فرحة الفوز وسط أنصارها وجه بسيط يخفي وراءه شخصية جريئة.. قوية، تتسم بصلابة الرأي والقرارات الحاسمة، وفي نفس الوقت تتمتع بقدرة كبيرة علي الإقناع والتواؤم مع الآخرين خاصة منافسيها حتي أن شعبها وصفها بالمرأة الحديدية الجديدة لشرق آسيا، بعد أن اختارها لتتولي إدارة شئون بلادهم لخمس سنوات قادمة... إنها "بارك جيون هاي" أول سيدة تحتل مقعد القيادة في تاريخ كوريا الجنوبية بعد 11 رجلاً تزعموا رئاستها. جيون.. أول رئيسة لسيول انتهي ماراثون الانتخابات الرئاسية بكوريا الجنوبية بحسم بارك (60 عاماً) مرشحة حزب "سينوري" أو "الحدود الجديدة" الحاكم لنتيجة السباق، بعد أن حصلت علي 51.6٪ من الأصوات، مقابل 48٪ لمنافسها "مون جاي ان" (59عاماً) مرشح يسار الوسط . اختيرت بارك رئيسة للبلاد لفترة رئاسية وتفوقت علي مون جاي، الذي تجمعت كل قادة المعارضة وأحزابها حوله لمواجهة المرأة الحديدية الجديدة، حيث اتفقوا علي أن يقفوا خلف مون لتحدي مرشحة الحزب الحاكم إلا أن الفوز كان حليف بارك لتتولي منصب الرئاسة خلفا لزميلها في الحزب لي ميونج باك ولفترة رئاسية واحدة فقط لخمس سنوات، حسب الدستور الكوري الجنوبي. وستتولي السلطة رسمياً في 25 من فبراير المقبل، بعد أن تؤدي اليمين الدستورية. ولم تكن هذه التجربة الأولي لبارك للترشّح إلي الرئاسة، بل إنها محاولتها الثانية بعد أن خسرت أمام الرئيس الحالي "لي ميونج باك" في انتخابات الحزب التمهيدية عام 2007 إلا أنها خلال فترة وجيزة، نجحت في تقلد أعلي المناصب داخل الحزب حتي باتت رئيسته، وباتت قادرة علي إثبات مدي قدرة المرأة علي اقتحام عالم يسيطر عليه الرجال وقيادته بكل قوة. ولعبت خلفية بارك العائلية دوراً كبيراً في اختيار الناخبين لها، فهي ابنة "بارك تشونج هاي" الوجه السياسي البارز في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، الديكتاتور الذي حكم البلاد علي مدي عقدين بيد من حديد، فكان رئيسًا لكوريا الجنوبية فيما بين عامي 1963 و1979 عقب قيادته لانقلاب عسكري ضد الحكومة المدنية. وبرغم ذلك، فلا يزال والدها يحظي بتقدير قطاعات واسعة من السكان، وخاصة كبار السن الذين يتذكرون النمو الاقتصادي السريع في ظل قيادته، فعندما تسلم بارك السلطة 3691 كانت كوريا الجنوبية بين أفقر دول آسيا وثلث سكانه، كانوا يعيشون تحت خطر الفقر المدقع وكانت نصف الموازنة تأتي من المعونات الأمريكية، فقدم بارك نموذجاً جديداً في النهوض الاقتصادي الناشئ. وبرغم ذلك تم اتهامه بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في عهده، ومحاولات اغتياله العديدة، التي أودت واحدة منها بحياة زوجته عام 1974 برصاص ناشط مؤيد لكوريا الشمالية، واغتياله عام 1979 علي يد رئيس وكالة المخابرات المركزية في كوريا. أخذت بارك عن والدها قوة شخصيته، وهو ما بدا واضحاً في تصميمها علي تغيير الوضع السياسي الصعب في البلاد، وحل المشاكل الاقتصادية والأمنية. فالشعب الكوري الذي تحتل بلاده مركزاً متقدماً وسط أفضل دول العالم اقتصاديا ذهب لصناديق الاقتراع ليس فقط للخروج من أزمته الاقتصادية التي طلت منذ سنوات بتراجع معدل النمو الاقتصادي بنسبة 2٪ وسط زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء. فقد شهدت كوريا الجنوبية التي يعتمد اقتصادها علي التصدير تراجعا في معدل النمو إلي نحو 2٪ هذا العام مقابل 5.5٪ سنوياً في المتوسط علي مدي عقود أثناء تحولها من دولة نامية لتصبح رابع أكبر اقتصاد في آسيا. ووعدت الرئيسة المنتخبة الجديدة بعصر جديد لسيول وشعبها من خلا تعزيز الاقتصاد وتطبيق سياسات اجتماعية أقوي، وتوفير فرص عمل وخفض تكاليف التعليم . وعلي صعيد السياسة الخارجية، كان الاهتمام الرئيسي لبارك منصباً علي السياسة التي ستتبع تجاه كوريا الشمالية والعلاقة المتوترة مع اليابان وهي الحاكم الاستعماري السابق والتعاون مع الولاياتالمتحدة، الحليف السياسي. وخلال زيارة قامت بها بارك لقبر والدها، عقب إعلان نتيجة الانتخابات، دعت إلي التواصل بشكل أقوي مع بيونج يانج، يعتمد علي "أمن قوي ودبلوماسية تعتمد علي الثقة"، وهو عكس سياسات الرئيس الحالي لي ميونج باك. وازدادت العلاقات بين الجارتين سوءاً بعد تولي »لي« المنصب عام 2008 حيث انتهج خطاً أكثر تشددا تجاه الجارة الشمالية. واقترحت عقد لقاء مع رئيسها كيم جونج أون الذي خلف والده في ديسمبر 2011 وإجراء حوار معه مع وعد باتخاذ موقف صارم من البرنامجين النووي والصاروخي لكوريا الشمالية، بعد أن تسبب إطلاق الأخيرة صاروخاً الأسبوع الماضي في تعزيز مخاوف من احتمال أن تكون بصدد تطوير صواريخ طويلة المدي، هو الرابع منذ عام 2006 تزامناً مع الذكري الأولي لرحيل الزعيم السابق كيم جونج ايل، وهذا يدل علي خطورة الوضع الأمني الذي نحن فيه. وقالت بارك إنها ستفي بالوعد الذي قطعته بفتح عصر جديد في الأرخبيل الكوري، وتعهدت بالعمل مع شركاء إقليميين من أجل تعزيز السلام ومحاولة العمل من أجل تعزيز المصالحة والتعاون والسلام في شمال شرق آسيا علي أساس إدراك صحيح للتاريخ، في إشارة فيما يبدو إلي صراع مع اليابان بشأن الماضي الاستعماري. وأشارت إلي أنها من الممكن مواصلة النهج المتشدد الذي انتهجه الرئيس المنتهية ولايته لي ميونج باك فيما يتعلق بمطالب اليابان بجزيرة كورية جنوبية. وتضررت العلاقة بين البلدين، وهما حليفان لواشنطن في المنطقة، بسبب النزاع علي الجزيرة تاكيشيما التي يطلق عليها في كوريا الجنوبية "دوكدو"، بجانب مسألة اعتذار وتعويضات من طوكيو عن الاستغلال الجنسي لنساء كوريات أثناء الحرب العالمية الثانية. وذكرت سيول أن اليابان، المنخرطة في نزاعات مع الصين، لم تقر بالمسئولية عن حكمها القاسي لكوريا في الماضي، فيما أعلنت السلطات اليابانية عن تقديم اعتذار عن مسألة الاستغلال الجنسي للكوريات ودفع تعويضات لهن. ويري المحللون السياسيون أن بارك أمامها تحديات كبيرة لتعزيز تحالف بلادها القائم منذ فترة طويلة مع واشنطن وبناء الثقة مع كوريا الشمالية في السياسات الأمنية. حيث يقول »شي ون بين« محلل سياسي وأستاذ دبلوماسي في جامعة شانج يانكوان، وفقاً لرويترز، إن الشعب الكوري يري أن تحالف بلادهم المبالغ فيه مع واشنطن، جاء علي حساب العلاقات مع بكين وبيونج يانج وإهمالها. ومن المنتظر أن تمضي الرئيسة المنتخبة قدما في بناء قاعدة بحرية في جزيرة جيجو التي يمكن أن تحسن سيطرة سيول بصورة أفضل علي الممرات البحرية الحيوية والعمل مع البرلمان لتمرير قانون حقوق الإنسان الذي يمكن أن يكون ورقة ضغط علي بيونج يانج لإحداث التغييرات التي يمكن أن تفيد حياة مواطنيها. ومن ناحية أخري، يري آخرون أن صقور السياسة في سيول سيحاولون عرقلة خطوات بارك تجاه الجارة الشمالية، بالإضافة إلي واشنطن وحلفائها الساعين إلي معاقبة بيونج يانج بعد إطلاقها الصاروخ. وتوقع الخبراء أن تراقب كوريا الشمالية سياسة الرئيسة المنتخبة لجارتهم الجنوبية بحذر، وتبحث الآن كيف يكون رد الفعل والتعامل مع الزعيمة المحافظة في سيول.