة التي ضمت عشر دول من وسط وشرق أوروبا والتي انضمت في مايو 2004 وارتفع عدد دول الاتحاد من 15 دولة إلي 25 دولة وتحول الاتحاد الأوروبي - 450 مليون نسمة - إلي ثاني أكبر تجمع اقتصادي عالمي تقدم 25% من الانتاج الكلي العالمي بعد الولاياتالمتحدة التي تقدم 27% من قيمة الانتاج العالمي. وفي كل هذه المراحل التي كانت الأبواب تفتح فيها لقبول أعضاء جدد في الاتحاد الأوروبي لم يكن الأمر يمثل مشكلة حقيقية بقدر ما تمثله تركيا، فقد كانت تحفظات بعض الدول علي قبول هذه الدولة أو تلك تحفظات اجرائية وشكلية سرعان ما كان يتم احتواؤها، لكن الأمر مع تركيا يختلف. فالمشكلة هنا مشكلة هوية الاتحاد الأوروبي وهوية تركيا نفسها وأصبح انضمام تركيا جزءا من الصراع الدائر عالميا وله أبعاده السياسية والعسكرية حول حوار الثقافات والأديان أم صراع الثقافات والحروب الدينية. وبينما تري انجلتراوألمانيا ان ادخال تركيا إلي الاتحاد الأوروبي سيساعد الطرفين كثيرا حيث تمثل تركيا معبرا متميزا للانفتاح علي الشرق، فإن بلدانا مثل النمسا وإلي حد ما فرنسا تري أن أوروبا تعاني بالفعل من صراع الثقافات ومن الأقليات الاسلامية الوافدة من جنوب وشرق المتوسط والتي ترفض الاندماج في التراث الأوروبي ولعل ذلك هو الذي دفع الطيب أرودغان رئيس وزراء تركيا إلي القول بأن المحادثات التي تجري حاليا بين تركيا والاتحاد الأوروبي هي التي ستحدد هوية الاتحاد الأوروبي وهل ستحول إلي ناد مسيحي معلن أم سيكون بوتقة للانفتاح والتفاعل والتكامل بين الثقافات. وتركيا كانت من أوائل الدول التي طرقت باب الاتحاد الأوروبي طالبة العضوية ،1987 وكان المنطق التركي هو أن هناك جزءاً من تركيا نفسها يقع جغرافيا في أوروبا اضافة إلي أن تركيا تشرف علي معابر شرق ووسط أوروبا إلي المتوسط، ثم والأهم من ذلك ان تركيا ارتبطت ومن البداية بالنظم الدفاعية الغربية وانضمت إلي حلف الاطلنطي، 1952 جنبا إلي جنب مع ألمانياوانجلترا وايطاليا وفرنسا اضافة بالطبع إلي الولاياتالمتحدة واصبحت تركيا منذ ذلك التاريخ أحد قلاع الغرب الرئيسية. أما العوامل التي تقف في وجه انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي والتي يثيرها بعض الأعضاء متمثلاً في عدد من الأسباب علي رأسها البعد التاريخي والثقافي لتركيا العثمانية باعتبارها أكبر دولة غزت أوروبا من الخارج، وكانت الامبراطورية العثمانية عند وسط وشرق أوروبا من الدانوب وحتي البوسفور وتشمل دولا مثل المجر ورومانيا ويوغوسلافيا وبلغاريا واليونان هذا الاحتلال التركي الذي تواصل علي مدي قرنين وترك جروحا كثيرة في أوروبا. وارتبط التاريخ الاستعماري لتركيا في أوروبا بالصراع الديني الذي كان قائما، وبالمذابح التي اتهم العثمانيون بإقامتها في المجر ويوغوسلافيا وأرمينيا الأمر الذي جعل هناك تخوفا من شعوب تلك البلدان من دخول تركيا إلي الاتحاد وهناك مثل أوروبي بكل اللغات تقريبا يقول.. "هل أنت تركي؟ وله دلالات القسوة والبغضاء". وهناك عوامل أخري مازالت تقف في وجه الالتحاق التركي بالركب الأوروبي منها انها دولة فقيرة بالمعايير الأوروبية وتمثل عبئا علي اقتصادات الاتحاد فمتوسط الدخل في تركيا مازال أقل من متوسطات الدخل والانتاج في الدول الأوروبية الفقيرة مثل اليونان والبرتغال وايرلندا، كما أن تركيا بعدد سكانها الكثير (70 مليوناً) ستصبح أكبر ثاني دولة في الاتحاد بعد ألمانيا الأمر الذي يمكن ان يعطيها ثقلا خاصا في الاتحاد. وتركيا دولة مفصلية مهمة وموثرة، جسدها في آسيا وذراعها في أوروبا وتحتضن مضايق البوسفور والدردنيل التي تمثل نقاط التماس بين القارتين، كما أن تاريخ تركيا القديم والحديث جمع في صفحاته الكثير من التناقضات الغريبة، فهي الدولة الاسلامية الوحيدة العضو في حلف الاطلنطي وهي أيضا الدولة الاسلامية الوحيدة التي تعقد معاهدات استراتيجية عسكرية واقتصادية مع اسرائيل. والحكومة الحالية التي تمثل حزب العدالة والتنمية بتوجهاته الاسلامية هي نفسها التي تسعي حثيثا إلي دخول الاتحاد الأوروبي وتحقيق كل شروطه، وتعلن موافقتها علي الاتفاق المدني الذي وضعته لجنة تركية أوروبية مشتركة تمهيدا لانضمام تركيا إلي الاتحاد ويجري كثير من التغييرات في الدستور والقوانين التركية مثل المساواة المطلقة والكاملة بين الرجل والمرأة في الأجور والعمل والميراث والغاء كل الأشكال المقيدة للحريات والنص علي حقوق الأقلية الكردية، والتخلص من سيطرة الجيش وابتعاده عن السياسة. وتركيا المعاصرة مثل تركيا التاريخية هي بالفعل بلد العجائب والمناقضات، فالقسطنطينية عاصمة الامبراطورية الرومانية الشرقية مركز المسيحية العالمية، هي نفسها استانبول والاستانة عاصمة الخلافة العثمانية حتي أوائل القرن العشرين، ومازالت هذه الثنائية التناقضة تحكم تركيا الحديثة مثلما حكمتها في تاريخها القديم. ويكتشف الجميع بما في ذلك الاتراك أنفسهم ان هذا البلد المفصلي المهم مازال يعيش المتناقضات الجغرافية والتاريخية بحثا عن الهوية وظلت تركيا تعيش صراعا محتدما بين الماضي والحاضر اما المستقبل فقد ظل محاصرا لا يحلم به سوي بعض الجماعات من المثقفين والكتاب والشعراء الذين طالتهم أيادي السلطة القوية، وكان من الطبيعي ان يفرز هذا المجتمع القوي والأحزاب المتطرفة دينيا وقوميا. فهل يمكن لتركيا من خلال ظروفها الراهنة تحويل الثنائية التي تعيشها من تناقض صارخ إلي تكامل غني وثري تفتح لها جميع الأبواب لكي تلعب دورا ايجابيا في استقرار المنطقة وبحجم ثقلها الاقليمي كدولة مفصلية.