منذ اندلاع الأزمة السورية في مارس 2011، نجت لبنان بمعجزة من نيران الحرب الأهلية المستعرة في جارتها المرتبطة بها تاريخياً، لكن الأسبوع الماضي كان شاهداً علي عودة بلد "الأرز" مجدداً كمسرح لتصفية حسابات إقليمية بين السعودية وإيران.. تلك الحسابات الممتدة أيضا من العراق إلي البحرين وحتي اليمن، تشابكت بأزمة أخري تفجرت باستقالة تليفزيونية مفاجئة لسعد الحريري رئيس وزراء لبنان، علماً بأن تصاعد وتيرة المواجهة بين الرياض وطهران، انطلاقا من بيروت تحديدا، كان مع مطلع 2016 علي وقع تنفيذ السعودية حكما بالإعدام بحق المرجع الشيعي الشيخ نمر النمر، وما تبع ذلك من اقتحام وحرق للسفارة السعودية بطهران. الحكومة اللبنانية، التي هي نتاج توازن دقيق بين قوي الرابع عشر من آذار بزعامة تيار المستقبل والكتلة السنية الموالية للسعودية، وقوي الثامن من آذار ممثلة في حزب الله ممثل الشيعة ومن معه من فصائل موالية لإيران رفضت إدانة ما حدث للسفارة السعودية بطهران فما كان من الرياض إلا أنها أوقفت منحة قدرها 3 مليارات يورو كانت مقررة لتسليح الجيش اللبناني، كما طلبت من رعاياها عدم الذهاب إلي بيروت، ثم قادت المملكة دول مجلس التعاون الخليجي لتبني قرار يعتبر حزب الله منظمة إرهابية، قبل أن توقف حزمة مساعدات للجيش اللبناني مُمثلة في صفقة أسلحة من فرنسا قيمتها 3 مليارات يورو، فضلا عن إيقاف الاستثمارات السعودية بلبنان وسحب رؤوس الأموال السعودية من البنوك اللبنانية، وترحيل عدد من الرعايا البنانين العاملين في الخليج عموماً إلي بلدهم. معسكر الرابع عشر من آذار يضم التجمع السني الأكبر في البلاد وعلي رأسه تيار المستقبل بزعامة رئيس الوزراء المستقبل سعد الحريري، نجل رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، ويتحالف معه جزء من المسيحيين أبرزهم حزب الكتائب المسيحية بقيادة سمير جعجع، وورثة عائلة الجميل بقيادة الرئيس الأسبق بشير الجميل، وجزء من الدروز يقودهم وليد جنبلاط. أما معسكر الثامن من آذار فيضم جميع الشيعة بزعامة حزب الله وحركة أمل وزعيمها نبيه بري، وبعض من الدروز المنشقين علي وليد جنبلاط ونصف آخر من المسيحيين هو التيار الوطني الحر ويتزعمه رئيس الجمهورية ميشيل عون، وحزب المرده الموالي لسوريا ويتزعمه عائلة فرنجيه. في الوقت الراهن انتهي التوازن الهش بين المعسكرين، وكانت هذه الخريطة من التحالفات قد رُسمت منذ 12 عاماً، حيث كانت أصواتا يتزعمها رفيق الحريري تتعالي آنذاك برفض ما يعتبرونه وصاية من النظام السوري، المدعوم إيرانياً، علي لبنان مع حشود في الشوارع تطالب بسحب قوات الجيش العربي السوري من الأراضي اللبنانية، وهو الذي كان متمركزاً بها منذ عام 1976 بناء علي قرار من جامعة الدول العربية حينما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية الثانية (1975-1990)، وفي خضم تلك الأحداث تم اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير من عام 2005 بانفجار مروع استهدف موكبه في وضح النهار وفي قلب العاصمة بيروت، وقُتل فيه أيضا 21 شخصا آخرين في حدث هز البلاد ودفع بنجله إلي السياسة وبدأ أعواما من الاضطرابات السياسية، وبعد شهر واحد من مقتله نزلت حشود غير مسبوقة لشوارع بيروت قُدرت بمليون شخص يطالبون بكشف حقيقة مقتله، مع اتهامات مسبقة من طرف السعودية وفرنسا والولايات المتحدة بتورط النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد في مقتل الحريري، وكان حزب الله قد استبق مظاهرات الرابع عشر من مارس بمظاهرات في الثامن من نفس الشهر للتنديد بالتدخل الغربي في شئون لبنان، غير أن ضغوط معسكر الحريري كانت الأقوي ما أدي لانسحاب الجيش السوري من لبنان بعد تواجد استمر 15 عاماً. الحرب الأهلية المستعرة في سوريا منذ 6 سنوات، أخلت بكل التوازنات علي المسرح اللبناني، إذ إن أفواج النازحين من دمشق إلي بيروت أثقلت كاهل الاقتصاد اللبناني، إضافة لذلك فإن تدخل قوات حزب الله إلي جانب الجيش السوري في مواجهة المتمردين علي نظام حكم الأسد أوجد حالة من الاحتقان الطائفي.. معسكر الثامن من مارس، أو حزب الله لو شئنا الدقة، منع انتخاب أي رئيس جمهورية وظل قصر بعبدا خالياً لأكثر من عامين إلي أن جاء بحليفه ميشيل عون، وشريحة كبيرة من المسيحيين اللبنانيين الذين كانوا معارضين للأسد أصبحوا في صفه خوفاً علي أشقائهم من نفس الديانة في سوريا والذين كانوا ومازالوا يعيشون تحت حماية نظام الأسد الذي من مزاياه حماية الأقليات، لا سيما مع الفظاعات التي ارتكبتها الجماعات المسلحة من أمثال داعش وجبهة النصرة بحق كل من يختلف معهم دينياً ومذهبياً، وحتي وليد جنبلاط، أحد معارضي الأسد في الماضي، يلتزم الصمت حالياً خوفاً علي دروز سوريا، أما السُنة فإنهم الآن مترددون أو مجبرون علي الاختيار بين الاعتدال الذي يمثله سعد الحريري والتطرف الذي يجسده الشيخ السلفي المتشدد أحمد الأسير المقبوض عليه منذ أغسطس 2015 حيث تم توقيفه في مطار بيروت بينما كان يحاول الهرب بجواز سفر مزور بعد إجراء بعض التعديلات في مظهره. واجهة الصراع استقالة الحريري دفعت بلبنان مجددا إلي واجهة الصراع الإقليمي بين إيران والسعودية ومن المرجح أن تتسبب في تفاقم حدة التوتر الطائفي بين السنة والشيعة في لبنان، كما أطاحت بحكومة ائتلافية تشكلت العام الماضي بعد سنوات من الجمود السياسي واعتبرت انتصارا لحزب الله وإيران. وقال الحريري، وهو حليف مقرب للسعودية، إن سلاح حزب الله "هو الموجه إلي صدور إخواننا السوريين واليمنيين فضلا عن اللبنانيين"، وأضاف "أريد أن أقول لإيران إنهم خاسرون في تدخلاتهم في شؤون الأمة العربية، وسوف تنهض أمتنا كما فعلت في السابق وستقطع الأيادي التي مدت إليها بالسوء". وضم ائتلاف الحريري الذي تولي السلطة في العام الماضي كل الأحزاب السياسية الرئيسية في لبنان تقريبا ومنها تيار المستقبل الذي يتزعمه وحزب الله. وتولي الحريري رئاسة الوزراء في أواخر العام الماضي بعد اتفاق سياسي دفع ميشيل عون حليف حزب الله إلي سدة الرئاسة. واستكمالا للحالة الضبابية المهيمنة باستمرار علي المشهد السياسي في بلد الأرز، فإنه ليس من الواضح من قد يخلف الحريري صاحب النفوذ السياسي السُني الأوسع في لبنان، علماً بأن منصب رئيس الوزراء مخصص للسنة في نظام اقتسام السلطة المسمي بالمحاصصة الطائفية في لبنان. ويقتضي الدستور بأن يرشح عون شخصية لشغل المنصب تحظي بأكبر دعم بين نواب البرلمان. وقال الحريري "إننا نعيش أجواء شبيهة بالأجواء التي سادت قبيل اغتيال الشهيد رفيق الحريري وقد لمست ما يحاك في الخفاء لاستهداف حياتي". وأوضح سعد الحريري إن حزب الله وإيران دفعا بلبنان إلي "عين العاصفة" فيما يخص العقوبات الدولية. وأضاف "إيران التي ما تحل في مكان إلا وتزرع فيه الفتن والدمار والخراب.. يدفعها إلي ذلك حقد دفين إلي الأمة العربية ورغبة جامحة في تدميرها والسيطرة عليها". وقال الحريري "خلال العقود الماضية استطاع حزب الله فرض أمر واقع في لبنان بقوة سلاحه الذي يزعم أنه سلاح مقاومة". وأضاف "أصبحنا نعاني منها (تدخلات حزب الله) ليس علي الصعيد الداخلي فحسب ولكن علي صعيد علاقتنا مع أشقائنا العرب". وكان الحريري قد زار السعودية مرتين خلال الأسبوع الماضي والتقي بولي العهد الأمير محمد بن سلمان وبمسؤولين كبار آخرين. وفي الأسابيع الماضية أيضا زار ساسة مسيحيون معارضون لحزب الله السعودية. ومن جهته قال مكتب الرئيس اللبناني ميشيل عون إن رئيس الوزراء سعد الحريري اتصل به هاتفيا من "خارج لبنان" للإبلاغ باستقالة حكومته، وأضاف أن عون ينتظر عودة الحريري إلي بيروت "للاطلاع منه علي ظروف الاستقالة". وكان الحريري قد توجه إلي السعودية قبل يوم من إعلان استقالته، وبعد اجتماع في بيروت مع علي أكبر ولايتي المستشار الكبير للزعيم الأعلي آية الله علي خامنئي. وبعد الاجتماع وصف ولايتي ائتلاف الحريري بأنه "انتصار" و"نجاح عظيم". صراع نفوذ وليد جنبلاط زعيم الدروز في لبنان والذي يلعب دورا هاما علي الساحة السياسية، قال إنه يخشي من عواقب استقالة الحريري، وأكد جنبلاط لوكالة فرانس برس "أنا قلق بشأن الاقتصاد بالطبع كما أنني قلق بشأن السياسة. لا نملك القدرة علي قتال الإيرانيين من داخل لبنان". ودعا جنبلاط للوساطة مع حزب الله في لبنان والانتظار حتي تسمح ظروف الإقليم بإقامة حوار بين السعودية وإيران. وأشار جنبلاط إلي أن "لدي لبنان ما يكفيه من مشكلات. هو أضعف من تحمل تداعيات مثل هذه الاستقالة التي سيكون لها تأثير سلبي هائل.. كنت وسأبقي من دعاة الحوار بين السعودية وإيران". ووصف استقالة الحريري بأنها أمر "عصي علي الفهم". وعن كلام الرئيس الحريري حول استهداف حياته بالقتل وأن الواقع اللبناني الحال أشبه بما كان عليه إبان اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري اعتبر جنبلاط أن حياة المرء مرهونة بالأقدار. أما النائب في كتلة "القوات اللبنانية" انطوان زهرا، فتمنّي بأن تكون استقالة الحريري "انتفاضة كرامة بوجه كل العراقيل السياسية أمام انطلاق الحكومة"، مخمناً أن يكون السبب الرئيسي وراء الاستقالة يعود لكلام مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي بأن الانتصار اللبناني السوري العراقي ضدَّ الإرهابيين يشكّل انتصار محور المقاومة، فهو ضمّ لبنان إلي المحور الإيراني من دون استشارة اللبنانيين. إدانة إيرانية في الوقت نفسه، دان مسؤولون إيرانيون الاستقالة وإعلانها من خارج لبنان، ومن السعودية تحديدا، فيما بدا أن مسؤولين سعوديين مرحبين بالخطوة. وقال حسين شيخ الإسلام وهو مستشار للزعيم الإيراني الأعلي في تصريحات للإذاعة الرسمية "استقالة الحريري تمت بتخطيط من دونالد ترامب رئيس أمريكا ومحمد بن سلمان ولي العهد السعودي لزعزعة استقرار الموقف في لبنان والمنطقة". وقال وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان، الذي التقي بالحريري في الرياض قبل أيام، في تغريدة علي تويتر "أيدي الغدر والعدوان يجب أن تبتر"، في إشارة ضمنية لإيران التي توعدها الحريري نفسه في خطابه ببتر يدها، والحديث هنا لا شك عن حزب الله بقيادة حسن نصر الله. ومن الجدير بالذكر أن محكمة تدعمها الأممالمتحدة وجهت اتهامات لخمسة من عناصر حزب الله فيما يتعلق باغتيال رفيق الحريري. وبدأت محاكمتهم غيابيا في لاهاي في يناير 2014 فيما نفي حزب الله والحكومة السورية أي ضلوع لهما في عملية الاغتيال. علاقة جماعة حزب الله بإيران ودعمها للرئيس السوري بشار الأسد، أثارت دوماً غضب بعض اللبنانيين وكانت مصدرا أساسيا للصراع في لبنان علي مدار السنوات الست الماضية، وتبنت الحكومة اللبنانية موقفا رسميا "للنأي بالنفس" عن الصراع السوري لكن تلك السياسة تعرضت لضغوط في الشهور الماضية مع سعي حزب الله وحلفائه لتطبيع العلاقات مع الرئيس الأسد. ومنذ توليه المنصب سعي الحريري لحشد المساعدات الدولية للبنان لكي يستوعب الضغط الناجم عن استضافة نحو 1.5 مليون لاجئ سوري وحاول استقطاب مليارات الدولارات لدعم اقتصاد البلاد. وعلق علي حسن خليل وزير المالية اللبناني بالقول إن الاقتصاد والليرة لا يواجهان خطرا بعد الاستقالة.