صادرات تركيا تتجاوز 22 مليار دولار في سبتمبر    وزير النقل: الدائري وجميع المحاور المؤدية للمتحف المصري الكبير جاهزة لحفل الافتتاح غدا    مستشفى ناصر يتسلم من الصليب الأحمر جثامين 30 فلسطينيا    بالصور.. إقبال كثيف من أعضاء الأهلي للمشاركة في الانتخابات    محمد مكي مديرا فنيا للسكة الحديد مودرن    الأرصاد الجوية تكشف حالة الطقس اليوم الجمعة 31 أكتوبر ودرجات الحرارة الآن في المحافظات    السيطرة على شقة سكنية دون إصابات بالتجمع    عطل مفاجئ يوقف قطار ركاب ببني سويف.. ومصدر: تشغيل الحركة مؤقتًا على خط واحد    5 إصابات في حادث اصطدام سيارة ميكروباص بالرصيف بالتجمع الخامس    مصرع شاب وإصابة والدته في حادث تصادم بمنطقة كرداسة في الجيزة    بعد خلافهما الأخير.. عمر كمال يوجه رسالة مؤثرة لمحمد فؤاد    تعرف على إيراد أمس الخميس لفيلم "السادة الأفاضل"    محافظ أسيوط يجري مقابلات لاختيار رؤساء قرى جدد    شبكة أطباء السودان: نزوح 4500 مواطن من بارا في شمال كردفان    أفغانستان وباكستان تتفقان في إسطنبول على استئناف المحادثات    إعصار ميليسا يضرب الكاريبى بقوة.. وتضرر أكثر من 700 الف طفل.. فيديو    إدراج 29 جامعة مصرية في تصنيف ليدن الهولندي لعام 2025    ضبط 3 أطنان ملح صناعي مجهول المصدر بشبرا الخيمة وتشميع الموقع    أسعار المأكولات البحرية والجمبري اليوم الجمعة 31-10-2025 في محافظة قنا    أحمد حسن: فوز بيراميدز على أهلي جدة أربك حسابات المنتخب    إجازة افتتاح المتحف المصري الكبير.. هل تشمل السبت والأحد؟    أحمد صبرة: المتحف الكبير يجسد عبقرية المصري القديم وقدرة المصري المعاصر على البناء والإبداع    بعد تغيير الساعه.. مواقيت الصلاه اليوم الجمعه 31 أكتوبر 2025 فى محافظة بني سويف    دعاء يوم الجمعة المستجاب ..«اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي» (ردده الآن)    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : رحم الله أبى !?    خشوع وسكينة.. أجواء روحانية تملأ المساجد في صباح الجمعة    وزير الصحة يستقبل محافظ الشرقية لمتابعة إنجاز المشروعات الجارية    ديربي الرياض.. تشكيل الهلال المتوقع أمام الشباب في الدوري السعودي    انطلاق التصويت بانتخابات النادي الأهلي    الصين: على واشنطن توخي الحذر في الأقوال والأفعال بشأن قضية تايوان    سعر الريال السعودي في بداية التعاملات اليوم 31 أكتوبر 2025    بالصور.. سقوط هادي الباجوري وزوجته خلال رقصهما في حفل زفافهما    لوموند تشيد بالمتحف المصرى الكبير..أكبر صرح فى العالم مخصص لحضارة واحدة    هل اعتزلت حلا شيحة الفن؟..والدها يحسم الجدل    "المصريين أوت دور" تنفذ أضخم حملة دعائية بمطار القاهرة وتنقل البث الحي لافتتاح المتحف المصري الكبير على شاشة 5D    مع بدء تطبيق التوقيت الشتوي.. تعرف على مواقيت الصلوات الخمس اليوم الجمعة 31 أكتوبر 2025 بمحافظة السويس    مواعيد مباريات الجمعة 31 أكتوبر - دربي الرياض ومواجهات قوية لحمدي فتحي وكهربا    آدم كايد يغيب عن الزمالك فى السوبر المحلي بالإمارات    إصابة ربة منزل وزوجها ونجلهما ب«مادة كاوية» في مشاجرة بالجمالية    وكيلة الصحة بالإسماعيلية تتابع توفير الأدوية بالوحدات الصحية    أول ظهور للمطربة الشعبية رحمة محسن بعد ضجة الفيديوهات المسربة (صور)    أسعار مواد البناء في مصر اليوم الجمعة    «زي النهارده».. استقالة مهاتير محمد من حكم ماليزيا 31 أكتوبر 2003    تراجع أسعار الذهب عالمياً في بداية تعاملات الجمعة    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الجمعة 31 كتوبر    بعد إعلان ترامب.. «فانس» يدافع عن التجارب النووية وبيان مهم ل الأمم المتحدة    «آخره السوبر.. مش هيروح بالزمالك أبعد من كدة».. أحمد عيد عبد الملك يوضح رأيه في فيريرا    هيجسيث يأمر الجيش بتوفير العشرات من المحامين لوزارة العدل الأمريكية    قوات الاحتلال تداهم عددًا من منازل المواطنين خلال اقتحام مخيم العزة في بيت لحم    رئيس مجلس الشيوخ يستقبل محافظ القاهرة لتهنئته بانتخابه لرئاسة المجلس    موعد وشروط مقابلات المتقدمين للعمل بمساجد النذور    ندوة «كلمة سواء».. حوار راقٍ في القيم الإنسانية المشتركة بالفيوم    د.حماد عبدالله يكتب: "حسبنا الله ونعم الوكيل" !!    مش هتغير لونها.. طريقة تفريز الجوافة لحفظها طازجة طوال العام    التخلص من دهون البوتاجاز.. طريقة سهلة وفعّالة لتنظيفه وإعادته كالجديد    بعد معاناة المذيعة ربى حبشي.. أعراض وأسباب سرطان الغدد الليمفاوية    مبادئ الميثاق الذى وضعته روزاليوسف منذ 100 عام!    عندما قادت «روزا» معركة الدولة المدنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرار.. مسئولية لمحات من شجاعة وطن وحكمة قائد
خارج النص
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 26 - 10 - 2025

اليوم مصر تكتب -فى هدوء وبغير ضجيج- مستقبلًا جديدًا للمنطقة، ترسى قيمها، وتعزز قيمتها، وترفع قامتها، وتبلغ قمتها إذ تنتصر لإرادة السلام وتنحاز لحق الشعوب فى الحياة، وتخلق واقعًا جديدًا ينجو فيه الأبرياء من بطش مهاويس التوسع، وأسرى الأساطير الزائفة، وفرسان الأباطيل الكاذبة.
القاهرة التى قهرت صعابًا بلا عدد واجتازت مخاطر بلا حصر لا تزال قادرة على قهر كل الصعاب والعراقيل التى توضع فى طريقها
فى البدء كانت مصر.. قبل الزمان ولدت، وقبل التاريخ.
هنا بدأ كل شىء: الزراعة، والعمارة، والكتابة، والورق، والهندسة، والقانون، والنظام، والحكومة.
وهنا، وقبل كل شىء وُلد الضمير.
هكذا قال جيمس هنرى بريستد فى كتاب جليل عن مصر عنوانه: فجر الضمير.
والضمير هو الوازع الداخلى فى كيان الإنسان الذى ينبهه إلى الخير ويحذره من الخطأ، ويحاسبه على ما يتعارف من أخطاء حسابًا داخليًا صامتًا.
فى قلب المصرى القديم، وفى بيته ومدينته وحقله، فى أرضه وسمائه وجدت «ماعت» رمز الضمير والإحساس الإنسانى والقانون الأخلاقى، «ماعت» هى ما نسميه اليوم بالمروءة، المروءة بمعنى الإنسانية والحب والخير والعدالة والفضيلة، هذه كلها اكتشفها المصرى القديم وهو يعمل فى حقله وينظر إلى السماء الزرقاء، ويستعطف الشمس الحامية، ويعانق النبات الأخضر الطالع.
عندما اكتشفها المصرى القديم وصل إلى أعظم كشف فى تاريخ الفكر البشرى، اكتشف أنه إنسان، وأن هناك فرقًا بينه وبين الحيوان: لا تنازع على البقاء وإنما تعاون للبقاء، لا قتل ولا ظلم ولا عدوان، بل حب وتعاون وإخاء.. هذا سر من الأسرار الكبرى لحضارة مصر القديمة التى حيرت البشر.
قرون تجرى فى أثر قرون، عوالم تولد ثم تموت، ومصر هنا فى مكانها، تبنى وتنشئ وتعمر وتكتب وترسم وتنشد وتصلى وتتألق وتتوهج وتخبو، ثم تتألب وتتوهج.
حكاية جميلة من ألف فصل مضت.. وألف فصل تأتى بإذن الله.
■■■
هذه الكلمات العظيمة التى أقتبسها من سطور الدكتور حسين مؤنس فى كتابه القيم «مصر ورسالتها»، تصلح أن تقرأها فى كل زمان لنفهم بعضاً من جوانب عبقرية مصر الإنسان والمكان والعمران، وهى أيضًا صالحة اليوم للتأمل كى نفهم ونعى بعضًا من لمحات قصة مصر، وما تنجزه من خطوات كبيرة وجليلة على طريق صعب، العقبات فيه أكثر من فرص النجاح، واحتمالات النجاة تبدو أقل كثيرا من مخاطر التورط.
لكن القاهرة التى قهرت صعابا بلا عدد واجتازت مخاطر بلا حصر، لا تزال قادرة على قهر كل الصعاب والعراقيل التى توضع فى طريقها، وأن تثبت أن جينات الحضارة والمروءة المتوارثة من قديم الأزل والكامنة فى أعماق الشخصية المصرية لا تزال حاضرة وممتدة من المصرى القديم إلى المصرى الذى يواصل صناعة التاريخ اليوم، ويسعى -بما أتيح له من أدوات وإمكانات- أن يدوِّن سطرًا جديدًا فى صفحات المجد وأن يثبت -لنفسه قبل أن يكون للعالم- قدرته المتجددة دائمًا على التوهج والإبداع فى كل مجال، حتى فى أحلك اللحظات وأقساها.
ما تعيشه مصر اليوم من زخم كبير على مختلف الأصعدة، حالة تستحق أن توثق وتسجل حتى لا تضيع منا فى زحام الأحداث وصخب التطورات، ليس فقط على المستوى السياسى والاستراتيجى، ولكن على مسارات الاقتصاد والفن والعمران، وتجسيد قيم الإنسانية المصرية واقعًا حيًا نسمع صوته ونرى انعكاساته ليس فقط فى إشادات كبار المسئولين الدوليين والمنظمات العالمية، بل الأهم ما تهمس به أصوات الدعاء المتصاعدة من حناجر البسطاء الناجين من المحرقة الإسرائيلية فى غزة، وكلمات الامتنان التى تتردد على ألسنة أشقائنا السودانيين فى طريق عودتهم إلى بلادهم بعد استضافة كريمة فى أرض الكنانة، ولهجات عربية عدة بات من الطبيعى أن تسمعها فى المحال والأسواق المصرية.
■■■
اليوم مصر تكتب -فى هدوء وبغير ضجيج- مستقبلًا جديدًا للمنطقة، ترسى قيمها، وتعزز قيمتها، وترفع قامتها، وتبلغ قمتها إذ تنتصر لإرادة السلام وتنحاز لحق الشعوب فى الحياة، وتخلق واقعًا جديدًا ينجو فيه الأبرياء من بطش مهاويس التوسع، وأسرى الأساطير الزائفة، وفرسان الأباطيل الكاذبة.
بعد جهد وعمل ينحنى له التاريخ احترامًا، نجحت القاهرة فى حقن دماء أطفال ونساء وشيوخ من براثن دعاة الحرب وجلادى العصر الحديث، الذين لا تملأ رءوسهم الفارغة سوى أفكار التوسع على حساب الغير، والاستعانة بقوة داعميهم، دون أن يدركوا أن الحق يعلو القوة، وأن إرادة الله فوق كل شىء، والله لا يُصلح عمل المفسدين.
هذه النجاحات المتتالية للسياسة المصرية والتى تجسدت خلال الآونة الأخيرة بشكل مبهر فى قمة شرم الشيخ للسلام، ثم فى القمة المصرية الأوروبية ببروكسل، والجهود الدءوبة التى تبذلها مصر لإنجاح وقف الحرب والانطلاق نحو المرحلة التالية من الاتفاق بدعم دولى واسع النطاق، كلها أمور لم تأت من فراغ أو تنبت من العدم، بل كانت تجسيدًا لرؤية واضحة وعقيدة مصرية لا تتزعزع، قوامها فهم عميق لثوابت الدولة المصرية وتمسك صلب بها، وعقيدة بأن مصر لا تشارك فى ظلم، بل تعمل بكل ما أوتيت من قوة لرفع ذلك الظلم.
كما كانت تلك النجاحات ثمرة لحكمة قيادة سياسية تمسكت بعون ربها، ودعم شعبها، واحترافية مؤسساتها، وبنَتْ تحركاتها على قراءة واقعية لمتغيرات الواقع الإقليمى والدولى، وتوظيف متقن ومدروس لأدوات القدرة بما يقود فى النهاية لتحقيق الهدف.
وربما كل هذه المعانى هى ما اختصرها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته الموجزة الوافية فى ختام احتفالية «وطن السلام» التى استضافتها مدينة الثقافة والفنون بالعاصمة الإدارية الجديدة مساء أمس الأول، عندما تحدث عن أن «القرار مسئولية»، فهذه المسئولية تنطلق من إدراك عميق لمكانة الدولة ومبادئها الثابتة، وكذلك من خلال امتلاك أدوات تتسم بالاحترافية والعمل المتناسق من أجل تحويل تلك الرؤية إلى واقع.
كما تنطلق تلك المسئولية أيضًا من يقين وفهم عميق لثوابت وعقيدة الشعب المصرى الرافض للظلم، والمتمسك عبر تاريخه بقيم الحق والخير والفضيلة، والشجاع دائمًا فى مواجهة التحديات، وهو ما عكسته كلمات الرئيس بأن «النصر لم يأت بقوة الجيش فقط بل أولًا بقوة الشعب»، مؤكداً أن «الشعب الذى يرفض الهزيمة يعينه الله على النصر».
والنصر لم يكن فقط فى حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، بل كان نصرًا فى معركة السلام، ونصرًا فى حماية هذا السلام على مدى عقود، ونصرًا جديدًا فى فرض إرادة السلام فى وجه مخطط الفوضى المدمرة التى كادت تطغى وتعم المنطقة، لكن الله أعان مصر وقائدها لكى تعود الأمور إلى نصابها الصحيح.
■■■
والواقع أن ما حققته مصر فى شرم الشيخ لم ينته بعد، بل ربما فتح ذلك النجاح الكبير أفقًا كبيرًا نحو بناء جاد لسلام يعتمد على قناعة راسخة بأن لغة القوة ومنطق التهديد لن يفلحا فى فرض السلام بالقوة، بل إن العدل ورفع الظلم والإقرار بحقوق الشعوب فى العيش الآمن هى الأساس الصحيح الذى يجب أن يُبنى عليه السلام فى منطقة جربت كل أشكال الظلم والجور والطغيان، وعانت من كل ألوان التدخل والاستعمار والحروب، وآن لها أن تلتقط الأنفاس.
ما ينتظر مصر كثير وكبير، وهى جديرة بالقيام بتلك الأمانة وتحمل هذه المسئولية، وقد واصلت بالفعل العمل، فلم تكن هناك فرصة للاحتفال أو التباهى، فبينما كان الزعماء فى شرم الشيخ يوقعون اتفاق السلام، كانت فرق العمل على الأرض تسابق الزمن لانجاز الاتفاق بكل دقة مع مختلف الأطراف.
سارعت مصر لدعوة الأشقاء الفلسطينيين من مختلف الفصائل ليلتقوا على كلمة سواء، وتوفر لهم الأجواء التى تقود إلى إعادة ترتيبب البيت الفلسطينى، ولعل ما رشح عن الاجتماعات الجارية فى القاهرة من تجاوب من جانب الفصائل الفلسطينية يمنحنا بعض الأمل فى أن تعلو كل مكونات الوطن الفلسطينى على الانتماءات الأيديولوجية والخلافات السياسية والتجاذبات الإقليمية ليلتفوا حول قرار ورؤية واحدة.
سعت مصر طويلًا ومنذ سنوات لتحقيق وحدة الصف الفلسطينى، ولم تفقد صبرها أو تغير موقفها من أى فصيل فلسطينى رغم بعض الصغائر التى نالتها ممن أعمتهم الأيديولوجيا والارتهانات الخارجية عن أن يبصروا الحقيقة ويفرقوا بين من يمد لهم يد العون الصادق وبين من يستخدمهم ورقة على طاولة تفاوض، لكن مسئولية القرار المصرى، وعقيدة الدولة الراسخة بدعم كل ما هو فلسطينى كانتا دافعين للتسامى فوق كل الصغائر.
وعلى الجانب الآخر، لم توقف القاهرة اتصالاتها، بل سارع السيد اللواء حسن رشاد رئيس المخابرات العامة للقاء المسئولين الإسرائيليين والأمريكيين لتثبيت وقف الحرب، وإنفاذ كل بنود الاتفاق، وإزالة العراقيل التى تضعها سلطات الاحتلال أمام تدفق المساعدات إلى داخل الأراضى الفلسطينية.
■■■
العالم يراهن اليوم على مصر لكى يستمر صمود وقف الحرب فى غزة، فالجميع بات يوقن - عن حق - بأن مصر هى الدولة الوحيدة القادرة على العمل مع كل الأطراف، والتواصل الفعال مع القوى الفاعلة فى المسرحين الإقليمى والدولى فيما يتعلق بأزمات المنطقة من أجل التوصل إلى مسار يحقق مصالح الجميع.
وهذا الرهان الصائب لا يأتى فقط لما لمسته مختلف دول المنطقة والعالم من قدرة للدولة والمؤسسات المصرية، بل يأتى من إدراك حقيقى بأن الرؤية المصرية هى الأكثر تكاملًا وموثوقية فى التعامل مع الأزمات بالشرق الأوسط، فالرؤية المصرية تجمع بين الفهم الاستراتيجى لجذور الأزمة وآفاق الحل.
كما تستند تلك الرؤية الصائبة لثوابت واضحة ومعلنة تقوم على ضرورة تبنى حل الدولتين، وبناء سلام قائم على العدل، وتصفية تركة الظلم التاريخى التى تعرض لها الشعب الفلسطيني، وبناء علاقات طبيعية بين دول الإقليم تعتمد على الاحترام المتبادل، يجب أن تستمد بقاءها وتنميتها من «قوة المنطق» واعتماد مدخل المصالح المشتركة، لا أن تقوم على «منطق القوة» وفرض الإرادة عبر التهديد ونشر الفوضى.
وبموازاة تلك الرؤية الاستراتيجية، تمتلك مصر من الأدوات والقدرات التكتيكية الاحترافية -ممثلة فى القنوات الدبلوماسية التقليدية وغير التقليدية- ما يجعلها قادرة على تحويل تلك الرؤية إلى واقع، وبناء مسارات يمكن الاعتماد عليها لتواصل فعال مع جميع الأطراف، سواء فى وقت الحرب أو السلم.
ولعل هذا ما تجسدَ بوضوح خلال المراحل العاصفة التى مرَّت بها المنطقة خلال العامين الأخيرين، والقدرة المصرية -المثيرة للإعجاب والتقدير- على الصبر والتمسك بخيوط الأمل فى مواجهة عوامل الإحباط واليأس ومساعى الإفشال للجهود المبذولة من القاهرة، حتى انبثق ضوء الأمل فى الوصول إلى نهاية للحرب فى أحلك لحظات الأزمة. هذه العوامل كلها ضاعفت من رصيد التقدير الدولى واسع المدى للدور المصرى المسئول والأمين.
مصر أيضًا تمتلك رؤية تتجاوز البُعد السياسي، وتنطلق إلى التعاطى مع مختلف جوانب العمل المطلوبة، ولعل الخطة التى أعدتها الدولة المصرية بمشاركة جميع مؤسساتها المعنية لإعادة إعمار غزة دون تهجير سكانها -والتى تم تبنيها عربيًا وإسلاميًا، وباتت تحظى بدعم عالمى واسع النطاق- تمثل نموذجًا لاحترافية العمل، وامتلاك الأدوات القادرة على تحويل الرؤية الاستراتيجية بدعم صمود الشعب الفلسطينى على أرضه ورفض تهجيره بأية صورة، إلى واقع قابل للبقاء.
■■■
النجاح السياسى والدبلوماسى الكبير لا ينبغى أن ينسينا نجاحًا لا يقل أهمية وقيمة وعمقًا، وهو النجاح الإنسانى، فمشهد استضافة الرئيس عبد الفتاح السيسى للطفلة الفلسطينية «ريتاج» التى أصيبت جراء العدوان الإسرائيلى الغاشم على غزة، وخرجت من القطاع لتلقى العلاج فى مصر، وإصرار الرئيس على تلبية مطلبها الذى جاء فى الفيلم التسجيلى الذى عُرض خلال احتفالية «وطن السلام» بأن تصافحه، سيبقى مشهدًا حاضرًا لسنوات فى ذاكرة الشعبين المصرى والفلسطينى اللذين ربطت بينهما وشائج التاريخ وأواصر الجغرافيا.
تلك القُبلة التى طبعها الرئيس السيسى على رأس «ريتاج» هى قُبلة على جبين كل فلسطينى صامد على أرضه، قابض على جمر الحياة فى مواجهة احتلال لا يجيد سوى نشر الموت والخراب، ولا يحترف غير إبادة المدنيين الأبرياء.
هذا الاحتضان الأبوى من قائد وزعيم اختاره القدر لمصر وللمنطقة العربية فى لحظة فارقة من مصير الوطن وتاريخ الإقليم، لم يكن فقط تجسيدًا لحنو إنسانى نبيل تجاه طفلة ذاقت طعم الأمن بعد خوف، وأبصرت نور الحياة بعدما حاصرتها أشباح الموت، لكنه كان تأكيدًا لاحتضان مصر -بكل تاريخها الإنسانى والقومى- للشعب الفلسطينى وقضيته العادلة وصموده الأسطورى، وتمسُّك مصر شعبًا وقيادة باستمرار هذا الدعم للقضية وأهلها، وعدم التفريط فى الثوابت المصرية تجاههم مهما بلغت الضغوط وتعاظمت التحديات.
التخفيف من وجع «ريتاج» كان مشهدًا من آلاف المشاهد الناصعة التى ستبقى طويلًا فى ذاكرة ووجدان البشرية عن إنسانية الشعب المصرى، وعقيدته التى لم تتغير بل ازدادت رسوخًا خلال الأزمة الأخيرة تجاه الشعب الفلسطينى، وتحمُّله -راضيًا سعيدًا ودون مَنٍّ أو أذى- تقديم أكثر من ثلاثة أرباع المساعدات التى دخلت إلى غزة، وانتفاضته الإنسانية لتقديم كل أوجُه الدعم ونضاله بداية من أعلى درجات القيادة وحتى أصغر متطوع لتصل تلك المساعدات إلى المكلومين فى غزة.
لن ينسى العالم مشهد آلاف الشاحنات المصطفة أمام معبر رفح تنتظر دورها فى العبور إلى الجانب الآخر من الحدود، وجموع السائقين والمتطوعين يرابطون على الجانب المصرى من المعبر يرفضون المغادرة لشهور طويلة فى برد الشتاء وحر الصيف أملًا فى أن يوصلوا الأمانة إلى أهلنا فى القطاع.
لن تُمحى من ذاكرة الإنسانية صورة «عم ربيع» بائع الفاكهة البسيط فى إحدى مدن الجيزة، وهو يلقى بحبات البرتقال على الشاحنات المتجهة إلى غزة علها تصل إلى فم طفل جائع، أو تخفف من وجع أم ثكلى يهددها الجوع بأن تلحق بأبنائها، فى مشهد يفيض صدقًا وتلقائية تعبر عما يكنه ملايين المصريين تجاه أشقاء الدم والمصير والإنسانية فى فلسطين.
ستبقى مشاهد البسطاء من أهل مصر وهم يقتسمون اللقمة والكسوة مع الأشقاء الفلسطينيين، ويحتضنون الأشقاء من سوريا والسودان وليبيا والعراق وغيرهم، حية فى ذاكرة الإنسانية وفى صفحات التاريخ لتكون دليلًا لا يقبل الشك على مدى إنسانية هذا الشعب بكل مستوياته ومكوناته، وعلى جينات المروءة المتوارثة من عمق الزمن وفجر الضمير إلى اليوم، وستبقى - بمشيئة الله - إلى أبد الآبدين.
وستظل جهود الدولة المصرية ومواقف شعبها وحكمة قيادتها تأكيدًا متجددًا على عبقرية هذا الشعب وقدرته على صناعة الحياة بكل صورها، بل وأن يُهدى تلك الحياة لكل مَن عصفت به ريح الأيام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.