ما بين أوجاع عام انقضي وهواجس حيال مستقبل غامض، تقف منطقة الشرق الأوسط علي أعتاب عام جديد. فلا تزال الجراح التي أوجدها الصراع العربي الإسرائيلي تنزف في ظل التعنت الإسرائيلي وإخفاق إدارة الرئيس أوباما في حمل إسرائيل علي الاستجابة لنداء السلام وحل الدولتين بما يلقي بظلال من الغيوم علي مستقبل الأمن والاستقرار في المنطقة. يأتي هذا بالتزامن مع تصاعد التوتر علي خلفية برنامج إيران النووي والتهديدات بالتصعيد العسكري المتبادل بينها وبين إسرائيل، التي لم يقتصر القلق الذي تثيره في المنطقة علي تفاعلاتها مع الدول العربية وإيران فحسب، وإنما امتد ليطال صديقة لها مثل تركيا،حيث تصاعد التوتر بين أنقرة وتل أبيب متخذا أشكالا شتي بدءا بالحروب الكلامية، مرورا بإلغاء كثير من المسؤولين الأتراك للقاءات ومقابلات رسمية مع نظرائهم الإسرائيليين، ثم تعثر التعاون العسكري بين البلدين، من خلال تأجيل وتجميد صفقات عسكرية أو إلغاء مناورات عسكرية مشتركة، علي نحو لم تشهده تلك العلاقات منذ تدشينها في أعقاب اعتراف البرلمان التركي بإسرائيل في العام 1949، ويمكن الإدعاء بأن التوتر الراهن في العلاقات التركية الإسرائيلية لم يكن وليد اليوم وإنما هو نتاج لتراكمات من المد والجزر والاحتقان المكتوم بين البلدين، ازدادت وطأتها إثر بعض التطورات المحلية والإقليمية المهمة،التي بدأت بوصول حزب العدالة والتنمية إلي السلطة في نوفمبر من عام 2002 وتشكيله الحكومة التركية منفردا، ومن بعد ذلك الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 وما استتبعه من تداعيات علي العلاقات بين واشنطنوأنقرة عقب إفتضاح أمر المخططات الأمريكية والإسرائيلية حيال الأكراد في شمال العراق، مرورا بتصعيد تل أبيب لخروقاتها ضد الفلسطينيين علي نحو أفرز ضغوطات هائلة علي حكومة العدالة والتنمية ذات الجذور الإسلامية، وعزز من فرص تفجر الخلافات بين أنقرةوواشنطن علي أكثر من صعيد. وعلاوة علي ذلك، تطل برأسها قضية المياه بين تركيا وكل من سوريا والعراق،إذ لم تكن الانطلاقة التقاربية لحكومة العدالة والتنمية مع دول الجوار التركي وتوقيعها في منتصف أكتوبر الماضي نحو 48 اتفاقية تعاون وشراكة مع الحكومة العراقية، وافتتاحها ثلاث قنصليات في مدن عراقية مهمة كالبصرة والموصل وأربيل لاحقاً، وتوقيعها نحو 40 اتفاقية وفتح الحدود بينها وبين سورية، سبقها توقيع اتفاقيات للتهدئة والانفتاح وفتح الحدود مع أرمينيا، بعد عقود من العداء وإغلاق الحدود،فضلا عن إقامة مجالس للتعاون الاستراتيجي مع جيرانها تشمل القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والنفطية وغيرها بما يجعل من تركيا واسطة عقد المنطقة وبوابة عبور إلي جهاتها الأربع، لم يكن ذلك كله لينعكس بالإيجاب علي مشاكل المياه العالقة بين تركيا وكل من سوريا والعراق. ومن جانبها،لم تأت حكومة العدالة بجديد ملموس لتسوية تلك القضية المزمنة، حتي إعلان رئيس الوزراء التركي أردوغان في بداية زيارته الأخيرة للعراق، بأنه أمر بزيادة ضخ المياه التركية إلي سورية والعراق لتصل إلي 550 متراً مكعباً في الثانية، لم يكن خطوة علي طريق التسوية الدائمة للقضية، إذ توقف هذا الضخ في العشرين من تشرين الأول أكتوبر الماضي، ليعود إلي مستويات أقل من ذلك علماً أن اتفاقيات أولية بين تركيا وسورية والعراق نصت علي إطلاق وضخ 500 متر مكعب في الثانية كحد أدني، إلاّ أن الأمر لم يسر حسب تلك الاتفاقيات في السنوات السابقة حتي نهاية العام 2009 التي كان الوضع خلالها كارثياً، إذ وصل الضخ فيها إلي نحو نصف الكمية المتفق عليها في الصيف الماضي الذي كان قاسياً وقائضاً، وعادت حكومة العدالة والتنمية مجددا للإستعاضة عن زيادة حصة البلدين من المياه بمطالبتهما بإعادة تأهيل شبكات الشرب والري والصرف فيهما لتقليل الفاقد من المياه.ونتيجة لذلك، هدد العراق بقطع علاقته مع إيران وتركيا اذا استمرتا في حجب المياه عنه، وقال الأمين العام لمجلس الوزراء علي العلاق إن علاقة الحكومة مع كل من تركيا وايران في الجوانب التجارية والسياسية والاقتصادية ستتوقف مراعاة لضمان حقه في المياه، مشدداً علي أن هذا سيستمر حتي يتم وضع اتفاق واضح ومحدد لتأمين استمرار تدفق المياه باتجاه العراق من دون الخضوع لأهواء هذه الدول. وفي سياق مواز، أطل برأسه تعثر جهود تسوية المسألة الكردية المتفجرة في المنطقة منذ العام 1984، فلم تحل مساعي حكومة العدالة والتنمية التركية لتسوية المسألة الكردية علي نحو سلمي وديمقراطي، والتي تلقي ترحيبا غربيا منذ إنطلاقها قبل سنوات قلائل، دون بروز معوقات تهدد بإجهاض تلك المساعي وتثير الشكوك حول جدواها. فبعد أن أوقفت السلطات التركية خمسة من "مجموعة سلام" تضم 34 شخصا كان حزب العمال الكردستاني قد أرسلهم من شمال العراق إلي تركيا مطلع شهر ديسمبر الماضي، في انفتاح من الحزب علي مبادرة حزب العدالة والتنمية،التي أطلقها مطلع أغسطس الماضي لإنهاء الصراع الكردي، تعطلت مساعي حكومة أردوغان لتسوية المسألة الكردية سلميا علي خلفية قيام المحكمة الدستورية العليا التركية في يوم 11 ديسمبر الماضي، وبإجماع أعضائها الأحد عشر بما فيهم رئيسها هاشم كليج، بإصدار قرار نهائي وقطعي وغير قابل للطعن، بإغلاق حزب المجتمع الديمقراطي الكردي فضلا عن إسقاط عضوية نوابه الثمانية، بمن فيهم أبرز رموزه المعتدلين من أمثال زعيم الحزب أحمد تورك والنائبة أيسل توغلوك في البرلمان التركي ورفع الحصانة عنهم، كما قضت بمنع 37 قياديا في الحزب،علي رأسهم تورك نفسه، من ممارسة العمل السياسي والنقابي لمدة خمسة أعوام، فضلا عن مصادرة أموال وممتلكات الحزب وفرض غرامات مالية علي عدد من قياداته. وما من شك في أن قرار الإغلاق، الذي يعد السابع والعشرين من نوعه منذ العام 1968 والخامس لحظر أحزاب كردية منذ العام 1995، مردودات مهمة علي الصعيدين المحلي والإقليمي.فإلي جانب تسببه في اندلاع توترات وحالة من عدم الاستقرار لا سيما داخل المناطق الكردية، فإن القرار سيعيد خلط الأوراق ويلقي بظلال من التحدي علي مساعي حكومة العدالة والتنمية فيما يخص تفعيل مبادرة الانفتاح الديموقراطي التي أطلقتها في أوائل أغسطس من العام 2009 وتهدف بالدرجة الأولي إلي حل المشكلة الكردية وضمناً مشكلة سلاح حزب العمال الكردستاني،خصوصا وأن حزب العمال الكردستاني سيبقي هو الممثل الوحيد للأتراك . وليس الوضع بين الجارتين الكبيرتين تركيا وإيران بالأفضل حالا،فمن جانبها، لم تخف إيران قلقها جراء علاقات تركيا الاستراتيجية بإسرائيل والولايات المتحدة في وقت تشهد علاقات طهران بكليهما تدهورا متناميا،أفضي بدوره إلي أن يحظي تعاظم الدور الإقليمي التركي بدعم من واشنطن بينما تقابل مساعي طهران لبسط نفوذها في المنطقة بإجراءات إجهاضية من قبل واشنطن وتل أبيب،فضلا عن عودة أنقرة إلي التحليق مجددا في فضاء ما يسمي بالعالم التركي، الذي تنازعها إيران النفوذ في شطر حيوي منه والمتمثل في آسيا الوسطي والقوقاز وبحر قزوين، والذي يشكل محور ارتكاز لأمن الطاقة العالمي لما بحوزتها من رصيد هائل من النفط والغاز. الأمر الذي يغذي مخاوف طهران من انبعاث الصراع التاريخي بين الجانبين في هذه الساحة منذ تنازع المشروعين الصفوي الإيراني بزعامة الشاه عباس الصفوي من جهة، والعثماني التركي بزعامة السلطان مراد الثالث من جهة أخري، النفوذ فيها. أما تركيا من جهتها، وعلاوة علي ما يثيره تقارب حكومة العدالة مع إيران من قلق دوائر تركية علمانية وعسكرية تري أن إيران مثقلة بمشاكل وخصومات مع إسرائيل والغرب بالقدر الذي يهدد بتعكير صفو علاقات أنقرة مع كليهما،فينتابها قلق من تعاظم النفوذ والحضور الإيرانيين داخل العراق في الوقت الذي يبدو نفوذ تركيا هناك غير متناسب مع مصالحها وتطلعاتها الإقليمية، استنادا إلي عوامل شتي لعل أبرزها تواضع الثقل الديمجرافي والسياسي للأقلية التركمانية في العراق بالتزامن مع التضييق الكردي عليهم مقارنة بتعاظم نفوذ الشيعة الموالين لإيران، وهو ما يزج بتركيا إلي مؤازرة التحالف العربي والغربي المناهض للنفوذ الإيراني في العراق. وبرغم ما تبديه تركيا من تفهم للمقاصد المدنية للبرنامج النووي الإيراني، تشكل الطموحات النووية العسكرية الإيرانية غير المعلنة مصدر إزعاج حقيقي لها من جهتين: تتجلي أولاهما في أنه إذا ما تسني لإيران إنتاج السلاح النووي عبر صفقة سرية مع واشنطن وتل أبيب، فمن شأن ذلك أن يخل بالتوازن الاستراتيجي الذي يعد الدعامة الرئيسية لاستقرار العلاقات بين أنقرةوطهران، ما قد يدفع أنقره هي الأخري إلي إعادة النظر في حيادها النووي، خاصة أنها دولة غير نفطية بينما تلاحقها حاجة متزايدة للطاقة. وهو توجه ليس بالمستحدث علي تركيا، حيث لاحت بوادره بعد ساعات من إعلان إيران نجاحها في تخصيب اليورانيوم، حينما أعلنت أنقرة اختيار مدينة سينوب علي البحر الأسود موقعاً لإقامة أول المفاعلات النووية التركية الثلاثة التي تنوي إقامتها، توطئة للخروج من إطار الدولة المستودع للذخيرة النووية الأمريكية وإنهاء تبعيتها في ميدان الطاقة للدول النفطية المجاورة. أما ثانيتها، فتكمن في أن فشل طهران في إبرام صفقة مع واشنطن وتل أبيب تخولها امتلاك السلاح النووي وما يستتبعه ذلك من إقدام إسرائيل أو أمريكا أو كليهما معا علي القيام بعمل عسكري ضد المنشآت النووية الإيرانية، من شأنه أن يضع تركيا في موقف لا تحسد عليه، إذ ستدخل في دوامة جديدة من الجدل حول السماح أو عدم السماح بتسخير أجوائها وقواعدها الجوية لهذا الغرض علي نحو يحمل في طياته تهديد ليس فقط للأساس التفاهمي للعلاقات التركية الإيرانية، وإنما يطوي بين ثناياه أيضا احتمالات لانبعاث التوتر في علاقات أنقرةبواشنطن مجددا كما بتل أبيب هي الأخري علي غرار ما جري في العام 2003 إبان الغزو الأمريكي للعراق. هذا ناهيك عن إضطرار تركيا إلي تحمل التبعات الأمنية والسياسية والاقتصادية الثقال لمثل هذا العمل العسكري ضد إيران حالة وقوعه. وانطلاقا من خبرة العلاقات والتفاعلات بين دول المنطقة فيما بينها من جهة وبينها وبين القوي الإقليمية والدولية من جهة أخري،يبدو جليا أن المنطقة لا يمكن لها أن تتجاوز نفقها المظلم من دون خطوات وإجراءات وسياسات تنتهجها دول المنطقة ومعها القوي الإقليمية والدولية الأخري المتفاعلة معها في ذات الإقليم والمعنية بما يجري فيه، من أجل إقرار السلام والأمن والاستقرار في المنطقة ودفع شعوبها باتجاه التنمية والديمقراطية. ويأتي في صدارة تلك الخطوات والإجراءات التنسيق ما بين تلك القوي والأطراف وبعضها البعض بما يساعد علي إيجاد تسوية دائمة وعادلة للقضايا الخلافية العالقة والمشكلات والصراعات المزمنة كالصراع العربي الإسرائيلي وفي القلب منه قضية الفلسطينية، علاوة علي قضايا المياه والحدود والأقليات الإثنية وانتشار أسلحة الدمار الشامل والديمقراطية والفقر وغيرها.