ليس من العسير القول بأن قرار المحكمة الدستورية العليا في الحكومة التركية بحل حزب المجتمع الديمقراطي "الكردي " ومنع عدد كبير من قادته من العمل السياسي ومصادرة أموال الحزب ستكون له تداعيات سلبية على مجمل المشهد السياسي التركي وعلى علاقات أنقرة بعديد من دول العالم وفي الطليعة منهم بالطبع الاتحاد الأوروبي، والذي اتسمت ردود أفعاله بالغضب على الخطوة الأخيرة ودان كثيرٌ من ساساته ومؤسسته ما أقدم عليه القضاء التركي من حل حزب سياسي ممثل في البرلمان التركي بأكثر من 21 نائبًا من جملة أعضاء البرلمان البالغ تعدادهم ما يقرب من 550 نائبًا. درسٌ قاسٍ!! وبقدر ما كانت الإدانة الأوروبية للقرار بقدر ما مثَّل موقف حزب العدالة والتنمية المؤيد للقرار ما يشبه الصاعقة لعديدٍ من المراقبين للشأن التركي رغم خروج إشارات من قادة الحزب منذ عدة أسابيع تسير في هذا الإطار ووصم أعضاء بارزين به لحزب المجتمع بالمحرض على العنف المتواطئ مع الإرهاب، فبالتأكيد لا يقبل الشك على الصلات التي تربطه بحزب العمال الكردستاني المحظور داخل تركيا، والموصوم في دوائر دولية عديدة بالإرهاب وكان لافتًا كذلك ترحيب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بالقرار ومطالبته لقادة الحزب المحظور بأن يأخذوا منه عبرةً وعظة ويفحصوا جيدًا الدرس القاسي الذي لقنتهم إياه المحكمة العليا. ولعل ما يثير الغرابة في موقف حزب العدالة والتنمية أن تأييده لحلّ الحزب ذي الخلفية الكردية يعدّ ردة على سياسة الانفتاح التي أقرها الحزب الحاكم منذ وصوله للسلطة عام 2003 والتي توجت بحزمة من الإصلاحات نفّذها بشكل سلس وزير الداخلية التركي بشيراتالاي وتعلقت باستعادة الأكراد في جنوب شرق الأناضول لبعض حقوقهم القومية، وإشارة على تراجع الجهود المكثفة المبذولة من جانب الحزب على مدار السنوات الست السابقة لتسوية الصراع بشكل سلميّ واحتمالات عودة التوتر بوتيرة متسارعة إلى المناطق الكردية بشكل يضرب المكتسبات الدولية والإقليمية التي حققتها الدبلوماسية التركية خلال العام الحالي. أحضان العسكر وأخطر ما في الأمر أن الأزمة قدّمت إشارة على المنحى القومي الذي اتجه إليه حزب العدالة والتنمية بدرجة قرَّبته كثيرًا من موقف حزب الشعب الجمهوري المتشدِّد ومن موقف مشابه للمؤسسة العسكرية، بل وارتماء من قِبل أردوغان في أحضانهما في وقت لم يخف الطرفان في أي مرحلة تبرمهما من خطوات تبنيها العدالة والتنمية تجاه تسوية الأزمة الكردية وهو نهج سيفقد الحزب ذي الخلفية الإسلامية مصداقيته ويقدم دلائل على تماهي سياسة الحزب مع نهج خصومه في إدارة الملفّ الكردي وعلى انتصار تركيا العسكرية على تركيا المدنيَّة، ويفتح الأبواب على مصراعيها لعودة الصراع العسكري لجبال الشرق التركي. فيما رد مهتمون بالشأن التركي بتأييد حزب العدالة والتنمية لقرار حلّ الحزب إلى جملة من التوترات الحاكمة لعلاقات الحزبين من جهة سعي قادة حزب المجتمع بدور مهم لتقليص نفوذ الحزب الحاكم في بعض محافظات جنوب شرق الأناضول، والتشكيك بشكل متواصل في جدوى سياسة الانفتاح المتَّبَعة من جانبه لتسوية الأزمة الكردية، وإقامة صلات سرية مع حزب الشعب الجمهوري لقضّ مضاجع حكومة أردوغان داخل البرلمان، وهو ما أثار حفيظة قادة العدالة والتنمية وجعلهم يغضُّون الطرف تجاه قرار الحلّ رغم تداعياته السيئة على مجمل الوضع التركي. تداعيات قاسية ولن تتوقف تداعيات حل الحزب الكردي على الجانب السياسي أو العسكري؛ انطلاقًا من تزايد احتمالات عودة الصراع المسلَّح في شرق الأناضول منذ أكثر من 25 عامًا واستنفار الآلة العسكرية التركية مجددًا لخوض صراع شرِس مع الأكراد فإن التبعات الاقتصادية له ستكون قاسيةً بشكلٍ يوقف الطفرات الاقتصادية التي تحققت بفعلِ سياسات حزب العدالة والتنمية، وأسهمت في إنقاذ الاقتصاد التركي من عثرتِهِ، ويثير التساؤلات حول الثقة في الاقتصاد التركي ومدى قدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية لبلدٍ داخلٍ لتوِّه في خضمّ أزمة سياسية لا يستطيع أحد التكهُّن بنتائجها لا سيَّما أن ردَّ فعل حزب المجتمع الديمقراطي المنحلّ على قرار المحكمة لا زال غامضًا في ظلّ تدوال العديد من الخبراء وثيقي الصلة بكواليس الساحة السياسية التركية، هناك عديد من السيناريوهات حول ما يمكن أن يقدِم عليه الساسة الأكراد في المرحلة القادمة. ويبدو أن السيناريو الأقرب للواقع يدور في إطار تعاطٍ هادئٍ من قِبل زعيم حزب المجتمع أحمد تورك، والذي لم يحسمْ حتى الآن خطوة الردّ على قرار الحلّ، رغم تراجع الحزب عن تهديده بسحب نوَّابه من البرلمان وإدخال البلاد في طور أزمة قد تجبر أردوغان على الدعوة لانتخابات مبكِّرة لن يكون من السهل التكهُّن بما ستفرزُه من خريطة سياسة جديدة، وأغلب الظن أن هذا السيناريو ليس مرحجًا وسط ما يتردد عن جنوح الأكراد لإعلان تشكيل حزب جديد، رغم قرار الحظر السياسي على 35 من قادته السياسيين بشكل يحجِّم الأزمة ويمنع عودة الحزب إلى العمل السريّ، كما يرغِّب الجناح المتشدد داخله بقيادة أمينة ابنا. المربع الأول وإذا كانت التداعيات الداخلية للأزمة شديدة القسوة بحسب المراقبين، فإن التبعات الخارجية لها لن تكون أقل قسوة على الصعيد الأوروبي، فقرار المحكمة العليا سيعدّ تراجعًا تركيًّا عن الالتزامات التي قطعها ساسة أنقرة على أنفسهم خلال المفاوضات الخاصة بالانضمام للاتحاد الأوروبي، خصوصًا فيما يتعلق بالديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الأقليات مما يشير لاحتمال تعثّر العبور التركي لبروكسل واستغلال العواصم الأوروبية المتحفظة على تسريع مفاوضات أنقرة لدخول النادي الأوروبي، وفي مقدمتها باريس وبرلين، مما حدث لتغليب وجهة نظريهما داخل الاتحاد وكسب نقاط أمام الفريق المؤيد لأنقرة بقيادة بريطانيا وإيطاليا. ويزيد من تفاقم الموقف أن أزمة حلّ الحزب ستعرقِل من خطوات أنقرة للظهور في مظهر اللاعب الإقليمي والدولي المهمّ، وهي الخطوات التي قطع فيها مهندس الدبلوماسية التركية وصاحب نظرية العمق الاستراتيجي وزير الخارجية أحمد داود أوغلو أشواطًا كبيرة أهَّلت تركيا للعب أدوارٍ مهمَّة، أفقدت المعارضين لانضمامها للنادي الأوروبي حججًا كثيرة قبل أن تعيد خطوة حل الحزب الأوضاع للمربع الأول من جديد وتجبر أنقرة على تقديم تبريراتٍ عديدة للخطوة قد يكون من بينها تورط الحزب في مخالفات سياسية وأمنية تضرّ بأمن واستقرار تركيا، فضلًا عن ارتباطه بحزب العمل الكردستاني والموضوع أوروبيًّا على لائحة الإرهاب، وهي حجج لن تجد آذانًا صاغية لدى الجيران الأوروبيين. السيناريو الأسوأ ولكن معلومات أكثر إثارة للإزعاج تذهب إلى أن عددًا من الدول الأوروبية قد تتزعم اتجاهًا لمعاقبة تركيا على هذه الخطوة قد يكون من بينها حسب السيناريو الأسوأ تجميد مفاوضات الالتحاق التركي بالنادي الأوروبي لعدة أشهر تمارس خلالها ضغوطًا على أنقرة لإقرار تعديلات دستورية فيما يتعلق بضرورة توافق قانون الأحزاب التركي مع القوانين المعمول بها داخل الاتحاد، وتمنع تكرار هذه الأزمة مجددًا وهو ما سيضع حكومة أردوغان أمام حرجٍ بالغٍ أمام الأحزاب القومية والمؤسسة العسكرية وسيعزِّز من الاتجاه القومي الذي لا يملّ من الحديث عن ضرورة الحفاظ على كرامة تركيا وسيادتها خلال المفاوضات مع الأوروبيين. وفي النهاية تبقى كلمة تتمثل في كون تركيا مقدمة على تطورات معقدة جدًّا فيما يتعلق بملفاتٍ عديدة أقلُّها ضراوةً إمكانية مواجهة تمرُّد مسلح في جنوب شرق الأناضول أو على الأقل استهداف وحدات الجيش التركي وأجهزة الأمن مما يعيد للأذهان الخسائر الفادحة التي لحقت بهما خلال سنوات التمرد الكردي الطويلة، في وقت لا يستطيع أحد تجاهل الأضرار التي ستلحق بالحزب التركي الحاكم وتفقده المصداقية أمام ناخبيه وأمام الرأي العام التركي، وهي فرصة لن تدعها أحزاب المعارضة تمرّ مرور الكرام دون إثارة المتاعب له بالإضافة للتداعيات الاقتصادية السلبية للأزمة. خيارات صعبة ويبقى الخطر الأهم ممثلًا فيما ستحلقُه الأزمة بمساعي تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي وبسمعة أنقرة أمام دول العالم بشكلٍ يجعل حكومة أردوغان تواجه خيارات أحلاها مرٌّ، فإما تحاول تطويق الأزمة عبر اتخاذ خطوات قانونية تعدّل بموجبها قانون الأحزاب يحظر حلها بشكل تام وهو ما قد يفجِّر أزمة مع المعارضة والجيش أو المضيّ قُدمًا إلى نهاية الشوط وتحمُّل تبعات خطوة الحلّ وأقلها إخفاق سياسة الانفتاح التي نجحت الدبلوماسية التركية في تسويقها والاستفادة منها، وعودة شلالات الدماء بين المتمردين الأكراد، وهو ثمن باهظٌ قد تعجز حكومة أردوغان عن دفعه وتعيد معه الطموحات التركية للعب دور إقليمي ودولي هام وتتويجه بالانضمام للاتحاد الأوروبي والمربع الأول وعودة سياسة الانكفاء الداخلي، وهي سياسة لم تحقق معها أنقرة أية مكاسب في الماضي، بل قد تعاظم خسائرها في المستقبل المصدر: الإسلام اليوم