من بين العواصف والحرائق كانت شرم الشيخ البارحة أشبه بميناء للعقل فى زمن يغرق فيه الجميع فى دوامة الدماء والخيانات. لم تكن القمة التى استضافتها مصر مجرد اجتماع دبلوماسى جديد حول القضية الفلسطينية، بل كانت إعادة تعريف للضمير العربى والإرادة الإقليمية ورسما دقيقا لحدود الحق والسلام فى منطقة تتنازعها النيران والمصالح. فى قاعة جمعت العالم على شاطئ البحر الأحمر، لم ترفع القاهرة صوتها بحثًا عن مجد شخصى أو نفوذ سياسى بل عن عدالة غابت وإنسانية تُستباح وشعبٍ فلسطينى يدفع ثمن الاحتلال والعجز الدولي. ومن خلف الكلمات كان الحضور يدرك أن ما تقوله مصر ليس مجرد بيان بل عقيدة دولة تعرف ثمن الحرب وتدرك قيمة السلام. حين تتكلم مصر يتغير المعنى فهذه الدولة التى عرفت الحرب والسلام والمفاوضات والدم لا تتحدث من فراغ ولا من موقع المراقب. منذ النكبة الأولى وحتى اللحظة كانت القاهرة على العهد: لا قبول بالتهجير ولا تنازل عن الهوية الفلسطينية ولا مساومة على القدس. وفى قمة شرم الشيخ أعاد الرئيس عبد الفتاح السيسى التأكيد على هذه الثوابت لكن بلغة تناسب زمن الانكشاف الدولى قائلا للعالم إن العدوان مهما تجمّل بمبرراته يظل عدوانا، وإن القوة لا تصنع شرعية وإن الحق لا يموت بتقادم الصمت. لم يكن حضور الرئيس فى القمة حضورا بروتوكوليا ، بل قيادة تتقدّم الصفوف وتعيد ترتيب الموقف العربى على قاعدة جديدة: أن فلسطين ليست ورقة فى مفاوضات بل بوصلتنا الأخلاقية والسياسية. وفى كلمته لم يكتف بتوصيف المأساة بل قدّم رؤية لما بعد الحرب محذرا من تكرار سيناريو التهجير الذى تسعى إليه إسرائيل، ومؤكدا أن مصر لن تسمح – ولن تسمح أبدا – بأن يُفرض على غزة واقع جديد ينسف التاريخ والهوية. لقد تحدث الرئيس بثقة من يعرف التاريخ والجغرافيا والقدر فالقاهرة لا تنطق باسم نفسها بل باسم أمة أرادت أن تبقى على قيد العدالة. وراء هذا الموقف الثابت جيش يعرف متى يصمت ومتى يتكلم. جيش لا يبيع الشعارات بل يصنع الأمن ويحمى الحدود ويقدّم الدعم الإنسانى عند الحاجة ويظل على استعداد لأن يكون درعا يحمى الأرض والعرض وصوتا يعيد التوازن إلى المنطقة. فى ظل الانفجار الإقليمى أدركت مصر أن دورها لا يقتصر على البيانات بل على أن تكون صخرة تتهشم عليها مشاريع الفوضى. لذلك ظلّ الجيش المصرى عنوانا للصبر والقوة والانضباط الوطنى وسندا حقيقيا لسياسات الدولة التى تمزج بين الحكمة والحزم. أما الشعب المصرى فلم يكن غائبا عن المشهد فمن شرفات القاهرة إلى شوارع المحافظات ومن المساجد إلى الجامعات ظلّ الوجدان المصرى متوهجا بالعروبة والإنسانية رافضا الظلم داعيا للسلام العادل ومتضامنا مع فلسطين لا من باب الشعور بل من عمق التاريخ والمصير المشترك. وحين تهتف القلوب قبل الألسنة تحيا مصر.. تحيا فلسطين يدرك الجميع أن هذه العلاقة ليست شعارا موسميا بل عقد دم وتاريخ لا يُكسر. ما يميّز قمة شرم الشيخ عن غيرها أنها لم تكن مسرحا للخطب التقليدية بل منبرا للوعى الجمعى العربي. ففى زمن تتصارع فيه العواصم على النفوذ وقفت القاهرة لتذكّر الجميع أن القيادة ليست فيمن يملك المال أو السلاح بل فيمن يملك الرؤية والقدرة على جمع الفرقاء حول كلمة سواء. لقد نجحت مصر فى تحويل القمة إلى منصة حقيقية للحقيقة وضعت العالم أمام مسؤوليته وكشفت ازدواجية الخطاب الغربى الذى يتحدث عن حقوق الإنسان فى كل مكان ثم يصمت أمام مشهد الأطفال فى غزة تحت الأنقاض. الخطوة القادمة هى الاختبار الحقيقى فمصر التى أدارت معارك التفاوض لسنواتٍ بذكاء وصبر تدرك أن السلام لا يُمنح بل يُنتزع. ولهذا كانت رسالتها واضحة: التهجير خطٌ أحمر والاحتلال لا يُشرعن والسكوت على الجريمة جريمة أخرى. وفى الوقت الذى تتعثر فيه بعض القوى أمام ضغوط الخارج تمضى القاهرة بخطى ثابتة فى ميدان مزدوج: تفتح المعابر لإغاثة المدنيين وتفتح العقول لتصحيح المفاهيم. لقد قدّمت مصر نموذج الدولة التى تعرف كيف تحمى حدودها دون أن تغلق قلبها وكيف تُوازن بين أمنها القومى والتزامها الأخلاقى تجاه الأمة. إن ما ميّز قمة شرم الشيخ أنها لم تُدفن فى المجاملات ولم تتوقف عند الشعارات. كانت قمةً استثنائية لأنها وضعت النقاط على الحروف: أن القضية الفلسطينية هى جرحنا المفتوح وأن من يتجاهل هذا الجرح يكتب نهايته الأخلاقية بنفسه. حين تصنع مصر الحدث لا تبحث عن الأضواء بل عن البقاء فى جانب التاريخ الصحيح. وموقفها من العدوان على غزة ليس طارئا ولا انتقائيا بل امتدادٌ لثوابت رسختها الجغرافيا وصقلها الضمير. ومصر التى استضافت القمة ورفعت صوتها من أجل العدالة تقول للعالم بلغة لا تقبل التأويل: إننا لا نطلب المستحيل بل نطالب بالإنصاف لا ندعو إلى الحرب بل إلى سلام يستند إلى الحق لا إلى ميزان القوة. قمة شرم الشيخ لم تكن حدثا سياسيا فحسب بل إعلان جديدا لولادة وعى عربى يرفض التلاعب بالمصير الفلسطيني. لقد قدّمت مصر ما يشبه الدرس فى الثبات إذ أثبتت أن الحياد فى القضايا الأخلاقية خيانة وأن السكوت على القتل ليس موقفا بل سقوطا. وحين تنتهى القمم وتُطوى البيانات يبقى موقف مصر ثابتا: الحق الفلسطينى لا يُنسى والعدوان لا يُبرر والسلام لا يُبنى على الركام. قمة شرم الشيخ لم تكن لحظة عابرة فى التاريخ بل إعادة كتابة لمفهوم الدور المصري: أن تكون القائد لا المتفرج أن تكون صوت الضمير حين يصمت العالم وأن تبقى دائما فى قلب المعادلة لا على هامشها. فى زمن تتشظى فيه الحقائق تظل مصر – بجيشها وقيادتها وشعبها – الحدّ الفاصل بين الفوضى والنظام بين الصمت والضمير بين الانكسار والكرامة. ومن شرم الشيخ انطلقت الرسالة التى لن تُنسى: إنّ السلام لا يولد من الخوف بل من القوة الأخلاقية لدولةٍ تعرف كيف تكتب التاريخ بالحق لا بالحبر.