أصبح من الصعب على كافة المراقبين المتابعة الدقيقة لما تشهده المنطقة من أحداث وتطورات منذ أن طرح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى نهاية الشهر الماضى خطته والتى مثلت رؤية أمريكية متقدمة لحل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، ورغم وجود تحفظات من جهات مختلفة على بعض بنودها وتوقعات بصعوبة تمريرها ولكن الأمور أخذت منحنى مختلفًا بعد الماراثون الذى بدأ من مدينة شرم الشيخ، وقد فاجأت العالم بعد إعلان موافقتها على المخطط بعد حصولها على ضمانات قدمتها واشنطن من ناحية، وكذلك الوسطاء الثلاثة لتبدأ مرحلة جديدة فى البحث عن ترتيبات المرحلة الأولى وتوسعت التحركات الدولية بعد الدعوة المهمة التى قدمها الرئيس عبد الفتاح السيسى للرئيس الأمريكى لزيارة مصر لحضور إجراءات التوقيع النهائى على المخطط وتطور التحرك المصرى باتجاه خلق مظلة دولية وإقليمية للاتفاق والمخطط الأمريكى. اقر أ أيضًا | الطريق إلى السابع من أكتوبر| مقدمات طوفان الأقصى كانت واضحة.. والطريق إليه كان مخططًا على مدى أكثر من عامين حبس ذوو القلوب المرهفة حول العالم أنفاسهم وجثمت الأحزان على الصدور مع صرخات الأهالى الواردة من غزة.. فقد عاش نحو مليونى شخص فى القطاع المنكوب كل أشكال التنكيل وتعرضوا لكل صنوف الإرهاب والوحشية.. وها قد سمعت تكبيراتهم وأصوات احتفالاتهم البريئة بنهاية ذلك الكابوس.. انتهى الكابوس بعد أن حصد من الشهداء والمفقودين تحت الأنقاض والمصابين ما يقرب من مائتى ألف شخص.. وترك ذكريات عالقة فى أذهان كل من عاش المأساة.. وصورًا لكل من تابعها على الهواء. ويرتقب فى هذه الأثناء استعدادات من الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى لتنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق والتى تقضى بانسحاب جيش الاحتلال من مناطق بعينها داخل القطاع مقابل الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس.. الأحياء منهم والأموات، وذلك بعد وقف لإطلاق النار ترقبه العالم أجمع. ورغم أن الوقت لا يزال مبكرًا على تقديم توقعات بتطور التفاوض للمراحل اللاحقة الخاصة باليوم التالى للحرب.. لكن ثمة ملاحظات يمكن تناولها فى هذا الشأن. أولًا: تستمد الضمانات بوقف الحرب وعدم تجددها القوة من رغبة الأطراف ومصالحهم باستمرار السلام وهى الضمانة الوحيدة واقعيًا لعدم تجدد الحرب. والسؤال هو لماذا جاء هذا الاتفاق الآن ولم يكن ممكنًا من قبل. توجد لكل من الأطراف أسباب لم تكن متحققة قبل الآن.. أولها إسرائيل التى أيقنت أنه لا مفر من وجود الفلسطينيين على أرضهم.. فمهما أوصلتهم لليأس وقضت على أسباب الحياة فى القطاع، فلا يوجد أى احتمال لطردهم من أرضهم. أما السبب الأهم والمباشر فى ذلك هو تصدى مصر وجيشها لذلك المخطط واستعدادنا جيشًا وشعبًا للدفاع عن بقاء الفلسطينيين فى أراضيهم وحق الأجيال القادمة فى الحياة بكرامة على أرضها. أما الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فقد أيقن أن استمرار الحرب ينال من سيرته بصفته داعمًا أصليًا للحرب ولإسرائيل، وأنه إذا لم يكن سهلًا عليه إنهاء حرب أوكرانيا، فثمة بعض السبل لإقناع إسرائيل والضغط عليها لإنهاء الحرب وهو ما تحقق بالفعل. ومع اشتعال موجات السخط والغضب داخل جبهة أنصاره المسماة «ماجا» بسبب الصور الواردة من غزة، فكان لزامًا عليه التحرك بقوة فى ذلك الملف.. فلا رفاهية له فى تجاهله بعد الآن.. ربما ما دفعه أيضًا للتحرك هو تشكل جبهة أوروبية داعمه للملف الفلسطينى تعكس رغبة واسعة بين الشعوب الغربية فى دعم الغزاويين المنكوبين. أما حماس، فلطالما أبدت استعدادها للإفراج عن الأسرى مقابل وقف الحرب، وهو كان مطلبًا أيضًا لإسرائيل، لكن ذلك لم يكن ممكنًا قبل الآن؛ إذ كانت تريد حماس أن تتم هذه الخطوة، ليس فى إطار مبادرة منها، ولكن فى إطار اتفاق ملزم لإسرائيل بعدم استئناف الحرب، وكذلك بإعادة إعمار القطاع والفلسطينيون على أرضهم. وفى حين أعلنت كل الأطراف انتصارها.. إلا أن الأمر مختلف هذه المرة فالمنتصر هو من تحققت له أهدافه من الحرب.. وبعيدًا عن تقدير الموقف الفلسطينى، لكن بالنسبة لإسرائيل، على الأقل، لا يمكن إخفاء هزيمتها.. فلم تستطع تحرير أسراها أو تهجير الفلسطينيبن والاستيلاء على أرضهم، وهى كانت الأهداف الغالية لشعب إسرائيل وحكومته.. لا يبدو منتصرًا فى هذه الحرب إلا الشهداء الناجون للسماء، وكذلك الفلسطينيون الذين بقوا على أرضهم مستبشرين بوعود وتعهدات دولية بإعادة الإعمار دون تهجيرهم. أما مصر، فقد خرجت من هذا الملف أكثر قوةً واحترامًا، بعدما أثبتت أن سياستها تنطلق من ثوابت وطنية لا تُشترى ولا تُباع. فقد كان صوتها الأعلى فى المفاوضات صوت الحق، وانحيازها الواضح للفلسطينيين دون مواربة، موقفًا يسجله التاريخ بمدادٍ من نور. ومن الطبيعى أن تخرج صيحات الفرح من غزة تمجد هذا الدور وتثمّنه، لأنه لم يكن دور وسيطٍ فحسب، بل دور الأخ الأكبر الذى لم يتخلّ عن إخوته ساعة المحنة. وربما يكتب التاريخ هذه اللحظة باعتبارها نقطة تحولٍ كبرى فى الوعى الجمعى العربي فبعد عقودٍ من الانكسار، عاد الإحساس بقدرة الأمة على حماية نفسها وصوغ مستقبلها بيدها. ربما يكون القادم اختبارًا جديدًا للضمير الإنساني، ولقدرتنا جميعًا على تحويل هذا السلام الهش إلى واقعٍ دائمٍ لا إلى استراحةٍ بين حربين.